سألني مرة أحد الأشخاص عن السبب الذي جعلني لا أردّ أبدا على مقالات شخص من التيار الإسلامي ظلّ يلاحقني على مدى عشر سنوات موجها إليه سهام الإتهام والتشهير، مع التحريض الموجّه تارة للسلطات وتارة للأتباع المهيّجين، قلت لسبب بسيط جدا، هو أن الشخص المعني لم يتناقش في يوم من الأيام فكرة من أفكاري كما كتبتها أو صرحت بها، بل يعمد أولا إلى تحريف الفكرة وإعادة تشكيلها على طريقته، ثم الردّ عليها بعد ذلك، مما جعلني غير معني بما يكتب. ولست أدري إذا كانت الرسالة قد وصلت إلى المعني بالأمر أم لا، لكنني أعتبر هدرا للوقت وللكرامة أن يخوض المرء في نقاش مع من لا يهمّه الفهم والحوار والنقد وتطارح المواقف والأفكار، بقدر ما يشغله التحريض والتشهير والإساءة. لم يفلت السيد حماد القباج من التيار السلفي هذه المرة من لوثة التحريف هذه، لكن سنقوم استثناء بمناقشة مقاله المنشور ب"هسبريس"، لظننا أنه لم يفعل ذلك عن سوء نية، وإنما وقع في خطإ التقدير والتأويل والقراءة، لما صرحنا به لجريدة الإتحاد الإشتراكي حول مواجهة التطرف الديني ببلادنا. فلنلق نظرة على ما عبّر عنه السيد القباج في مقاله، فما ثبت قولنا له أوضحناه وفسرناه ودافعنا عنه، وما ثبت أنه من باب التأويل ولي عنق النصّ اعترضنا عليها وبينا المراد بقولنا وحقيقة موقفنا. ويبدو أن السيد القباج كما بدا في أسلوب كتابته لمقاله كان ضحية انفعال كبير بسبب المواقف النقدية التي اتخذناها من شيخه المغراوي بعد أن زلت به قدمه في حقل السياسة الملغوم، وهي مواقف نقدية لا تستهدف الشخص تحديدا، بل ترمي إلى تصحيح الأخطاء، لأننا لم نكن لنشغل أنفسنا بالسيد المغرواي طرفة عين، لو لم تصدر عنه "فتواه" المخجلة بجواز تزويج بنت التسع، ولو لم "يضمن" لبنيكران وجماعته البقاء في الحكومة إلى "أن يرث الله الأرض ومن عليها" إذا هم "نشروا الإسلام بالمغرب"، ليس الإسلام المنتشر منذ أربعة عشر قرنا طبعا، بل إسلام العشائر النفطية التي لم تفلح في اللحاق بالعصر، فقررت جرّ الناس إلى صحراء قيمها القاحلة. عبد الله كنون والعقلية المغربية: كبا السيد القباج كبوته الأولى في مستهل مقاله، عندما أراد الحديث عن "العقلية المغربية" التي "نحتقرها" حسب زعمه، والتي أوضحها "العلامة السلفي" كما سماه، عبد الله كنون، في كتابه "النبوغ المغربي في الأدب العربي"، ولست أدري إن كان السيد القباج سيُصدقني أم لا إن قلت له إن سبب انخراطي في الحركة الأمازيغية منذ نهاية السبعينات من القرن الماضي، يعود في الأصل إلى اطلاعي على هذا الكتاب، الذي اكتشفت فيه مقدار الكراهية والاحتقار اللذين تكنهما بعض النخب المدينية لثقافة المغرب العميق، فهدف الكتاب الظاهر هو إبراز نبوغ المغاربة في الأدب العربي والثقافة العربية، وهو هدف شريف من الناحية العلمية لا اعتراض لنا عليه، لأن الأمازيغ نبغوا في الإبداع بكل اللغات سواء قبل الإسلام أو بعده، لكن استغلال ذلك من أجل تمرير إيديولوجيا "رسوخ قدم المغاربة في العروبة"، مع إشارات التحقير المغالي للمكون الأمازيغي الذي اعتبره "العلامة السلفي" مجرد مؤامرة استعمارية مصطنعة لا أساس لها في تاريخ المغرب، جعل الكتاب وثيقة إيديولوجية ل"الحركة