ليموري رئيسًا لمجموعة "طنجة تطوان الحسيمة للتوزيع" والبوطاهري نائبا رابعا    قضية بنعيسى آيت الجيد: غرفة الجنايات الاستئنافية بفاس تؤجل محاكمة عبد العالي حامي الدين إلى 25 يناير المقبل    الاتحاد الإفريقي يعتمد الوساطة المغربية مرجعًا لحل الأزمة الليبية    برنامج الجولة الخامسة من دوري أبطال أوروبا    توقعات احول الطقس : غيوم وانخفاض درجة الحرارة بالشمال    توقيف سيدة وشخص آخر بشبهة ترويج المخدرات و"القرقوبي" بسلا    الكونفدرالية الديمقراطية للشغل تقرر التصعيد ردا على تنكر الحكومة ل"التزامات الحوار الاجتماعي"    صنصال يمثل أمام النيابة العامة بالجزائر    بورصة البيضاء تفتتح تداولات بالأخضر        الخطوط الملكية المغربية تستلم طائرتها العاشرة من طراز 'بوينغ 787-9 دريملاينر'    الجزائر.. محامي صنصال يعلن مثوله أمام وكيل الجمهورية اليوم الإثنين    العالم يخلد اليوم الأممي لمناهضة العنف ضد النساء 25 نونبر    جماعة أكادير تكرم موظفيها المحالين على التقاعد    أرملة محمد رحيم: وفاة زوجي طبيعية والبعض استغل الخبر من أجل "التريند"    منظمة الصحة: التعرض للضوضاء يصيب الإنسان بأمراض مزمنة    تدابير للتخلص من الرطوبة في السيارة خلال فصل الشتاء    لماذا تحرموننا من متعة الديربي؟!    النفط يستقر عند أعلى مستوى في أسبوعين بدعم من توترات جيوسياسية    قطاع التعليم العالي لحزب التقدم والاشتراكية يطالب الوزارة الوصية بالإسراع في أجرأة الاتفاقات    ياسمين بيضي.. باحثة مغربية على طريق التميز في العلوم الطبية الحيوية    نقابة: مشروع قانون الإضراب تضييق خطير على الحريات وتقييد للحقوق النقابية    تقرير: جرائم العنف الأسري تحصد امرأة كل عشر دقائق في العالم    تيزنيت: شبان يتحدون قساوة الطبيعة وسط جبال « تالوست» و الطريق غير المعبدة تخلق المعاناة للمشروع ( فيديو )    أسعار الذهب تقترب من أعلى مستوى في ثلاثة أسابيع    إيرادات فيلمي "ويكد" و"غلادييتور 2″ تفوق 270 مليون دولار في دور العرض العالمية    "الكاف" يقرر معاقبة مولودية الجزائر باللعب بدون جمهور لأربع مباريات على خلفية أحداث مباراتها ضد الاتحاد المنستيري التونسي        6 قتلى في هجوم مسلح على حانة في المكسيك    مدرب مانشيستر يونايتد يشيد بأداء نصير مزراوي بعد التعادل أمام إيبسويتش تاون    استيراد الأبقار والأغنام في المغرب يتجاوز 1.5 مليون رأس خلال عامين    أونسا يوضح إجراءات استيراد الأبقار والأغنام    مهرجان الزربية الواوزكيتية يختتم دورته السابعة بتوافد قياسي بلغ 60 ألف زائر        تقرير : على دول إفريقيا أن تعزز أمنها السيبراني لصد التحكم الخارجي    تصريحات حول حكيم زياش تضع محللة هولندية في مرمى الانتقادات والتهديدات    رياض مزور يترأس المجلس الإقليمي لحزب الاستقلال بالعرائش    الاشتراكي الموحد يرحب بقرار اعتقال نتنياهو ويصفه ب"المنصف لدماء الشهداء"    تحالف دول الساحل يقرر توحيد جواز السفر والهوية..        