لا شئ يوقع في التيه الوجداني و الضلال الفكري كالمفاهيم التي تتولد في رحم "الإيديولوجيا"،إنها لا تصاغ من أجل حاجة البشر في التواصل،أي أنها لم توجد لضرورة إنسانية متمثلة في حاجة الإنسان إلى التحاور مع الآخر،على اعتبار أن اللغة،أقصد لغة الحوار،هي السبيل الواحد الأوحد لرفع الخلافات بأسلوب حضاري و في جو من التفاهم و التعايش الفكري.بل إنه بدل أن توظف المفاهيم للحوار،تصير –أي اللغة بما هي مفاهيم- موضوعا للحوار و المناقشة، و مفهوم "الإسلام السياسي" من جنس هذه المفاهيم التي صارت موضوعا للنقاش و الحوار،لما يحيط بها من دخان كثيف يحجب الرؤية و يعتّمها و يضلّلها،فهي من جنس المفاهيم التي توظف للصيد في الماء العكر. يقال أن المفاهيم قوالب المعاني، و هذا القول ليس صحيحا على إطلاقيته،فالمفاهيم تحمل شحنة معينة غير بريئة إذا كانت تنزع إلى الأدلجة،أقصد إذا كانت تخفي معنى معينا يتوارى خلف هذا المفهوم. إن المفهوم الإيديولوجي لا يؤدي وظيفة تواصلية،و إنما هو جند من أجندة الفكر، و قالب يضع داخله كل هموم و مطامح واضعيه،فهو إذن مفهوم غير متفق عليه،و إنما وضعته "أقلية" لدوافع إيديولوجية. لذا فالمخرج من هذه الزوبعة المفاهيمية هو وضع قاعدة تساعدنا على فحص هذه الكثرة المتكاثرة من الفاهيم المستوردة،و يمكن صياغتها على النحو التالي : "كل مفهوم منقول معترض عليه،حتى يُثبت بالدليل صحته" ، و في المقابل " كل مفهوم مأصول مسلّم به،حتى يثبت بالدليل فساده". إن القاعدتين يشبهان إلى حد كبير ما قاله فقيه الرأي أبو حنيفة النعمان "قولنا صواب يحتمل الخطأ،و قول غيرنا خطأ يحتمل الصواب"، فعلى غرار ذلك نقول، إن المفاهيم المأصولة مسلم بها،لمّا جرت عادة لسان العرب على توظيفها،فهي في غنى عن دليل يثبت صحتها،لكن تجدد اللغة قد يحملنا على إعادة النظر في بعض المفاهيم التي استعملها أجدادنا العرب،لذا فنقد بعض المفاهيم باستلهام التجربة التاريخية القومية أمر مؤكد عليه لتفادي الوقوع في "التقليد"،طبعا دون المبالغة في طرح أي مفهوم مأصول بدعوى التجديد و نبذ التقليد من غير وجود مبرر معقول،فالمفاهيم لا ترمى في سلة المهملات إلا إذا أثبت الواقع عدم جدوانيتها،في المقابل فالمفاهيم المنقولة مرفوضة لأنها أخذت من محيط تختلف إشكالياته و ظروفه عن واقعنا القومي،لذا فنقله لا يكون ذا قيمة إلا إذا تشابهت الملابسات الثقافية و التاريخية و السياسية و الاجتماعية .. لتوظيفه،و هذا نادر جدا. "الإسلام السياسي" مفهوم محوري غير مأصول في "إيديولوجيا العلمانية"،لذا فهو باطل مردود عليهم حتى يثبت بالبرهان الساطع صحته.و لأن الحكم على الشئ فرع عن تصوره فإن وضع تعريف ل "الإسلام السياسي" سيفتح عينينا أكثر على بطلان هذا المفهوم،و سيبرز اللبس و التعتيم الكبير الذي يخفيه. إن "الإسلام السياسي" باختصار يحيل على معنى مقتبس من حضارة الغرب،مفاده انه "لا دين في السياسة،و لا سياسة في الدين"،فحركات "الإسلام السياسي" وظفت الدين توظيفا تعسفيا لأغراض سياسية سافرة و وضعت الشئ في غير محله عندما حشرت المقدس في ميدان المدنس.