رائحة الموت تنتشر في كل مكان..الناس شتات يفدون من كل فج عميق..وعيونٌ صغارٌ في بهجة الموت تسألْ..بعضٌ من أطفال يبكون بعضٌ من أطفال يضحكون..أنا لم أكن أبكي بكيتُ حصتي قبل أن أستيقظ من نومي..بقي لأمي أن تبكي حصتها..ولأخي الصغير..أما الرجال فلا يبكون ليست لهم عيونٌ يبكون بها ولا أفئدةٌ يُحسُّون بها مدى الفاجعة..هم يتولون خيط الأكفان لمن مات وحفر قبره بكثير من العمق والاتساع..ويُحاذرون ألا ينهار عليه التراب ليَبيتَ في مأمن في قبره..ثم يَتْلُون من أذكارهم الحزينة لكنهم لا يبكون حتى وإن كان ما يَرِدُ من أذكارهم شجيا ومحزنا.. عندما صلينا عليهما ووضعنا نعشيهما أمامنا رششنا على قبريهما قليلا من ماء البئر..ثم عدنا..عادت معنا خيالات الموت فعفنا الدنيا وما فيها.. على حصير العزاء تُلِيَّتْ آياتٌ.. الزقاق مكتظ بالنائحات..النواح لا يدع ركنا إلا طلاه..يلحقني النواح أينما حللت وارتحلت..شهية النواح أحيانا تكون أحلى من شهية الغناء..يتولد لدي إحساس بالبكاء لكني أخبأ عيوني البريئة..أو أصِلُ إلى ركن مظلم أبكي حتى أشبع ثم أمسح عيني كأني ما بكيت. تلاوة القرآن في تواز مع شهيق "الروابيز"وزفير اللهب من "مجامير" عديدة..لسان اللهب الأخضر ذكرني بجهنم..ليس لي استعداد لتذكرها في مثل هذه اللحظة..زوادتي فارغة..وذنوبي لا تحصى.. ثم تذكرت الجنة لم أجد لها موقعا في القلب يتسع لوصفها..خرائبي ليست في مستوى قداسة الفردوس.. بداخلي كومة من سراويل ممزقة أو ما يشبه ذلك..جهنم تكفيني..تواتيني وتنسجم مع حالي..لهبها كاللهب الذي فِيَّ..وقرارها كقراري..سحيق وعميق..مكينٌ ودافئ كبعض من لحظاتي..سيغطسونني في حمم سقر..أنا جربت ذلك..أنا جهنمي ..ولدت مخلوقا من نار..كالجان..والفردوس لأهلها في الدارين معا.. بلحيته في ذاك الركن..يرفع كفا واسعة..أصابعُ كحروف طويلة..مخروطة ونظيفة..بعد أن مرر عليهما الواحدة على الأخرى قرأنا الفاتحة.. بدت أحرف أصابعه دسمة..ثم مرر على لحيته فبدت كذلك..وقارٌ على عينيه وتوبة..نبوغ ينتابه بعض الفتور..حييته بعين الموت..تقبل تحيتي، برَّأني حين تفحصني من أعلاي إلى أسفلي..دعوات الصغار هي من تسبق إلى السماء ..بريئة صافية وصادقة ..آمين..ثم انفض الجمع.. حضرني ما يشبه غفوة..عطستُ ولم يشمتني أحد..بِتُّ ليْلي مع الأموات..أبُثُّ لهم شكواي من دون الأحياء..لا الأموات أعاروني اهتماما ولا الأحياء..دفنتُ رأسي بين ركبتي لحظة ثم غالبني النعاس....