حزب العدالة والتنمية والوضع الجديد: في الحاجة إلى منظومة لتدبير المخاطر يقدم الوضع الجديد الذي يعيشه حزب العدالة والتنمية منذ نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة أكثر من درس ودلالة بشأن خصائص ومآلات بعض التنظيمات السياسية وما تعرفه مسيرتها من تبدل في المواقع واختلاف كبير في التحديات وتعديل في مواقع وتفاعل الحلفاء كما الخصوم السياسيين بتبدل وضع التنظيم. لذلك، فإن هذه الوقفة الموجزة التي تروم إلقاء الضوء على جانب من التحديات الكبرى التي يفرضها الوضع الجديد للحزب، نسعى من خلالها إلى تحليل المفردات الأساسية لهذا الوضع واقتراح مقاربة نراها ضرورية للتعامل مع التحديات الكثيرة والمتنوعة الناجمة عن الوضع الجديد للحزب. وباستقراء خصائص الدينامية الداخلية للحزب وما يطبع اليوم اهتمام مناضليه وهيئاته المركزية والمجالية، يبدو حجم الفروق بين ما كان عليه الحال في المرحلة السابقة وما هو عليه اليوم بشكل لا تخطئه العين. فما كان مهيمنا من قضايا وإشكالات وهموم خلال المرحلة السابقة قبيل المؤتمر الوطني السادس وبعده توارى عن ساحات النقاش وولى إلى وضع مؤجل، فيما هيمنت قضايا من صنف آخر ومن حجم مختلف ومن مصادر جديدة. في مرحلة المؤتمر الوطني السادس، وبعد خيبة الأمل التي أصابت مناضلي الحزب وقياداته من أجواء ونتائج الانتخابات التشريعية لسنة 2007، نلاحظ أن القضايا التي هيمنت بشكل بارز كانت ذات طابع داخلي محض ترتبط أساسا باختيارات الحزب ورؤيته وأولوياته في الإصلاح والتغيير حيث هيمن النقاش حول مداخل الإصلاح ومقارباته. في تلك الأجواء المحكومة بنتائج الاستحقاقات المذكورة وبعوامل التضييق التي استمرت مظاهرها بأدوات متنوعة هيمن النقاش الداخلي بين خيارات متعددة في تصور مفاتح الإصلاح تدور عموما حول محاور أربعة أساسية: الهوية والمرجعية – التدبير والعصرنة – محاربة الفساد – الإصلاح الدستوري. وقد كانت نتائج محطة 2007 عاملا منشطا ومذْكيا لحالة من النقاش الداخلي، إلى أن تمت مأسسته بعدها من خلال لجنة الحوار الداخلي . واليوم والحزب يعقد مؤتمره السابع ، من موقع جديد وبتحديات جديدة تماما، توارت قضايا الرؤى الداخلية ليتحول النقاش الداخلي من قضايا يصنعها التنظيم والمحيط الذي يشتغل فيه إلى قضايا خارجية مرتبطة بالوضع الجديد للحزب من موقع التدبير الحكومي. فانتقلت ضروب النقاش والاختلاف والتجاذب الداخلي من التدافع بين أفكار وخيارات من قبيل التركيز على مقومات الهوية أو خطاب التدبير أو غير ذلك، إلى قضايا آنية تصنع في ماكينة الأداء الحكومي وتخضع لتقديرات مختلفة بين قيادات الحزب وفي صفوف مناضليه. وأصبحت ساحات الحوار الداخلي – غير المهيكل بالطبع- صورة من بين صور متعددة للنقاش العمومي - الخارجي - حول قضايا أبطالها أعضاء الحكومة من الحزب. حينها أصبحت - مثلا - وثيقة أنجزت في مكاتب وزارة الاتصال مثل دفاتر التحملات الخاصة بقنوات القطب العمومي