الإمارات تلقي القبض على 3 مشتبه بهم في مقتل "حاخام" إسرائيلي    بسبب ضوضاء الأطفال .. مسنة بيضاء تقتل جارتها السوداء في فلوريدا    انطلاق حظر في المالديف يمنع دخول السجائر الإلكترونية مع السياح    جدعون ليفي: نتنياهو وغالانت يمثلان أمام محاكمة الشعوب لأن العالم رأى مافعلوه في غزة ولم يكن بإمكانه الصمت    استقرار الدرهم أمام الأورو وتراجعه أمام الدولار مع تعزيز الاحتياطيات وضخ السيولة    تنوع الألوان الموسيقية يزين ختام مهرجان "فيزا فور ميوزيك" بالرباط    الصحة العالمية: جدري القردة لا يزال يمثل حالة طوارئ صحية عامة    فعاليات الملتقى العربي الثاني للتنمية السياحية    الدكتور محمد نوفل عامر يحصل على الدكتوراه في القانون بميزة مشرف جدا        ⁠الفنان المغربي عادل شهير يطرح فيديو كليب "ياللوبانة"    أفاية ينتقد "تسطيح النقاش العمومي" وضعف "النقد الجدّي" بالمغرب    كندا تؤكد رصد أول إصابة بالسلالة الفرعية 1 من جدري القردة    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عودة إلى الفكر الدستوري لمانديلسون - الدولة والدين والفرد المدني -
نشر في العلم يوم 08 - 04 - 2011

سبق لهذا الركن أن خصص في خريف 2010 أربع حلقات لآراء فكر موسى مانديلسون حول مسائل الدين والدولة. هذا الفكر الذي طور من خلاله مانديلسون الفكر اليهودي في فترة نهضة الهاسكالا اليهودية في إطار حركة فكر الأنوار بأوروبا، والذي نوه به "إيمانويل كانط" أيّما تنويه، واعتبره إنجازا لصالح سائر الأمم، راجيا حينئذ أن يحذو الفكر المسيحي حذوه لفكّ ربط خلاص الإنسان (Human felecity) بالإيمان بمَرِوياتٍ اتخذت مع الزمن لَبوسَ الواقعية التاريخية؛ كما نوه به "الكونت ميرابو" (Comte de Mirabeau) بحماس، واعتبره صادرا عن نفس روح فلسفة الفكر الحر لأمثال "جاك تورجو" (Jaques Turgot) التي تشبّعتْ بها ديباجةُ دستور فيرجينيا بالولايات المتحدة الناشئة حينئذ.
وإذ طرحت اليوم المسألة الدستورية في المغرب من جديد فانطلق النقاش حول الصلاحيات بصفة عامة، وإذ أصدرت على الخصوص هيئة دينية هي "المجلس العلمي الأعلى" بيانا بالمناسبة يشير إلى ما تعتبره هيئة الفقهاء مسؤولياتها عن "الصلاح العقدي" لنفسها ولغيرها من الأفراد والجماعات وربما المؤسسات، باعتبار تلك الهيئة مؤسسة من مؤسسات الدولة، مما جعل الجريدة الناطقة باسم هيئة سياسية مدنية، "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية"، ترد بقوة على ما اعتبرته في ذلك البيان تلبيسا وتدخيلا، من حيث الجوهر والشكل، في ما يتعلق بمفاهيم وهيكلة مصادر السلط والمؤسسات الدستورية (المؤسسة الملكية، البرلمان، الجهاز التنفيذي، القضاء)، يحسن أن نذكر هنا من جديد ببعض آراء ذلك الفيلسوف، المتفقه في الملة اليهودية، وذلك على سبيل الاستئناس الذي لا يخلو من فائدة.
