بسم الله الرحمن الرحيم لست في هذا المقام بصدد التعريف بالعلمانية وبيان نشأتها وتطورها، ويغني عن ذلك الإشارة إلى أنها قائمة على نبذ الدين وإقصائه عن الحياة؛ ليلا يكون له أي أثر في حياة الناس، السياسية والاقتصادية والاجتماعية .... والمقصود في هذه الكلمات بيان مصادر التلقي في الفكر العلماني؛ فإذا كان العلمانيون بما أوتوا من وسائل يهمزون المسلمين ويغمزونهم لاعتمادهم على الكتاب والسنة وما قاله سلف الأمة وعلماؤها؛ فعلام يعتمد العلمانيون من دعاة الفوضى والتحرر من الفضائل الذين هم أسرى فكر علماني خارجي يتلقونه بكرة وعشيا وحين يظهرون، يصدق عليهم المثل العربي القائل: "رمتني بدائها وانسلت". وإذا كان بيان مصادر التلقي في الفكر العلماني مرتبط بنشأتهم التاريخية؛ فإن الباحثين يختلفون في تحديد انطلاق النشأة، والذي أراه أن نشأتهم كانت قبل ظهور العلمانية في الغرب، حيث ظهرت في شكل من أشكالها الأولى في عهد نبي الله شعيب عليه السلام، فيما قص علينا القرآن من استنكارهم العلاقة بين الدين والدنيا؛ حيث قالوا فيما قص القرآن عنهم:{أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء} هود: 87. فهم أرادوا أن تكون الصلاة منفصلة وبعيدة عن شؤونهم الدنيوية وأن لا يكون لها تأثير أو دخل في معاملاتهم الفاسدة، وبهذا يمكن القول: إن العلمانية المعاصرة سمة من سمات الجاهلية الغابرة التي يدعي العلمانيون القطيعة معها والبراءة منها؛ لكنهم في وحل التقليد الأعمى ساقطون. ويضاف لهذا الاقتداء الجاهلي الظروف والمعطيات التاريخية الدينية والاجتماعية والسياسية والعلمية التي نشأت عليها في الغرب حتى وصلت إلى صورتها التي هي عليها اليوم، وتسللت إلى البلدان الإسلامية بوسائل شتى أهمها البعثات العلمية التي ذهبت من الشرق إلى الغرب لطلب العلم فعادت بالعلمانية، ذهبوا لدراسة الفيزياء والكيمياء والرياضيات فعادوا بدعاوى فصل الدين عن الحياة، ولك أن تتصور حال الشباب المسلم الذي يؤم الجامعات الغربية خاوي الوفاض يتيم المعرفة والتربية الإسلامية؛ ثم يزج به بين أساطين الفكر العلماني الغربي على اختلاف مدارسه؛ فيعود بعد سنوات بأعلى الشهادات ويبوء أسمى المناصب؛ إنه لن يكون إلا علمانيا صغيرا وناصرا لما تلقاه دون إحساس بالخدمة التي يسديها لأولياء نعمته؛ إلا قلة قليلة من النبهاء الذين انتبهوا لهذا فاستفادوا مما عند الغير دون الذوبان فيه والاقتناع بأفكاره المنحرفة وتصوره الفاسد للحياة والممات. وما يلوح في الأفق من قضايا الأخذ والرد بين المسلمين العلمانيين ما هي إلا أمثلة أما الخلاف معهم ففي الأساس ومصدر التلقي، خلاف بين عقيدة التوحيد التي ترى أن أولى مهماتها العمل على تنزيل شريعة رب العالمين، وبين عقيدة العلمانيين التي ترى الاقتداء بمناهج اللادينيين، بأفكارهم التي تستهدف القضاء على الشريعة ومحاربتها، واستدراج الشعوب الإسلامية للتنازل عن قيمها وأصالتها وهويتها. ولا يجد العلماني المتطرف أي حرج في السب وكيل الاتهامات بالعمالة والخيانة التي تعتبر جزء من وعي العلمانية المتطرفة، للمسلمين بسبب استمساكهم بشريعة رب العالمين، وحق لكل مسلم أن يفخر بالمصدر الذي يستلهم منه فكره وتصوره للحياة، وعلى العلماني أن يخجل وهو يتشدق بما عنده؛ لأن فكره لا أصل له ولا سند، وإن سمى رجاله الذين يأخذ عنهم وجدته ساقطا في براثين أسياده من منظري العلمانية الغربية، الذين تجدهم تارة يتحدثون باسم حقوق الإنسان والحرية والعدالة، وهي في كل ذلك تقتات على أوهام الغزو الفكري والعولمة وتعتبرها مصدرا من مصادر التلقي. ورغم الأقنعة المتلونة التي يتخفى فيها العلمانيون؛ فالشعوب أدركت حقيقتهم ومراميهم؛ فظهرت مع الثورات العربية الدعوات التجديدية على تفاوت فيما بينها تطالب بالعودة إلى الكتاب والسنة ونبذ العلمانية الحاقدة، وهنا وجد العلمانيون أنفسهم بين مواجهة صحوة الشعوب الإسلامية التي لا يقدرون عليها، والتنازل عن أفكارهم المهترئة، التي لا قيمة لها إلا في أذهانهم (إن كانوا يعتقدونها حقا) فلم يبق سبب لوجودهم وأدركوا أن الشعب يريد التخلص منهم؛ فكان لابد من التغيير ووضع خطط جديدة بإثارة قضايا من هنا وهنالك وفتاوى صادرة عن علماء وغير علماء لا ينزهون عن الخطإ ولا أحد يعتقد لهم العصمة، فيلصقون ذلك بالإسلام، ويعتبرونها سبة وتعييرا للمنهج الإسلامي المرغوب تنزيله، واشتغلوا بالإسلاميين لتنفير المجتمع منهم . والمعادلة التي تغيب عن بني علمان: أثناء إجراء عملية إسقاط الحالة الغربية على الشعوب الإسلامية أنه: إذا كانت العلمانية تستوحي فكرها من الغربيين؛ وتستشهد لذلك بما جرى في تاريخهم من تغيير جذري؛ فلأنهم كانوا يحكمون بقانون مدني وضعي وضعه متسلطون من البشر مثلهم، والخروج عن ذلك القانون لا حرج فيه، لأنه مبدل محرف، وقد حكى القرآن الكريم عن اليهود والنصارى قولهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} (البقرة: 113) وصدقوا جميعا فيما قالوا يكفر بعضهم ببعض ويلعن بعضهم بعضا، أما مع المسلمين فالأمر مختلف لأن المطلوب احتكامهم إلى شريعة رب العالمين، وذلك مقتضى إيمانهم وإسلامهم {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} (المائدة: 50) {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} (النساء: 65). وإذا كان العلمانيون يعجزون عن الإفصاح عن مصادر التلقي خشية انكشاف سوآتهم؛ فإنهم لا يتوانون في نشر الأفكار الإلحادية، وكل فكرة من شأنها إضعاف الشعور الديني، وزعزعة الثقة في العلماء، في كل بلد إسلامي، وإلصاق كل العيوب والخطايا بهم {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (يوسف: 21). www.kallali.com