الوطنية" المغربية، ساهمت في تعميق الشرخ الهوياتي الذي ظللنا نناضل من أجل ردمه خمسين سنة، إلى أن وصلنا أخيرا مع دستور 2011، إلى تدارك الخسائر التي أدى إليها خطاب اختزالي عنصري يعتبر التنوع مؤامرة، و يسعى إلى إعادة تشكيل الهوية المغربية والعقلية المغربية على مقاس إيديولوجيا شرقانية عرقية، تنكر خصوصية الشعب المغربي، فما يعتبره السيد القباج مرجعا له، هو هنا أفكار متجاوزة نسخها الدستور الحالي الذي صوت عليه السيد المغراوي ومن معه ب"نعم". أما الذهنية السائدة في المجتمع والتي نعتبرها ذهنية تخلف عميق ومتجذر، فهي مزيج من التقاليد البالية والأفكار الايديولوجية الدينية السلفية التي تمثل عائقا أمام أي تطور، وهذا لا علاقة له بموقفنا من الإسلام، دين أغلبية المغاربة، والذي يمكن قراءته بشكل لا يتعارض مع حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها عالميا، كما يمكن قراءته بطريقة تؤدي رأسا إلى الفتنة والتخلف، فقولة علي بن أبي طالب الشهيرة "القرآن حمال أوجه"، هي ذات دلالة عميقة بهذا الصدد. عصيد والنزعة الاستئصالية: كان واضحا من المقال المشار إليه أن غرض السيد القباج على ما يبدو ليس مناقشة أفكاري بل اتهامي بالنزعة الاستئصالية في مواجهة الاسلاميين، وهو بذلك يرتكب خطأ فادحا، إذ لن يستطيع أبدا إثبات ذلك حتى ولو قضى العمر كله في تهجّي ما أكتبه. إلا إذا كان متقولا تحريفيا، وفي هذه الحالة لا كلام لنا معه على الإطلاق، وأفضل الجواب أن نردّ بالقول "سلاما". ونقدم في هذا السياق المعطيات التالية للقارئ وللتاريخ: عشت النقاش مع الإسلاميين منذ سنة 1988، واعتبرتهم دائما مواطنين مغاربة أختلف معهم في كثير من الأشياء وأتفق في بعض الأشياء، لكن جوهر اختلافنا هو المرجعية التي يرونها دينية خالصة ونراها مرجعية فكرية سياسية نسبية ومنفتحة على كل المكونات وعلى مكاسب الإنسانية في العالم كله. عام 1994 كتبت مقالا أقول فيه إنه لا يمكن تجاوز الإسلاميين إلا إن مروا عبر تجربة الحكم، وإلا فسيظلون دائما بديلا وهميا عند العامة، وسيتزايد أنصارهم، وانتقدت سلوك الطغمة العسكرية في الجزائر التي أضاعت على الشعب فرصة أن يتبين حقيقة "المشروع الإسلامي". عام 2003، بعد التفجيرات الإرهابية بالدار البيضاء، بدأت بعض الأطراف السياسية والمدنية تشير إلى حزب العدالة والتنمية بأصابع الاتهام، بل طالب بعضهم ب"حلّ الحزب"، وفي حوار لي مع جريدة L économiste اعتبرت ذلك نزعة فاشستية لا تليق بمن يؤمن بالديمقراطية، واعتبرت أن للحزب شرعيته وله أتباعه ومنخرطوه الذين من حقهم العمل السياسي، ولا يجوز حله بسبب جرائم ليست له يد مباشرة فيها. بعد ذلك اعتقلت أعداد كبيرة من السلفيين، ولم أدع أية فرصة تمرّ دون أن أندّد بمعتقل تمارة وأساليبه اللاإنسانية، واعتبرت قانون الإرهاب حالة طوارئ غير معلنة، ودافعت عن سلفيين كانوا قد صرحوا بمواقف إجرامية كمثل الترحّم على من قتل فرج فودة واعتبار "الإرهاب مصطلحا قرآنيا" إلى غير ذلك من الحماقات، وكان موقفي أن هذه التصريحات آراء يمكن مواجهتها بالنقد وبتأطير المجتمع وليس بالاعتقال والتعذيب. وقد غادر هؤلاء السجن لكي يكيلوا السباب والشتائم للعلمانيين من جديد. عندما