فكتاب "أورشليم" لمانديلسون يشكّل - مع اعتبار فارق الإطار الفكري التاريخي طبعا - نظيرا لكتاب "فصل المقال" لابن رشد. وقد نوه به الفيلسوف "إيمانويل كانط" أيّما تنويه، واعتبره إنجازا لصالح سائر الأمم، راجيا أن يحذو الفكر المسيحي حذو مانديلسون لفكّ ربط خلاص الإنسان (Human felecity) بالإيمان بمَرِوياتٍ اتخذت لَبوسَ الواقعية التاريخية؛ كما نوه به "الكونت ميرابو" (Comte de Mirabeau) بحماس، واعتبره صادرا عن نفس روح الفلسفة الليبرالية لأمثال "جاك تورجو" (Jaques Turgot) التي تشبّعتْ بها ديباجةُ دستور فيرجينيا بالولايات المتحدة الناشئة حينئذ. وإذْ كان فكر عصر الأنوار بموضوعاته وبمضامينه، يشكل الإفضاءَ النهائي ل"لإصلاح الديني" الذي دشنته الثورة الدينية البروتيستانتية في أوروبا على مؤسَّسة الكنيسة بامتداداتها المختلفة داخل مؤسسة الدولة حينئذ، فإن أهم القضايا التي تناولها كتاب "أورشليم" هي قضايا العلاقة بين الدين والدولة، وعلاقة الدين في أوجهه المُمأسسة والمهيكلة (الكنيسة، مؤسسات رجال الدين بصفة عامة) بوضعية الفرد المدني داخل المجتمع (حرية الضمير، حرية التفكير، حرية التعبير، تكفير، الخ.)، وكل ما يتفرع عن ذلك من مسائل. ففي العلاقة ما بين الهيئات الدينية ومؤسسة الدولة بصفة عامة، يقول مانديلسون في كتابه ما يلي (نترجم عن الصيغة الانجليزية: Brendeis 1986):
- الدين والدولة وتدبير سلط الحكم:"ما القول في الدولة والدين، أو بعبارة أدق: المؤسسة المدنية والمؤسسة الدينية، أو السلطة الزمنية والسلطة الدينية - كيف يمكن وضع هذين الركنين من أركان الحياة الاجتماعية في تقابل متوازن، بدلَ أن يصبحا عبئا على الحياة الاجتماعية بشكل يقوّض أسسها عِوضَ العمل على تدعيم تلك الأسس؟ إن حلَّ هذه المسألة من أعصى مهام النظرية السياسية. لقد عانى الإنسان كثيرا عبر القرون في سبيل إيجاد حل لهذا الإشكال؛ وربما حالفه أحيانا نجاحٌ نسبي هنا أو هناك في إرساء توازن ظرفي للمعادلة على مستوى الممارسة، أكثر من إيجاد حلٍّ لإشكالها على المستوى النظري. فالبعض يذهب مثلا [على المستوى النظري] إلى أنه من الأنسب تفكيك العلاقات المختلفة للإنسان في المجتمع، وتصنيفُها إلى ماهيات معنوية، ثم إسناد [ما يشبه] "إيالات" أو فضاءات [اجتماعية] خاصة، وحقوقٍ، وواجباتٍ، وسُلطٍ، وصلاحياتٍ خاصة منها إلى كلّ من الطرفين [على سبيل الصلاحية والاختصاص]. إلا أن أحيازَ وتخوم هذه الإيالات المختلفة، ورسمَ الحدود الفاصلة بينها أمورٌ لم يتم لحد الآن تحديدها بشكل واضح. فتارة نجد بأن الكنيسة تُزحزح أحجارَ الحدود بعيدا في العمق الترابي للدولة؛ وطَوراً تسمح الدولة لنفسها بتعدّيات حدودية إذا ما نظرنا إليها بعين ما هو متعارف عليه، تبدو من نفس الدرجة امن الشطط. ولقد انجرّت لحد