يطرح مصطلح المجتمع المدني منذ القدم مجموعة من الاشكالات. حاول أهل الحل والعقد حلها نسبيا، مهتمين بالفعل مما جعلهم يتركوا تراكمات كثيرة. ومن أهم المفكرين في هذا المجال نذكر"جون إهرنبرغ" في كتابه "المجتمع المدني التاريخ النقدي للفكرة". ومن خلال قراءتنا الأولية لهذا المؤلف، يمكن اعتماد المقاربة التالية: أولا:المجتمع المدني الدلالة والتطور: المجتمع المدني نشاط تطوعي يعزز الديمقراطية. مدعوم بالتضامن والتعاون المتبادل. فهو فعل حر ديمقراطي يحد من التدخل المبالغ فيه للدولة.ومن أهم المبادئ المؤطرة للفعل المدني العقلانية . وقد كرس الفكر اليوناني هذا الطرح. إلا أن "شيشرون" نفخ في هذا التعريف الروح السياسية. عندما جعل العدالة في صميم عمل الشعب. إلا أن "أغسطين" المشبع بأفكار الكنيسة اعتبر بأن المسيحية هي الأساس لتنظيم المجتمع المدني. وبالتالي أصبح المجتمع المدني ذا استقلالية محدودة. رغم ذلك فالمجتمع المدني وفر للناس إمكانية تنظيم حياة مشتركة حسب تعبير"جون لوك".إذن فهو وسيلة ينتجها التعاقد وتضمنها السياسة لتحقيق غاية مقصودة. وقد استقى ماركس مفهوم المجتمع المدني من"هيكل" عندما تحدث على نظام الحاجات وهذا نقيض لمفهوم "الانطواء على الذات عند "كانط. انطلاقا من هذا التصور عندما قام الاتحاد السوفياتي رفع شعار إعادة تأهيل المجتمع المدني أي خلق قوة منافسة أو موازنة لسلطة الدولة. ولن يتم هذا إلا من خلال الاندماج والشرعية والتواصل، لا من خلال الهيمنة. وتجنبا لكل الاشكالات التي يمكن أن تطرح اعتبر "ساندل" بأن المجتمع المدني اكتسب مواقع جديدة للعمل والنشاط الديمقراطي في عالم ما بعد الحداثة المكتظ بالعديد من الولاءات والهويات والذوات. وإذا كان كبار مفكري الغرب يدعون إلى عدم التقليل من أهمية دور المجتمع المدني أمثال : "توكفيل، ومونتسكيو، وآخرون فإن آخرين يحذرون من قوى السوق المنفلتة والتي أصبحت تهدد الديمقراطية السياسية والمجتمع المدني. إذن لابد من اليقظة والحيطة. إن هذا التطور الذي عرفه المجتمع المدني في الغرب عرف احتكاكا مع الكنيسة عبر التاريخ. كيف ذلك؟ ثانيا المجتمع المدني ومنطق الكنيسة: انطلق البناء الكنسي للمجتمع المدني من نقد للإرث الإغريقي والروماني.تطور هذا مع "أغسطين". الذي يرى بأنه حيثما تكون العبادة اللائفة غائبة،فلا يمكن أن يكون بشر أو أمة أو مجتمع مدني. لأن الكنيسة هي التي تنشر الأمان مقابل الفوضى التي تبثها الشياطين والشعار "أحب ثم افعل ما شئت". إذن هل مجتمع الكنيسة عوض مدينة أرسطو؟ إذن لابد من عودة العلاقة بين الرب والإنسان بعدما غيبتها الخطيئة. وبالتالي فالكنيسة تنظيم كوني وحماية للمعرفة. ومن تم لا استقلالية للمجتمع المدني عن الكنيسة. هدفه حب الله وتحقيق الخلاص. لأن الكهنوت عنصر من عناصر هذا المجتمع. كل هذا لم يستطع أن يبني مجتمعا مدنيا قادرا على مواجهة التحديات . مما أدى إلى انقلاب حداثي. لذلك سعى "ميكيافيلي" إلى البحث عن الفضيلة والتوازن دون استحضار قوة سرمدية.وبذلك تقزم دور الكنيسة وأصبحت شريكا صغيرا للدولة. لكن "لوثر" أراد أن يصلح من داخل النظام الكنسي نفسه بنهج سياسة تدرجية لبناء مجتمع مدني متحرر من: ا/ أولوية السلطة الدينية على السلطة الروحية. ب/ احتكار البابا لتفسير الكتاب المقدس. ج/ السيادة البابوية على المجمع الكنسي. لكن "هوبز" سيقلب الكفة لصالح الدولة المهيمنة. معتبرا الجسم السياسي قد انتهى لصالح المهيمن الذي يتحمل مسؤولية أمنهم ووجودهم. وهذا شرط أساسي لسلم مدني محلي. وبذلك أصبح الأيمان بدوره خاضعا للأمير. من خلال هذه المعطيات هل يمكن الحديث عن جدلية الخاص والعام في هذا المجال؟ ثالثا: جدلية العام والخاص في بناء المجتمع المدني. إذا كان القانون يهدف إلى المصلحة العامة، فإن الناس مجبرون إلى استحضار هذه الروح وهم ينتظمون في جماعات المجتمع المدني. إن هذه الروح تساهم في تدعيم العدالة خاصة إذا استعمل العقل . كما أكد على ذلك "أرسطو". إذن كيف يمكن أن تتماهى المصالح الذاتية في مصالح الكل ماهي المعايير المجتمعية والرسمية الضامنة لهذا الاختيار تجنبا للفساد؟ إن ضعف المجتمع المدني مرتبط بضعف طاقته الاجتماعية. وقد يكون هذا المجتمع المدني ناصرا للديمقراطية أو العكس. خاصة في العلاقة مع الدولة. لذلك وجب الحذر لأن "هوبز" استغل عدم قدرة الناس على تحقيق السعادة نظرا لتداخل المنافع الذاتية واقترح التنازل للحاكم الذي سيوفرها للجميع في ظل السلم والأمن. نخلص مما سبق أن لكل جزء مخلوق مكانه المحدد في نظام شامل للأشياء بلغة الفلاسفة. لذلك يطرح سؤال جوهري ما العلاقة بين الدولة والمجتمع في توزيع التموقع والأدوار؟ رابعا: المجتمع المدني والدولة: إن الأصل في الأمور هو أن المجتمع المدني جاء ليحد من تدخلات الدولة، والتعاون معها. ومن خلال هذا المحور سنقارب العلاقة بينهما وتأثيرها على مسار الدولة والمجتمع. لقد ساد داخل المجتمع اليوناني أن السلطة السياسية جاءت لتحقق الرفاهية للمدينة ولا يمكن أن يعمل المجتمع المدني إلا في إطار منظومة الدولة. وهذا شبيه بنظرية "هوبز" الذي طلب من المجتمع المدني التنازل لصالح الحاكم لأنه سيوفر لهم السعادة. ومن خلال هذا الطرح فإن العمل السياسي هو الذي يصنع المجتمع المدني. هذا الأخير في حاجة إلى دولة قوية. واختلف "لوك" على هذا الطرح عندما أضفى الصفة الاجتماعية على السلطة التي يمارسها الإنسان طبيعيا. هذا ما دفع بالبعض إلى اعتبار الدولة ذاتها منبثقة من المجتمع المدني. فالمجتمع المدني هو كل شيء في الحكومة ألديمقراطية و لاشيء في الحكومات غير الديمقراطية. ويساهم في الوحدة. وبعد الثورة البلشفية "الاتحاد السوفييتي بدأت الدولة تستعمل المجتمع المدني. والكارثة الكبرى هو استبداد الحكم المطلق الذي يقوم حسب أرسطو على التعسف واللامسؤولية وانعدام الحدود.في هذه الحالة لا ننتظر إلا قيام مجتمع مدني مناهض للدولة. من خلال هذا الاحتكاك برز تصور جديد للمجتمع المدني مصبوغ بصفة دستورية ليبرالية طوعية وعفوية. وحاول "كرامشي"أن يعزز الإيديولوجية في العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني. واعتبر تقصير المجتمع أيام "لينين" راجع للتخلف. مركزا على أهمية المجتمع في التغيير. ومن أهم معالم الإيديولوجية التوليف بين الهيمنة والإقناع. إلا أن فقهاء المجتمع المدني حذروا من تسليع المجتمع المدني بناء على طغيان منطق السوق. إن الحديث على العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني يجرنا إلى مقاربة العلاقة بين السياسي والمدني. خامسا: بين السياسي والمدني: أعطيت أهمية كبرى للسياسي على حساب المدني. حتى قال"بريكليس" إن الإنسان الذي ليس له مصلحة في السياسة لاعمل له..