إن المفهوم يحمل تناقضا متمثلا حسب مزاعم أنصار الإيديولوجية العلمانية في الجمع بين الدين و السياسة،و هذا غير مستساغ حسب الإيديولوجية. إنها دعوى عريضة فضفاضة لا دليل لهم عليها إلا منطق التقليد،فالتقليد ثم التقليد هو دليلهم على غياب السياسة في الدين،و خلو الدين من السياسة،فلننظر إذن في هذه الدعوى العريضة. إن أول ما يلفت انتباه الباحث المنقب في "الإيديولوجيا العلمانية" هو تضارب الآراء،فالتناقض هو السمة البارزة لهذا الفكر الشائه،فبخصوص الموقف أو المواقف العلمانية من نظام الحكم في الإسلام نجد من يزعم بلا روية أن الإسلام دين روحي بعيد عن التنظير السياسي، في المقابل نجد من يقول أن النظام الإسلامي ثيوقراطي يحكم بالحق الإلهي ! يقول العلماني فرج فودة " إن الإسلام دين وليس دولة ، وإن الدولة الإسلامية على مدى التاريخ الإسلامي كله كانت عبئاً على الإسلام وانتقاصاً منه وليست له" ، و هذا ادعاء عريض خطير،يعبر عن مشاغل و هموم النخبة العلمانية،المختزلة في إبعاد السياسة عن نطاق الدين،كمنظومة تحوي السياسة احتواءا،و إقصاء الدين كعامل فاعل إيجابا من السياسة،و ذلك حتى يتسنى لهم استيراد القوانين الوضعية و تطبيقها عنوة على المسلمين.و في مقابل من يقول ب "الإسلام السياسي"،نجد من يقول بثيوقراطية نظام الحكم الإسلامي،و هذا الموقف و لاشك يتعارض على طول الخط مع الزعم الآخر،يقول العلماني فؤاد زكريا " أقبح أنواع الخطأ هو الخطأ الذي ينبثق من تحت عباءة الحكم الديني ويرتكبه حكام يتصورون أن أهواءهم ومصالحهم الضيقة تجسيد للإرادة الإلهية ويوهمون الناس أن كل ما يفعلونه مستلهم من وحي الشرع الإلهي الذي يحكمون بمقتضاه " ، هكذا يحاول فؤاد زكريا أن يمرر مغالطات و تمويهات،و يقارن النظام الإسلام المدني كما عرفه النبي و الصحابة بالحكومات الثيوقراطية التي جاء الإسلام ضدا عليها،و ناقضا لأطروحاتها "الفرعونية" و "الكسروية" و الكهنوتية".و إن كان ما قاله فؤاد زكريا صحيحا غير أنه "حق أريد به باطل"،فالإسلام ليس أهواء و مصالح الساسة و الحكام،و لا هو يضفي الشرعية على الظلم و الاستبداد،فبأي حق يحمّل الإسلام و خصوصية نظامه السياسي وزر الحكام؟ إن الأطروحة الثاوية وراء مفهوم "الإسلام السياسي" هي تلك التي تنطوي على مفارقة الجمع بين الدين و السياسة،فالمغزى يعرفه الجميع و هو "فصل الدين عن الدولة"،غير أن هذا الشعار- الذي رُفع ضد الكنيسة لظروف خاصة، يحاول البعض تعميمها على الشعوب العربية الإسلامية، و كأن تاريخه نسخة طبقة الأصل لتاريخ الغرب، و مما له دلالة خاصة في هذا الصدد تسميتهم عصر أنوار المسلمين الذي قادوا فيه العالم بالعدل –يسمونه- "عصور وسطى"،مع أن هذا الوصف لا ينطبق إلا على الغرب الذي رزح تحت ظلام دامس عندئذ، أما المسلمون فكانوا ينعمون في ظل تقدم العلوم و سيادة الفكر الديني بدمشق و بغداد و الأندلس...