الآن، وستنجر لاحقا، ويلاتٌ لا حصر لها عددا وحجما عن الخلافات ما بين كياني الدين والدولة [بشأن تلك الحدود]. فإذا ما انتهيا يوما إلى الصدام فيما بينهما، فإن البشرية هي ضحية خلافاتهما؛ أما إذا ما دخلا في وفاق، فإن أنبل كنز من كنوز الخلاص الإنساني يكون قد ضاع؛ ذلك لأنه نادرا ما يتفق هذان الكيانان على غاية أخرى غير نفْي ماهيةٍ معنوية أخرى من حظيرة مملكتهما، ألا وهي مزية حرية الضمير، هذه الفضيلة التي تعرف بالضبط كيف تستخرج بعضَ المزايا للناس من انفصالهما"
وفي ما يتعلق بآليات ممارسة الحكم وتدبير توازناته يقول مانديلسون:
"ولعل هذا ما يؤهلنا لمحاولة لإجابة، بشكل مُرضٍ، عن السؤال المعروف جيدا ألا وهو: ما هو أفضل نظام للحكم؟ إنه سؤال صِيغت بشأنه لحدّ الآن إجاباتٌ عديدة متناقضة، تحوز جميعا مظهرَ الحقيقة. إنه، في الواقع، سؤال فضفاض، يضاهي في عموميته سؤالا في الطب، من قبيل: ما هو أنفع غذاء للصحة؟. فكل مظهر من مظاهر التعقيد والتنوع، حسب المناخ، والسن، والنوع، وأنماط الحياة، الخ. يتطلب جوابا مختلفا خاصا [عن هذا السؤال الأخير]. ونظيرُ ذلك ينطبق أيضا على سؤالنا في فلسفة السياسة. فبالنسبة لكل شعب، في أيّ مستوى من مستويات التهذيب الثقافي التي يجد فيه نفسَه، يكون شكلٌ مختلفٌ من أشكال الحكم هو الأحسن [له]. فبعضُ الشعوب الخاضعة لحكم الاستبداد قد تجدُ نفسَها في أقصى درجات الشقاء إذا ما تُركت لتَحكُم نفسها بنفسها، هي من نفس درجة الشقاء التي سيكون عليها مثلا بعضُ الجمهوريين ممن تشبع وعيهم بروح الحرية واستوعبوا مفهومها إذا ما تم إخضاعهم لسلطة حكم مطلق. فالحقيقةُ هي أن كثيرا من الأمم ستُدخِل من التغييرات على نظُم حُكمها عبرَ تطورها بقدر ما يحصل في ثقافاتها وأنماط حياتها وقناعاتها من تطور، وستمُرّ عبر القرون من كل أطوار صِيَغ الحُكم بكل ظلالها وتداخلاتها، من الفوضوية إلى الاستبداد. وخلال ذلك ستجد نفسها في كل فترة استقرار وقد اختارت أحسنَ صيغة للحكم تتلاءم وظروفَها القائمة. ومع كل ذلك، فمهما كانت الظروف الخاصة، أجد بأن المعيار القارّ الذي لا يُخطئ في قياس درجة الصلاح والإحسان في أي صيغة معينة من صيغ الحكم، يتمثل في درجة اعتماد النظام المعين، في سعيه لتحقيق غايات الحكم، على الأخلاق والإقناع التربوي، أي مدى قيام الحُكم على أسس التربية نفسها. وبعبارة أخرى، يتعلق الأمر بمدى تمكُّن المواطنِ، في ظل الحُكم المعين، من فُرصة فهمٍ حيّ ومتوقدٍ لضرورة تخليه عن بعض الحقوق وذلك لمجرد فائدة الصالح العام، ومدى فهمه لضرورة تضحيته ببعض الامتيازات لمجرد غاية الإحسان الجمعي، ومدى اقتناعه بأنه، في نهاية الأمر، يستفيد، من جهةٍ، من إجماليّ الصلاح والإحسان الجمعيين، بمقدار ما يفقده عن طريق التضحية الفردية (...) من جهة ثانية.