أو قرارات تعيين عدد من العمال والولاة قيل إنها اقترحت في دواليب وزارة الداخلية، أو مثيلاتها من القضايا الناشئة تبعا للوضع الجديد للحزب - أصبحت - هي القضايا التي تكتسح مساحات السجال الداخلي، ولا تمر فرصة للتواصل أو التداول مع قيادة الحزب والأمين العام بشكل خاص إلا وخضع الأمر لسجال متشعب وطويل. إن انزياح النقاش السياسي الداخلي للحزب بما هو مؤشر دال على بوصلة التنظيم ومدى انقياده في اتجاه الأهداف الاستراتيجية وأولويات المرحلة المسطرة في البرامج والمخططات نحو "قضايا الحكومة" وانحصاره في نوازل تدبير الشأن العام، يعد بمدلول علم التدبير بمثابة تهديد أو خطر يترصد مسار الحزب ويمكن أن يعيق تصويب عمله نحو الأولويات والمحاور الاستراتيجية التي خطط مسبقا لجعلها مدار نشاطاته. والخطر أو التهديد في مدلول علوم التدبير وأخصائيي إدارة المخاطر الأنجلوساكسونيين (Risk Management) هو، بشكل مبسط، ذلك العامل أو الواقعة المحتملة، والتي يؤدي حدوثها إلى إعاقة تحقيق المنظمة لأهدافها. ولا يجب أن يفهم من حديثنا عن شدة عناية التنظيم بقضايا التدبير الحكومي أنها عنصر سلبي، بل إن هذا المجال يعد أحد مجالات العمل الاستراتيجية التي حددها الحزب في مخططه الاستراتيجي، ولكن مناط الحديث هنا هو استئساد هذا المجال وطغيانه الكاسح على حساب مجالات العمل الأساسية الأخرى التي تعد دعامة للمحور المذكور مثل التنظيم الحزبي والتكوين والتأطير والإنتاج السياسي. وفي تحليل وضع الحزب الجديد وبيان الحاجة إلى مقاربة لتدبير المخاطر، فقد اخترنا التركيز على هذا الأمر اعتبارا لكونه يعد واحدا من العناصر التي يمكن أن تصنف في خانة "المخاطر الاستراتيجية" الناتجة أساسا عن وضع حزب انتقل رأسا، فيما يشبه الطفرة، من الحزب المعارض والمحاصر والمضيق عليه إلى الحزب القائد للجهاز التنفيذي للدولة. إن هذه الصورة لوحدها كافية بأن تمنحنا القدر الكافي من الدلائل على أن ثمة حاجة ملحة وعاجلة إلى إرساء نظام لتدبير المخاطر. وليست "التماسيح" و"العفاريت" التي تحدث عنها رئيس الحكومة مرارا حتى استحالت كائنات أليفة في معجمنا السياسي اليوم - ليست - هي وحدها من تشكل خطرا قد يعيق تحقيق استراتيجية وبرنامج الحزب في تدبير الشأن العام الوطني. فهذا الخطر الخارجي الهام الذي يومئ إلى أرباب النفوذ والمصالح الخاصة وجماعات الضغط الخفية والظاهرة، يحتل حتما موقعا كبيرا في خريطة المخاطر الخارجية ويلزم تدبيره بقدر استثنائي من العناية والتدقيق. ومع ذلك، فإن عناصر الخلل الداخلية التي يمكن أن تنتعش على وقع الوضع الجديد للحزب تستلزم إنشاء خريطة للمخاطر (cartographie des risques) تمكن من تدبيرها ومعالجتها وفقا لمنهجية صارمة وفعالة. ذلك أن نظام تدبير المخاطر يخضع لعدة خطوات تبتدئ بدراسة السياق العام ثم تحديد وتعيين المخاطر وبعدها تحليلها وتقييمها فمعالجتها . وبما أن المخاطر في مجال المنظمات عموما وفي الحقل السياسي