- أعود فأقول هذا الشعار هو الآخر يتعارض مع مفهوم "الإسلام السياسي"، المفهوم الذي يجد واضعوه غضاضة في اعتبار السياسة مكونا من مكونات الدين،و يرون فيه بدعة محدثة لم يسنها النبي صلى الله عليه و سلم حسب "الفقاهة العلمانية" و تبعا لفقه عبّاد الإله العاطل الذي لا يأمر و لا ينهى،تلك الفقاهة التي لا تخرج عن نطاق السفاهة،و الشعار يتعارض مع مفهوم "الإسلام السياسي" لأن الفصل بين شيئين يستلزم وجود وصل مسبق بينهما،و هذا ما ينفيه مفهوم "الإسلام السياسي"،من هنا فأية قيمة تبقى لعبارة "لا دين في السياسة و لا سياسة في الدين" على ضوء العبارة "فصل الدين عن الدولة"؟ إن مفهوم "الإسلام السياسي" الذي تلوكه الألسنة العلمانية لا يكاد يصمد مع الطرحين الجدلي و النقدي،إنه يعلن عن إفلاسه ما أن يوضع تحت الأضواء المجهرية،فالطرح الجدلي يروم من خلال تتبع فكر معين استكشاف مواطن التناقض فيه،و هذا ما أبرزنا شيئا منه من خلال التنصيص على تعارض اثنين من الأطروحات العلمانية مع المفهوم،أولهما ادعاء الحكم بالحق أو بالتفويض الإلهي في الدولة الإسلامية،ثم إن المفهوم الذي يرى في السياسة بدعة "إسلاموية" لا يستقيم مع المبدأ العلماني الشهير الذي ينصّ على ضرورة الفصل بين الدين و السياسة. و الآن لنوجه سهام النقد للمفهوم من داخله لنقضه من خلال الوقوف على المرجعية التراثية التي ستحسم في المسألة،و السؤال الذي يعبر عن الإشكالية هو ببساطة : أ لم يمارس النبي صلى الله عليه و سلم صاحب الرسالة السياسة؟ و ماذا عن الصحابة الراشدين رضي الله عنهم؟ مصادرنا التاريخية تزخر بالوثائق السياسية للنبي صلى الله عليه و سلم و الصحابة الأبرار رضي الله عنهم،و الكثير من المبادئ التي توصل إليها الإنسان كثمرة لنضالاته على درب تحقيق العدل و حفظ حقوقه نجدها في وثائقنا السياسية و إن اختلفت المسميات،كمبدأ التعاقد الاجتماعي،و الديموقراطية،و مراقبة الحاكم و محاسبته،و التعايش مع الأقليات،و حفظ حقوقهم و إشراكهم في صناعة القرار بل إنه سار على هذا الدرب كما يورد الماوردي في "الأحكام السلطانية" أن خوّل للذمي حق تقلد منصب "وزير التنفيذ"،كما أن النظام الإسلامي يفسح المجال للمعارضة لتمارس حقها في النقد الإيجابي الساعي إلى تجويد الفعل السياسي،لا المعارضة التي تحرّكها المصالح السياسية الخسيسة،فالمعارضة في الإسلام جزء من الذات تحتضنها و تحتويها،و ليس بالضرورة أن تكون موجهة من طرف أحزاب سياسية أو تكتلات جماعية،بل للفرد الحق في الاعتراض و المحاسبة و تقديم النصح الواجب للمسؤولين القائمين على شأن المسلمين عملا بمبدأ "الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر".غير أن فلسفة الغرب في الحكم و حفظ الحقوق السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية تختلف مع فلسفة الإسلام،فالغرب يجعل من هذه المطالب الإنسانية حقوقا فقط ،بينما يرفعها الإسلام إلى مصاف الواجبات و التكاليف،كما أن الوقائع أثبتت و مازالت تثبت أن الغرب انحاز و ينحاز إلى الإنسان الأبيض،فهو يستفيد من هذه الحقوق أكثر من سواه،و أحيانا دون سواه،بينما الإسلام حفظ هذه "الحقوق-الواجبة" للإنسان،مطلق الإنسان،بغض النظر عن اللون و الدين و المعتقد. إن أول وثيقة سياسية نصادفها في ملفات أرشيفنا السياسي ،هي تلك الوثيقة النبوية المسماة في مصادرنا ب "الصحيفة" أو "الكتاب"،و قد سميت كذلك لأن محمدا عليه الصلاة و السلام قال في مستهلها "كتاب من محمد النبي،رسول الله،بين المؤمنين و المسلمين..."