ولذلك فليس جديرا بالدولة أن تنتصب كهيئة ضميرية مفعِّلة وضامنة لكل الواجبات الأخلاقية للفرد، محوِّلةً هذه الواجبات الفردية جميعا إلى صلاحيات حقّ عامّ [تضبطه الجزاءات المدنية]. فالإنسان إنما يشعر بقيمته الخاصة حينما يقوم بفعل كثير من أوجه الصلاح (...) انطلاقا من إرادته؛ أما عندما يفعل أي وجه من أوجه الصلاح العام لمجرد أنه مجبَرٌ على ذلك، فإنما يشعر بما يشكله حصولُ ذلك الصلاحُ حينئذ من إكراه خارجي."
وتنسحب هذه الأخلاقية عند مانديلسون حتى على جوهر الدين في حد ذاته، فهو يهوّن من قيمة التدين القائم على مجرد أسس الرغبة والرهبة والخوف والاتقاء ولو سمي بالتقوى (????? ?????)، إذا ما قيس ذلك بتدين الورَع. فهو يضيف قائلا:
وبناء على هذا، فإن واحدا من أهم جهود الدولة هو العمل على أن تمارسَ الحكمَ في الناس من خلال [التربية على] القيم الأخلاقية؛ والحال أن ليس هناك من سبيل للرقي بالمعتقدات، وبالتالي، لتحسين القيم الأخلاقية، غير سبيل الإقناع بالموعظة. فالقوانين والتشريعات لا تغير المعتقدات؛ والعقاب والتواب التحكّميان لا يولّدان مبادئ، ولا يهذبان أي أخلاق. فالرهبة والرغبة ليستا مقياسا لحقيقةِ الحالةِ الأخلاقية لطوّية الإنسان. وحْدَها المعرفةُ وإعمالُ النظر والإقناع يمكن أن تؤسس المبادئ، التي من شأنها - في تكامل مع دور السلطة ونماذج مُثُل الاقتداء - أن تتحول إلى قيم أخلاقية. وهنا بالضبط، يأتي دور المؤسسات الدينية المهيكَلة، في التعاون مع الدولة؛ وبذلك تكون الكنيسة عُمدة أساسية من عُمَد إسعاد المدينة. فمن المهام الأساسية للكنيسة إقناعُ الناس، بأعمقِ ما يمكن، بحقيقية المبادئ والمعتقدات النبيلة، فتبيّن لهم بأن الواجبات تجاه الإنسان هي في نفس الوقت واجبات نحو الله، وبأن الإخلال بها في حد ذاتها هو صميم الشقاء - إذ إنه لا يتقي الله من لا يوقّر ويُكرّم الإنسان - وبأن خدمة الدولة هي عبادة حقيقية لله الذي يُعتبر الخيرُ، وفعلُ الخير، أقدسَ أوجه إرادته، وبأن المعرفة الحقيقية بالخالق لا يمكن أن تتعايش في النفس مع أي وجه من أوجه البُغض والكراهية. إن غرس كل هذه القيم الأخلاقية لمهمةُ الكنيسة وواجبها، ومن صلاحيتها؛ وإن تلقين تلك القيم للناس لمهمةُ وواجبُ دعاتها)).