بشكل خاص تتميز بالتغير المستمر فإن التنظيم في حاجة إلى آلية للرصد والمراجعة المستمرين لاتخاذ الخطوات اللازمة في الوقت المناسب إزاء أي تطور في حجم أو نوعية تلك المخاطر. إن ما سبق ذكره لا يعني أن أجهزة الحزب لم تتجاوب فعلا مع تبدل المعطيات والواقع، بل إن حزب العدالة والتنمية كحزب حقيقي يتمتع بقدر معتبر من الحيوية في ديناميته الداخلية تفاعلت أجهزته التنفيذية والتشريعية مع هذا الأمر . وفي هذا السياق جاء مشروع تعديل النظام الأساسي للحزب وتم تقديم مشروع أطروحة جديدة للمؤتمر الوطني السابع تأخذ بعين الاعتبار مقتضيات ومستلزمات المرحلة الحالية . وهذه تعد مبادرات تتجه نحو مواكبة المقتضيات التنظيمية والسياسية للحزب مع حاجات الوضع الجديد؛ إلا أنها لا يمكن أن تكون بديلا عن آلية مركزية للرصد المؤسساتي لمواجهة كل المعيقات الصارفة عن تحقيق الأهداف المسطرة وضمان تحصين معتبر لمستقبل الحزب ضد العناصر الداخلية والخارجية المتنوعة والكثيرة التي تتربص به. فتسطير مقتضى تنظيمي داخل النظام الأساسي قد يغذي حاجات معينة للأداة الحزبية، إلا أنه لن يكون محصنا للتنظيم من تدخل العناصر الخارجية والداخلية وتحايلها على النصوص لإعاقة السير الطبيعي نحو الأهداف المسطرة. ثم إن التجارب السابقة لأحزاب نعرف جميعا ما آل إليه وضعها بعد مدة من توليها زمام التدبير الحكومي - ومنها نماذج نعاين للأسف تفاعل أزماتها الداخلية اليوم - تمنحنا قدرا وافرا من الدروس والخلاصات إزاء مآل التنظيمات التي تفتقد لنظام مؤسساتي وفعال يستطيع تشخيص المخاطر قبل حدوثها واستفحالها، وبالتالي فإنه يؤدي الثمن باهظا أحيانا لقاء ذلك. فمن الأوهام التي يسقط فيها البعض - ونحن في حزب العدالة والتنمية لسنا منزهين عن ذلك - هو الاعتقاد بأن حشد الجهود كلها من أجل الظفر بأكبر عدد من المقاعد في الاستحقاقات الانتخابية هو المؤشر الوحيد على نجاح الحزب وتحقيق أهدافه، وحينها لا يلتفت أصحاب هذا الوهم إلى المخاطر الداخلية بشكل خاص عندما يفتقدون لآليات حقيقية تمكنهم من الانتباه إلى بعض "التماسيح" و"العفاريت" من الداخل التي تتحول إلى معول ضخم قد يهد أركان التنظيم بعد سنوات من البناء. وفي هذا الصدد، يجدر التنبيه إلى أنه لا يجب الخلط بين مدلول "الخطر" كمصطلح تقني في ميدان التدبير ومدلول "التهديدات" كما هي متعارف عليها في منهجية SWOT ، ذلك أن التهديدات لا يمكن أن تكون في مدلول المنهجية المذكورة إلا خارجية ، أما الخطر فيمكن أن يكون مصدره خارجيا كما يمكن أن يكون داخليا. لا يمكن في هذا المقام أن نفصل بالقدر الكافي في أهمية وحيوية الاشتغال بمقاربة تدبير المخاطر، والتي أصبحت جزءا لا يتجزأ من مقومات التخطيط والتدبير في مجال المقاولات الكبرى وبالنسبة للتنظيمات على حد سواء، ولكن حسبنا أن نؤكد على أن منظومة تدبير المخاطر يجب أن تشكل بالنسبة لحزب العدالة والتنمية عنوانا بارزا من عناوين المرحلة الحالية.