،و هي موجهة كذلك إلى رعايا الدولة الذين يشتركون مع المسلمين في حق المواطنة و هم اليهود فوصفهم بأنهم "أهل الصحيفة"،و إن كانت مصادرنا التاريخية لم تذكر لنا شيئا عن الظروف و الملابسات التي تمت فيها صياغة هذه الوثيقة المهمة فإننا نميل إلى أن وضعها كان ثمرة للمبدأ الإسلامي "الشورى"،لأنها تختص بتنظيم الحياة السياسية و الشأن الداخلي للدولة الفتية،و مادام اليهود الطرف الآخر في هذه الوثيقة قد وافقوا في أول أمرهم على مضامينها فلا شك أنها صيغت باعتماد مبدأ الشورى.و المهم في هذه الوثيقة ليست تلك البنود التي احتواها أول دستور عربي إسلامي، فهذا الدستور خاطب القبائل العربية من المسلمين و اليهود التي شكلت طيف الدولة الإسلامية-العربية،إذا فهي متجاوزة لا تصلح لتنظيم حياتنا السياسية،بل إن أهميتها في كونها صيغت بعد أن نزل قسط مهم من القرآن،ما يعني أنه لا غنى للدول الإسلامية عن دساتير تعنى بالشؤون السياسية و تحدد الاختصاصات و تنظم الاقتصاد و الاجتماع،فالقرآن باعتراف الكثير من الباحثين لم يضم بين طياته نظاما سياسيا و إنما جاء ب "كليات" و "مبادئ" و "قواعد" و "مثل"،و من خلالها يتم صياغة دساتير محكمة الدلالة بينة الحدود،و بعبارة أخرى فلما كان الإسلام خاتم الأديان فقد تطلب الأمر أن لا يحدد لهم نظاما سياسيا ثابتا لأن الظروف الزمكانية متغيرة،لذا اكتفى الشارع ب "روح" التشريع الذي نستلهم منه القوانين المتغيرة،و من هنا فالشريعة –بمعناها الأصولي لا العامي- ثابتة،أما الفقه (القوانين) الذي نجتهد في استخراجه على ضوء روح التشريع الإسلامي فمتغير. أما محتويات الوثيقة فبينة دلالتها السياسية و واضحة لغتها القانونية التي صيغت بها، فقد حاول النبي صلى الله عليه و سلم من خلال هذه المعاهدة إحداث قطيعة مع الفكر القبلي الذي أطر العقلية العربية،فأخرجهم من نطاق القبيلة الضيق إلى رحاب الدولة و الأمة، فإذا كان وزر الفرد في "الجاهلية" يعود للقبيلة بأكملها فقد أثبت النبي عليه الصلاة و السلام مسؤولية الفرد وحده أمام القانون ف "من ظلم و أثم فإنه لا يوتغ (يهلك) إلا نفسه"، هكذا تذوب الروابط القبلية الجاهلية،و تثبت ذاتية الفرد و مسؤوليته،و من هنا يؤكد النبي صلى الله عليه و سلم أن "النصر للمظلوم"،أما القاعدة الجاهلية "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" فلم يعد لها أي مصداقية في دولة المواطنة و المساواة أمام القانون لأن "ذمة الله واحدة"، و التكافل لتحقيق العدالة الاجتماعية من سمات هذه الدولة الفتية،ف "المؤمنين لا يتركون مُفرَحا (المثقل بالدين و الكثير العيال) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل" ،و لم