أما "التشبع بروح الحرية" الذي أشار إليه النص في حديثه عن اختلاف الاستعدادات التاريخية للأمم في ما يتعلق بأنظمة الحكم الملائمة، فإن مانديلسون يستعمله بالمفهوم الحقيقي ل"التشبع"، أي الحالة التي تصبح فيها قيمُ مفهوم الحرية المستوعَب جيدا مقوّما من مقومات الوعي، وليس مجردَ شعار لفظي سياسي يُستعمل في لحظات ضعفِ دولةِ الاستبداد أو الحكم المطلق، حيث تُخاض باسم ذلك الشعار، وباسم كثير من ألفاظ المبادئ الأخرى، حربٌ تتنازع من خلالها، في الواقع وفي الحقيقة، نزوعاتُ الاستبداد المتمكنة في العمق من سائر الفرقاء، الذين يجرؤ كل فريق منهم في مثل تلك الأحوال على الحاكم المستبد بِنيّة الحلولِ مكانَه. وفي هذا الصدد يرد مانديلسون على نظرية هوبز في فلسفة الحكم باعتبارها صادرة عن مجرد ظرفية معينة عايشها هوبز، وليس عن تصور عقلي لمبادئ الحق الطبيعي:
"لقد عاش توامس هوبز (Thomas Hobbes) في فترة كان فيها التعصب المقرون بمفهوم مشوَّه للحرية لم يعد يعرف حدودا، وكان فيها ذلك التعصب مستعدا ليعرك السلطة الملَكية تحت الأقدام، وليقوّضَ مؤسسةَ المُلك برمتها. وإذ كان هوبز قد سئم من استشراء الفتنه المدنية - وهو الميّال بطبعه [كمفكر] إلى حياة تأملية هادئة - فقد اعتبر الهناء والسلامة [المدنيين] أعظم أوجه الخلاص والسعادة [في المدينة]، بقطع النظر عن كيفية حصولهما. وهو يرى أن هتين المزيتين لا يضمنهما إلا وحدةُ غير منقوصةٍ لأعْلى سلطةٍ في الدولة [أي سلطة الحاكم]. فهو يعتقد إذن بأن رفاه وسعادة الحياة العامة لن يكونا إلا أحسنَ حالا وأكثر ضمانا حينما يصبح كل شيء - بما في ذلك أحكامُنا [الفكرية] حول الصواب والخطإ - خاضعا للقوة العليا للسلطة المدبرة للشأن العام في المدينة. ولإضفاء المشروعية على ذلك، يفترِض هوبز أن الطبيعة قد جعلت الإنسانَ مؤهلا لكل ما حبَتْه تلك الطبيعةُ القدرةَ على القيام به أو الحصول عليه. فحالُ الإنسان باستعداداته الطبيعية تلك هي حالُ قلاقلَ وحروبِ الجميع ضد الجميع، حيث يمكن لكل واحد أن يفعل ما له القدرةُ على فِعله. وقد استمرت [حسب هوبز] هذه الوضعيةُ غير السعيدة إلى أن تواضعَ الناسُ على وضع حد لشقائهم بالتنازل عن الحق والقدرة [الفرديين] كلما تعلق الأمر بسلامة الحياة العامة، وبوضْعِ كِلا تينك الملَكتين في يد السلطة المؤسَّسة القائمة؛ وبناء على ذلك، يصبح كل ما تأمر به السلطة هو الحقّ والصواب".
-الفرد المدني والدين والدولة:تناول موسى مانديلسون مسألة مواطنةِ الفرد المدني واستقلاليةِ ضميره، في علاقة هذين الحقين بصلاحيات مؤسَّستي فضائي المدينة والدين، أي الدولة والكنيسة. ويرى مانديلسون في باب الصلاح العقدي والخلاص الروحي للفرد والجماعة بأنه لا وجهَ من أوجه سلطةِ إكراهِ الضميرِ بِمُمكنٍ أن يتفرّع عن مبادئ الحق الطبيعي. ثم زاد فألحّ على أن فكرة "سلطة الدين" فكرةٌ عبثية أصلا ومتناقضة داخليا. إذ أنها تنسف الطبيعة الحقيقية للدين في اعتقاده؛ فقال:
أن الدين الإلهي الحق لا يخوِّل لنفسه أيّ سلطة على آراء وأحكام الفرد (...). فهو لا يَستعمِل لإثبات مصداقيته إلا قوةَ الإقناع والقدرة على إلهام الإنسانِ بالتي هي أحسن، قصد لترسيخه في سبيل الفلاح. الدين الإلهي الحق لا يحتاج لا إلى أسلحة، ولا إلى أظافر ليستكثر بها المؤمنين. فجوهرُه عقلٌ وبصيرة في جُماعهما. وليس للمخالف في الدين أن يُمنَع من المشاركة في الصلوات. فبيوت الله، التي هي بيوتٌ لتأمل ذوي الألباب ولتفعيل ضمائرهم، لا تحتاج إلى أبواب موصدة بالأقفال. فليس بها شيءٌ للحفاظ عليه داخلها، وليس لها أن تمنع أحدا من دخولها. إن الحِرْمَ (???) والتكفيرَ والطردَ هو عين نقيض روح الدين. ".
