حفرنا طويلا بجنون..مجموعة من النساء المنقبات الباكيات ورجال يرتدون الدشاديش المعفرة بالتراب. لم يصدقنا الجندي الأمريكي الذي ترجل من دبابته لكنه حين أنصت ووضع اذنه على الموضع المحفور من الأرض سمع صراخهم كما سمعناه..وحمل معولا آخر وحفر معنا حتى الغروب دون جدوى.. - كيف ستعيشين بجنونك هذا وأنت تحملينه معك زادا و زوادة؟؟؟؟؟. سمعتها كثيرا من أمي..حتى وأنا شمطاء.. يوم ربطوني في الحظيرة قرب بقرتنا الوحيدة علمت أن هذا كل ما لدى أمي من حب وكل ما لدى أهل القرية من الرحمة. تأتي لي بالزاد و أنا مربوطة الساقين واليدين بحبال متينة وتغيم عيناها و تمطران. وشاحها تلبسه الفتيات الصغيرات قبل البلوغ..أنا لم أحظ به بعد..فأنا الأصغر.. في بريطانيا تمشينا كثيرا قرب ساعة بك بن و نهر التايمز.. _ أترينه يشبه دجلة؟؟ _ لا، إنه صورة مشوهة للنهر..فدجلة تطفو فوقه الجثث..وهذا لا يعرف سوى القوارب وأصوات الضحكات وأضواء الفرح..لم يحتضن الموتى..لم يعانق الضياع. _ أختاه!!. صوتي امتد عبر الحقول والسباخ..بلا انتهاء ،شعرت بأسنان الجوع تمزقني كأنياب وحش ضار..لم تأت اليوم بصحنها و لم تطعمني.. الجنون في قريتنا طقس يمارس بقدسية تامة.. يعدون له كل عام و يوزعونه بين بيوت الطين كما يوزعون مشقة الحصاد تحت شمس نيسان على نساء و رجال القرية كواجب حتمي بغض النظر عمن يمتلك هذا الحقل أو ذاك.. يرقصون في أعراسهم كما يلطمون صدورهم و يمزقون جيوب أثمن أرديتهم السوداء. _ لم ربطوني يا أختاه؟؟؟؟ _ لأنهم مجانين!! _لم اتهموني بالجنون إذن؟؟؟ _ لأنهم مجانين أيضا. _من العاقل في القرية يا أختاه؟؟؟؟ _ أنا و أنت فقط. في لندن ضحكنا حد البكاء عندما تذكرنا أحد اقربائنا وكيف لاط بمطية بيت جدي..كانت تلك متعته المفضلة في الظهيرة حين يبحث الجميع عن ظل صغير ما في عراء الحقول. في بار صغير جلسنا واحتسينا كأسين من البيرة..لم نتوقف عن الضحك..إحدى النساء يوما قالت و نحن نحتطب: _ من خلق الله؟؟ لم يجبها أحد بل تعالت الضحكات الأنثوية الخجولة تحت اللثم السوداء. _ ما شأنك به إنه في السماء؟؟؟. ظلَّ مرآه قبابا ذهبية برائحة الحناء والحلوى والشموع..أنا وأختي الصقنا شفاهنا بقوة على الباب المزين بالنقوش الذهبية والأحجار الملونة الساحرة خلف الزجاج الصقيل..قبلناه بشوق لنبلغ الجنة..بل أكثرنا من القبل الحارة المصحوبة بالدمع لنحصل على أفضل بقعة.. ازدحم السوق وقادني رجل يطوف بي لعل أمي تراني..بكيت بحرقة..بدموع سخية حتى بعد أن وضعتني أمي في حجرها لم أتوقف عن سخائي وجرى دمعي طوال الليل الذي تلى عودتنا من ارض الله. صفعتني امرأة..وصفعتني أخرى..و توالت الصفعات و الركلات والشتائم و البصاق بلا عدد أو توقف. و السيد الذي ربط رأسي بعصابة العباس الخضراء بعد أن كواه بقطعة حديد حامية قال كثيرا من الكلام غير المفهوم وأغمض عينيه كمن يتقي سماع صراخي. _ اربطوها مع البقرة. قالها و قد نفذ صبره. _ يمه انا رأيت الله وسرت خلفه ليأخذني الى السماء حيث نحصل على ما نريد..