لكن لايمكن تجاهل دور المجتمع المدني في إحياء الحياة العامة خاصة عندما يطغى صوت الدولة. بل إن الإنسان جزء من الكل السياسي. بلغة "أرسطو". لأن العمل السياسي يخدم الحياة كلها. وبذلك يصبح المجتمع المدني هو الحياة السياسية للمدينة. لذلك طالب "ميكيافيلي" بأن تتولى السلطة السياسية تنظيم المجتمع المدني خاصة أثناء التدهور. أما الرومان فاعتبروا أن كل شيء مرتبط بالسياسة. كل هذه الأفكار ساهمت في ولادة المجتمع المدني خاصة عندما تكون سهام الدولة مستفزة. إذن لا بد من تجاوب السياسي مع طلبات السلطة الاجتماعية. فرغم المسافة التي يتخذها المجتمع المدني فإنه يظل مساهما في القضايا السياسية ونشاط الدولة بمقاربة مدنية. إن تموقع المجتمع المدني في تدافعه مع السياسي يحتم علينا استحضار العلاقة بين المدني والديمقراطية. سادسا: علاقة المجتمع المدني بالديمقراطية: إن الديمقراطية ليست حكرا على السياسي وإنما هي منهج حياة. وهي سبيل من سبل فهم المجتمع المدني. إلا أ ن"هابرماس" يحذر المجتمع المدني من الطموحات الكلية . وأعتبر بأن ضبط سلطة الدولة من قبل المجتمع المدني مؤشر على الروح الديمقراطية. التي من أسسها الحرية والمساواة و التعدد و المشاركة... إن كل ماذكرناه يتطلب تريتا وتعقلا وحكمة لأن المراحل الانتقالية أكثر حساسية. إن الأبواب المسطرة أعلاه توحي بأن هناك علاقة وطيدة بين المجتمع المدني والمكون الثقافي. سابعا: المجتمع المدني والمكون الثقافي: في ظل الحياة الاجتماعية تبرز الفردانية التي شكلت اختيارا يعزز المجتمع المدني. والبرجوازية كمكون للمجتمع المدني حسب "آدم سميث". واعتبر آخرون بأن تسارع أزمة الشيوعية مهدت لثورة المجتمع المدني ضد الدولة خلال الثمانينات. فهو بديل للنزعة الشمولية الطائشة. لكن هذا لايعني الفصل بين الدولة والمجتمع إلى حد القطيعة. وقد لعبت الدساتير الديمقراطية دورا فعالا في توضيح العلاقة بين الدولة والمجتمع. ولا غرو أن الانتماءات المتشابكة وقواعد اللعبة ستحدث قلاقل للمجتمع المدني. كذلك تحويل الانشغالات الاجتماعية إلى اهتمامات سياسية ضيقة. إن الثقافة والأيديولوجية سبيلان لتعزيز مكانة المجتمع المدني. لكن هابرماس أضاف البعد العقلاني في تدبير الشأن المدني. ومرد هذه الثقافة راجع إلى البعد الفلسفي. ويتجلى هذا فيما يلي: - الحسابات الشخصية تؤدي حتما إلى الفساد المدني. - الانانية المدنية تنتج مجتمعا مدنيا مشلولا. - استحضار الأسئلة الوجودية والاجتماعية أثناء الفعل المدني. - البعد عن التضاد بين الدولة والمجتمع. واعتماد الرؤية التكاملية بين كل الاطراف. كل ما ذكر في هذا الموضوع يبقى دائما البعد الإنساني حاضرا في الأذهان وذلك من خلال مجموعة من المحطات." فروسو يؤكد على أن الإنسان يولد حرا وهو مقيد بالأغلال في كل مكان. فالطبيعة الإنسانية تتغير عندما ينتقل الإنسان من الفطرة إلى المدنية. وأصبحت الطوعية لصيقة بالعمل المدني. فالحريات السياسية مرتبطة بتأهيل المجتمع المدني وهذا الأخير رهين بوعي الإنسان. إذن فالنشاط الإنساني والمجتمع المدني سيان. والمشترك هو الروح التطوعية المدنية. والذي يوحد هو الخير الأسمى . والفكر والعقلانية. والمواطنة التي تحقق التشاور المتعقل والتشريع الحصيف، والطاعة الطوعية. نخلص مما سبق أن دراسة تاريخ وتطور المجتمع المدني أمر ضروري حتى تعم الفائدة. ولا يمكن فهمه إلا في إطار علاقات متداخلة.