يغفل النبي صلى الله عليه و سلم الحديث عن حقوق "غير المسلمين"،و هم اليهود في هذه الوثيقة،فأكد أنهم رعايا الدولة "و أن بطانة يهود كأنفسهم" و "أن على اليهود نفقتهم و على المسلمين نفقتهم و أن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة و أن بينهم النصح و النصيحة و البر دون الإثم"،فالدولة الإسلامية لا تضيق من الاختلاف الديني كما حفظت لنا صفحات التاريخ عن كثير من الأديان التي لم تتسع لقبول خلافاتها الدينية الداخلية فضلا عن أن تحتضن "الآخر" و ترحب به في دولتها،فمحمد صلى الله عليه و سلم حفظ حق اعتناق الدين المرتضى لأي شخص،و مادام الآخر الديني في هذه الوثيقة هم اليهود فقد أكد النبي صلى الله عليه و سلم "أن لليهود دينهم و للمسلمين دينهم" ، و لم يشترط النبي صلى الله عليه و سلم على هذا الآخر إلا أن يكون لبنة في الجدار الأمني للدولة ف "بينهم النصر على من دهم يثرب"،غير أن الوقائع التاريخية أثبتت أن الغدر اليهودي و نقضه للمعاهدات قاعدة مطردة لا تتغير،حيث نصروا المشركين ضدا على المسلمين و نقضوا ما أبرموه من معاهدات مع المسلمين،لذا فقد أسقط الإسلام "الخدمة العسكرية" على غير المسلمين مخافة الغدر، و لأن الدفاع عن حياض دولة تحكمها منظومة فكرية مخالفة لما يعتقده ذلك "الآخر" أمر مستبعد،فتضحية الإنسان بحياته من أجل معقتد لا يؤمن به أمر غير مستساغ ألبتة، لذا فرض الإسلام الجزية على الذميين في مقابل الخدمة العسكرية و الأمن الذي يوفره المسلمون لهم،و هي ضريبة زاهدة مقارنة مع الزكاة التي يعطيها المسلم،كما أنها مفروضة على من له القدرة لقوله تعالى "حتى يعطوا الجزية عن يد" (اليد جمع أيد و تعني القدرة و قد قال تعالى "و السماء بنيناها بأيد") فلا تؤخذ الجزية إلا من الصحيح المعتمل،شرط أن تحقق لهم الدولة الإسلامية الأمن،و قد قال خالد بن الوليد رضي الله عنه لقس " إني عاهدتكم على الجزية والمنعة.... فإن منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا حتى نمنعكم ".إنها فلسفة الإسلام في التعامل مع "الآخر" التي تثار حولها زوابع لا تسكن إلا لا تقوم أخرى بل "أخريات". و ثمة معاهدات أخرى سياسية أبرمها الرسول صلى الله عليه و سلم مع نصارى نجران (10ه) دشن بها عليه أفضل الصلاة و السلام أول لبنة في صرح التعايش بين الديانات و حفظ حقوق "الأقليات"،ليس فقط حقوقهم الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية،بل إنه تعهدهم بحفظ حقوقهم الدينية التي تتعارض مع عقائد الإسلام،ف"كتب" صلى الله عليه و سلم يقول "و لنجران و حاشيتها جوار الله و ذمة محمد النبي رسول الله على أموالهم و أنفسهم و ملهم و غائبهم و شاهدهم و عشيرتهم و بيعهم،و كل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير،لا يُغيّر أسقف من أسقفيته و لا راهب من رهبانيته و لا كاهن من كهانته.و ليس عليهم دنية و لا دم جاهلية.و لا يحشرون و لا يُعشرون و لا يطأ أرضهم جيش،و من سأل منهم فبينهم النصف غير ظالمين و لا مظلومين" و تعهدهم كذلك ب "أن أحمي جانبهم،و أذب عنهم،و عن كنائسهم و بيعهم و بيوت صلواتهم،و مواضع الرهبان،و مواطن السياح،حيث كانوا..