انتم من اعدتوني اليكم. كررت هذه العبارة مئات المرات.. رماني أطفال القرية بالحجارة.. نهشتني الكلاب.. أمي من رحمني فقط من السباب والبصاق والزجر والرفس وحتى إغراقي في الساقية. ما عرفت السلام إلا في الحظيرة مع بقرتنا التي تعرفني جيدا وتفقه ما أقول. مر يومان ربماأاو ثلاثة..والحبال تحز جسدي الذاوي..والعطش ينشب اظفاره في جوفي. _ أختاه!! خيل لي اني كنت اصرخ..وربما كنت منكفئة على وجهي.. _ الحمى منعتني من النهوض قالت و هي تسقيني ماء يعلوه قش كثير. سعلت كثيرا في الطريق الى المدرسة .. السعال الديكي يجعلني أعوي ككلب. _ سنتأخر عن المدرسة هلمي!! _ أختاه إني اعجز عن السير!! تجرني وهي تخشى أن تضربنا المعاونة و(الميني جوب) يكشف عن لحمها الكثيف الابيض دون أن تحاول اخفائه عن أعيننا المفتوحة باندهاش. بغداد هي ذلك الدكان بمصابيح صفراء تشبه ضوء فانوس بيتنا لكن دون دخان..وعلبا شفافة تفيض حلوى. _ هل تذكرين كيف كنا نحلم ليلا اننا عثرنا على عشرة فلوس في الشارع واشترينا المثلجات؟؟؟؟؟. ضحكت اختي.. _ انها لا تشبه حتى مثلجات لندن..ما ألذها. كم حفرنا يومها و كم من الأيام استمر الحفر؟؟؟ انني لا أذكر.. لم يعننا إن كان أخي من يصرخ تحت الأسواق المركزية أم غيره من سجناء الزنازن الخفية..كنا نود الوصول إليهم حيث يطلبون النجدة. تعرى لحم اظفارنا ونزفت أيدينا وأغرقنا الثرى عرقا و دموعا. آليات ضخمة اعتلاها جنود المارينز الكثر بوجوههم السوداء والبيضاء دكت البقعة ذاتها لمدة اسبوع وأصبح قعر الحفرة غير مرئي ولم نعثر على طريق يصلنا بهم تحت الأرض..ثم لم نعد نسمع أنينهم الذي صار يخفت يوما بعد اخر.. قبلته و بكيت..صفقت بحماس شديد...إنه الكتاب الاول.. - ألا تعرفين الفرح؟؟؟؟؟؟؟ إنه كتابي الأول وأنت تبكين؟؟؟؟؟؟؟. _ أختاه أنا والبقرة لم نتعلم البهجة..هل نسيت؟؟؟؟؟؟؟ قهقهتْ.. - كم تضحكينني يا مجنونة القرية..لكني لم أراك إلا باكية!!. لم يودعونا في زنزانة واحدة.. صرخاتها مميزة ساعة التعذيب عن صرخات الأخريات. ما حدث في الظلام هناك ظل سرا ما افصحتْ عنه كلمة..كانت نظراتنا تلتقي.. تبرق وترعد و تمطر ثم تطرق بصمت. التايمز الهاديء والضباب أشبه بزنزانة جمعتنا معا.. وطن القباب و النخيل و الجنون و الحظيرة و السباخ و تلال الحصاد و بغداد و الامسيات الثقافية و الاحزاب المحظورة و التعذيب و البحث عن سجناء لم نرهم ابدا تحت الاسواق و المستشفيات..كل ذلك لم يكن اقسى من الغربة و التعثر بين المطارات الغريبة التي لا يزايلها الشك ان كنا من الجنس البشري ام من القرود كما صنفنا هتلر. في غرفتنا الصغيرة الخالية حتى من مروحة تبادلنا انا و اياها الكتب و التهمناها التهاما..تلك التي انتهت بنا الى الجلوس على الكرسي الكهربائي و حفرت جسدينا بالسياط. امام شاهدة قبرها المنقوشة بلغة اجنبية مع ترجمة بالعربية وضعت كتاب "و الفجر هاديء هنا" لمؤلفه "بوريس فاسيليف" كان الفجر هادئا و ضبابيا حقا!! جاءني صوت امي عبر الهاتف:-