فإذا كانت مؤسسة الدولة تحكم وتمارس القهر المحسوس في الفضاء المدني لغايات مدينة بمقتضى نظامِ حُكمٍ معيّن، فإن دور الدين كمؤسسة جمعية هو مخاطبة الضمائر والبصائر لإقناعها بالتي هي أحسن، وليس بالتدخل الجزائي في الأوضاع المدنية للأفراد. وفي هذا الباب، المتعلق بالإيمان باعتباره حالة من حالات الضمير والبصيرة، وليس مجردَ انضباط جمعي شكلي، يناهض مانديلسون كافة أوجه القَسَم والأيمان اللفظية العلنية والشهادات التصريحية الصورية مما تمّ توقيفُ صِيَغه، في إطار أدبيات الفقهيات الرِّبية واعتُمِد كمُستنَدات سيميولوجية خارج ما تخفي الصدور لإثبات إيمان الفرد، هذا الإثبات الذي ينطوي بالقوة في جوهره على أُسُس ممارسات التفتيش (Inquisition) التي يعرفها التاريخ من حين لآخر. وفي ذلك يقول في شأن الصحف الأولى:
"فاليهودية الأولى لم تكن تعرف لا كُتُبا رمزية ولا "أركانا" صورية للعقيدة. فلم يكن على أي أحد أن يُقسم بالأيمان على مصحف أو رمز، ولا أن يعلن بشهادة القَسَم إيمانَه بركن معين من الأركان؛ ولذلك، وانسجاما مع روح اليهودية الحق، يتعين علينا اعتبار تلك الأمور غير سائغة".
وإيمانا من مانديلسون بأن الاختلاف، وليس المماثلة، هو أساس ناموس الطبيعة، الذي به يقوم الصلاح الكوني، وإيمانا منه بأن ما كان يبشر به البعضُ من إمكانية توحّد الديانات في فهم مشترك للعقائديات عبر مجهودٍ حواري، أمرٌ متعذر عمليا ومن حيث الطبيعة، زيادة على كون ذلك التبشير ينمّ، في مُضمَر دوافع تصوّره وصياغته، عن خرق ضمني سافر لمبدإ التسامح المدني وحق الاختلاف ومزيته في الصلاح، وذلك من حيث ربط ذلك التصور لإحقاق حقِّ المقبولية المدنية للأفراد والجماعات في المدينة بما يسمى ب"وحدة العقيدة"، فقد نفى كذلك مانديلسون، أيّ حق إكراهي للدولة في ما يتعلق بشؤون حالة دائرة الوعي والضمير مما تخفي الصدور. فهو يؤكد بأن لا تشريعَ وضعياً بمخوَّل حقَّ إكراهٍ لا يوفِّر له القانونُ الطبيعي أي أساس؛ وبأنْ ليس للدولة، بناءً على ذلك، أن تقيم تمييزا بين متّبِعي مختلف العقائد، فتجعلَ وضعيتهم المدنية متوقفةً على الانتماء المنضبط إلى مِلة معينة؛ وفي ذلك يقول:
"فلا "رأي" من الآراء بحائز في النظر العقلي مزيةَ اعتمَادِه كمؤهِّل لامتيازاتٍ مدنية، أو كمبرِّر لأي حرمانٍ مدني. فالإلحاحُ على ما يسمى بوحدة العقيدة، واعتبار ذلك شرطا من شروط تخويل المواطنة في المدينة خرقٌ سافر لحق الاختلاف ولمبدإ التسامح. إنه يفصح عن تقهقر نحو عصور الهمجية، وهو تهديد لحرية الوعي والضمير لا يكاد يخفى".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.