و أن أحرس ملتهم أين كانوا..بما أحفظ به نفسي و خاصيتي و أهل الإسلام من ملتي". هذه هي السماحة الإسلامية التي تمخضت عن نضج سياسي و سمو حقوقي لمحمد صلى الله عليه و سلم النبي الإنسان الذي وعى قيمة حقوق الإنسان فملأ الدنيا عدلا و نشر فيها أريج الحب و التسامح و التعايش،فكيف ببعض المتفيهقة يدعون أن الإسلام دين العنف و الحقد و الإرهاب،إنها صفاقة الوجه العلماني الحاقد و التطاول على الخوض فيما يجهلون. وقد سار الخلفاء ممن تربوا في حضن النبوة على دربه في الحكم بالعدل،فكانت صفحات التاريخ التي سطرتها أعمالهم و سياساتهم الحكيمة من أشرق الصفحات في تاريخ البشرية ككل، و خطبهم و وثائقهم خير دليل على ما نقول،و لم تظل هذه الوثائق حبيسة فكر نظري و إنما ترجمت إلى فعل و حياة و حضارة،و قد حفظت لنا كتب التاريخ خطبة الخليفة أبي بكر رضي الله عنه المليئة بالدروس و الفوائد الجديرة بالتأمل.لقد كانت هذه الخطبة السياسية تنم عن عبقرية الصديق الذي وعى حجم المسؤولية الملقاة على عاتقه،ففي مقام يكون فيه الزهو بالانتصار و تنسم نشوتها نجد الصديق رضي الله عنه في موقفه متواضعا يخفض جناح الرحمة لرعيته،قال رضي الله عنه "أيها الناس إني قد وليت عليكم و لست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني و إن أسأت فقوموني" و في هذه العبارة الأخيرة رد على من يدعي أن الحاكم في الدولة الإسلامية يدعي العصمة لنفسه،فهذا أبو بكر رضي الله عنه يعلنها صراحة أنه قد يسئ التصرف و لم يضفِ على نفسه أو ساسيته أية صبغة إلهية،إنها كلمة واعية تنسف الشبهة من أصلها و لا تترك أي مجال لخصوم الحل الإسلامي لنعت الحكومة الإسلامية بالثيوقراطية،لأن الحكم بالحق أو التفويض الإلهي لا يسمح بأي صوت أن يرتفع على صوت الحاكم،أو أن يتقدم أحد برأي يخالف ما رآه الحاكم،فهو ظل الله في الأرض و سيفه على رقاب عباده الذي ينفذ أوامره فأي اعتراض على قراراته أو انتقاد لسياسيته فمعدود من قبيل الخروج على طاعة الإله التي تعجل بالعقاب في الدنيا قبل الآخرة،لذا فتحذيرا من وراثة السلطة النبوية عمد أبو بكر على التمييز بين شخصية "الرسول-السياسي" التي جمعت بين "السلطة الزمنية" و "السلطة الدينية"، و بينه كشخص يصيب و يخطئ من غير أن ينزل عليه الوحي لتقويم أفعاله،يقول رضي الله عنه "إن الله اصطفى محمدا على العالمين و عصمه من الآفات،فإنما أنا متبع و لست بمبتدع فإن استقمت فاتبعوني و إن زغت فقوموني"،و ما يلفت الانتباه في هذه الكلمة المضيئة المشرقة لسيدنا أبو بكر رضي الله عنه و أرضاه تأسيسه لفقه المعارضة السياسية،بل و الترحيب بذلك و تقبله بصدر رحب على اعتبار أنه مبدأ إسلامي نوّه به النبي صلى الله عليه و سلم،فالمعارضة في الإسلام بمثابة "الأمر بالمعروف و النهي بالمنكر"،قال رسول الله صلى الله عليه و سلم "سيد الشهداء حمزة و رجل قام إلى إمام جائر،أمر و نهاه فقتله"،و قد شهدت كتب التاريخ تراجع الخلفاء عن الكثير من مواقفهم بعد مشاورة رعيتهم،من هنا فالترحيب بالمعارضة السياسية ميزة للنظام الإسلامي مدعاة للفخر،فإذا كانت العلاقة بين الحكومة و المعارضة في الدول الغربية تتسم بالكثير من التوتر و التشنج،فإنه على العكس من ذلك نجد الخلفاء الراشدين يدعون إلى الاعتراض على تصرفاتهم بالحق و مراجعة قراراتهم " إن أسأت فقوموني..و إن زغت فقوموني"،و السياسة نفسها نهجها الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع رعيته،و ليس أدل على حضور فقه المعارضة في الإسلام من التعامل الراقي لسيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه و أرضاه مع الخوارج،فهم الذين كفروه و سلوا سيوفهم عليه و مع ذلك نجده يقول " لهم علينا ثلاث : ألا نبدأهم بقتال ما لم يقاتلونا ، وألا نمنعهم مساجد الله أن يذكروا فيه اسمه ، وألا نحرمهم من الفيء ما دامت أيديهم مع أيدينا" إن هذه العبارة تحسم بوضوح أن المعارضة في النظام الإسلامي لا تفسد للود قضية مادامت الأيدي متحدة، الغاية من المعارضة إنما هو النهوض بالفعل السياسي ليرقى إلى مستواه النموذجي المثالي. و يجدر بنا هنا أن ننبه على أن السياسة عند السنة من فروع الدين لا من أصوله، فهي ليست واجبة لذاتها شرعا،كما أنها من الأمور التي لا يتعلق بها تكفير،لأنها ليست من الأصول الاعتقادية، عكس ما ذهب إليه الشيعة من اعتبار الإمامة من أصول دينهم التي يكفر من لم يعتقد فيها،فهي عندنا أهل السنة "واجب مدني" و إن اقتضته واجبات دينية.إن الإنسان مدني بالطبع،لذا فإخراج قوة طبع المدنية في الإنسان إلى فعل يتطلب علة ،و هي قسمان : الأولى عقلية،يقول الماوردي رحمه الله : "الإنسان مطبوع على الافتقار إلى جنسه،و استعانته صفة لازمة لطبعه،و خلقة قائمة في جوهره"،و لأجل ذلك احتاج الإنسان إلى تنظيم حياته السياسية،و ذلك لا يقوم إلا بدولة تسهر مؤسساتها على ذلك. و الثانية شرعية : فالإسلام أمر بمجموعة من الأحكام لا سبيل لتنفيذها إلى بوجود دولة تحكم باسمه و تسهر على قوانينه و تحرص على تطبيق تعاليمه،من قبيل ذلك إقامة الحدود و القصاص،فهذه الأخيرة ليس من حق أحد أن ينفذها إلا رئيس الدولة،و جمع الزكاة و تنظيم الجيوش للجهاد و تطبيق فريضة الشورى..إلخ ختاما، إن السياسة يحكمها منطق الإمكان،أما دعاة العلمانية و أبواقها في الدول العربية فقد جعلوا منها "واجبا" عندما يتعلق الأمر بتقليد الغرب،و "ممتنعا" مستحيلا إذا ما كانت خاضعة لمعيار الدين الإسلامي يقيّمها و يقوّمها،و من مزايا النظام الإسلامي أن جعل السياسة من الممكنات التي تتغير بتغير الزمان و المكان،لذا فهو لم يلزم المسلمين بنظام سياسي ثابت،عدا الإشارة إلى مبادئ و كليات و قواعد تحكم الفعل السياسي،و هذا ما عبر عنه الإمام ابن قيم الجوزية في تعريفه للسياسية بأنها : "ما كان من الأفعال بحيث يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح و أبعد عن الفساد،و إن لم يشرعه الرسول و لا نزل به وحي". مدونة الكاتب : www.adiltahiri.maktoobblog.com