اعتقل مصطفى المعتصم وأمين الركالة ومحمد المرواني قي قضية بلعيرج كنت من أوائل من وقع على وثيقة المطالبة بحريتهم، واعتبرتهم في أكثر من مناسبة وأمام وسائل الإعلام والجمهور أبرياء من التهم الباطلة الموجهة إليهم. عندما اندلعت الانتفاضات الشعبية وشهدت الساحة المغربية التحركات الأولى في الشارع المغربي تحت تسمية حركة 20 فبراير، نشرتُ عدة مقالات أدعو فيها إلى وحدة الصف بين المتظاهرين ونسيان الخلافات لاكتساب القوة أمام سلطات الاستبداد، ولم أدع أبدا إلى التحفظ على المكونات الإسلامية المتواجدة ضمن الحركة. شاركت ما بين 20 فبراير و 1 يوليوز في 58 لقاء جماهيريا، كان بجانبي في كثير منها إسلاميون من مختلف التيارات والتنظيمات، ولم يظهر من خلاف بيني و بينهم إلا حول مفهوم الديمقراطية، حيث كانوا يقولون إنها صوت الأغلبية وصناديق الاقتراع فقط، بينما كنت أقول إنها قبل آلية التصويت والذهاب إلى الصناديق قيم ومبادئ راسخة قائمة أساسا على احترام الآخر المختلف، وعلى احترام حرية الفكر والتعبير وفصل السلط إلخ.. ولم أقل أبدا إن الإسلاميين لا حق لهم في المشاركة السياسية، ومقالاتي بعد تعديل الدستور حول مفهوم الديمقراطية تشهد على ذلك. بعد فوز حزب العدالة والتنمية نشرت تحليلا لما وقع ارتبط أساسا بموقفي من الدستور المعدل، والذي لم أصوت عليه في الإستفتاء لأن الطريقة التي تمت بها فبركته كانت ضحكا على الأذقان بالواضح، وكان نقدي موجها إلى السلطات المخزنية لا إلى الإسلاميين. بعد تولي حزب العدالة والتنمية الشأن الحكومي تابعنا خطواته بطريقة نقدية موضوعية، فما كان إيجابيا نوّهنا به وما كان خطأ نبهنا عليه، و معيارنا في ذلك مرجعية حقوق الإنسان بالدرجة الأولى. وما سيلاحظه السيد القباج إن نظر إلى هذا الموضوع بعين الإنصاف ، هو أننا لم نبادر الإسلاميين أبدا بالهجوم، بقدر ما كنا نأتي ردود أفعال على أخطائهم ومواقفهم التي نعتبرها مسا بحقوق الناس وانتهاكا لحرياتهم التي اكتسبوها بعد نضال مرير وتضحيات جسيمة. فنحن لم نهاجم الإصلاح والتجديد عام 1995 إلا عندما اعتبر بعضهم أن "الدعوة إلى تدريس الأمازيغية مخطط استعماري"، ولم نهاجم العدل والإحسان إلا بعد أن أصدر شيخهم المرشد كتابا ينكر فيه علينا حقوقنا جملة و تفصيلا ويتهمنا بالعمالة للأجنبي، ولم نهاجم "التجديد" إلا كلما نشرت ما يفيد التراجع عن المكتسبات من الحقوق الحريات، ولم نهاجم حزب العدالة والتنمية إلا كلما ارتكب قياديوه الأخطاء في حق غيرهم، ومن هذه الأخطاء ما صرح به السيد بنكيران حول حرف تيفيناغ الأمازيغي قبل الإنتخابات التشريعية مهددا بالسعي إلى حظره من جديد بعد أن صار رسميا، و بعد أن ظل محظورا نعاقب على استعماله طوال عقود الإستقلال. هل يمكن لمن كانت له هذه المواقف أن يدعو إلى استئصال الإسلاميين كما نسب إلينا السيد القباج ؟ إن الموقف الذي عبرت عنه لجريدة الإتحاد الإشتراكي موقف واضح لا لبس فيه، إنني أعتبر التطرف الديني الوهابي خطرا على المغرب وعامل نكوص وتراجع وتعثر، وأعتبره غريبا عن ثقافة المغاربة، ولكنني لا أنكر على الإسلاميين بكل مشاربهم حقهم في خوض الحياة السياسية المغربية، في إطار الإحترام التام لقواعد الديمقراطية وقيمها وبمبادئها، وهي القواعد التي لا تسمح لأي كان من الأطراف السياسية أن يفرض نمط تديّنه على الناس عبر المؤسسات والقوانين. كيف نواجه التطرف الديني الذي يهدّدنا: تملكني الإستغراب من الطريقة التي قام بها السيد القباج بتحريف كلامي عن مقاصده عندما اعتبر دعوتي إلى توحيد الصف الديمقراطي والنضال من أجل "تفكيك المخزن" مؤامرة متطرفة للإستيلاء على السلطة وقنواتها بطريقة انقلابية، والحال أن الأمر يتعلق بدعوة صريحة وواضحة إلى العمل في عمق المجتمع عبر تأطير الناس وتوعيتهم من أجل تغيير العقليات، والضغط المدني والسياسي بهدف إنهاء الاستبداد، فما أقصده ب"المخزن" هو لوبيات الفساد في الدولة، والتي هي نسق بنيوي أخطبوطي يمتد من الإدارة إلى الإقتصاد والإعلام والمجتمع والجيش وكل المرافق، ويشلّ عملها الطبيعي، ويفرغها من محتواها الحقيقي، هذا النسق المخزني اعتمد من بين آلياته على الدين الرسمي لنشر قيم الخضوع والطاعة والولاء والنفاق الإجتماعي،ومحاربة الوعي الديمقراطي في المجتمع، فمآخذي على التيارات اليسارية والتقدمية والليبرالية هي تقاعسها عن العمل التأطيري والتنويري للناس، واعتماد بعض مكوناتها على الملكية المطلقة وإمارة المؤمنين لحماية نفسها من التطرف الديني، بينما تستطيع الملكية المطلقة تغيير جلدها بالتحالف مع المتطرفين والتضحية بالمشروع الديمقراطي المغربي في حالة ما إذا ضعف الصف التقدمي أو تراجع في المجتمع. وهذا معناه أن موازين القوى تتوقف على عمل كل طرف ونضاله وأدائه السياسي والإجتماعي. وقع السيد القباج في خطإ آخر عندما جعلني أقول إن المخزن لا يمثل عائقا أمام الحداثة وحقوق الإنسان بل العقلية السائدة في المجتمع، وتساءل كيف أدعو مع ذلك إلى تفكيك المخزن، والحال أن الأمر يتعلق بقراءة فاسدة للسيد القباج، فالمخزن بعد أن نشر الوهابية السلفية المتشدّدة على مدى 25 سنة، لمواجهة اليسار المعارض، لم يعد بحاجة إلى قمع الحداثيين والديمقراطيين بشكل مباشر، إذ يكفي مواجهتهم بالسلفية والقول: الشعب لا يريد الحداثة والديمقراطية بل يريد التقاليد، بينما لا يتعلق الأمر بجوهر تقليدي ثابت لما يسمّى "الشعب"، بل بما أنتجته سياسات الإستبداد على مدى عقود. وهذا معناه أننا إذا أردنا تغيير العقليات ومحاربة التخلف الاجتماعي، فإن السبيل إلى ذلك هو الإصلاح الجذري للتعليم والإعلام وكل قنوات تأطير المجتمع، من أجل تربية الناس على قيم الديمقراطية، ولا أرى في هذا الرأي ما يفيد الدعوة إلى استئصال هذا الطرف أو ذاك، أو تكريس الهيمنة والاستيلاء على السلطة، وممارسة الاستبداد العلماني كما يسميه السيد القباج. لأن التمكين للديمقراطية داخل المؤسسات والقوانين والفضاء العام، هو في مصلحة جميع الأطراف، لأنها تضمن احترام الناس لبعضهم البعض في إطار المساواة والمواطنة، وهي مبادئ لا يقبلها الإسلاميون لأنها لا تسمح لهم باستعادة الدولة الدينية القمعية. اليسار والتناوب والمخزن: لو يرُق للسيد القباج أن نقول إن سياسة الحسن الثاني كانت تستعمل الدين لتدجين المجتمع، ولكي يردّ بالمثل ذكر تجربة التناوب وما صاحبها في رأيه "من تمكين ظاهر للأفكار والتوجهات العلمانية التي بسطت هيمنتها على الاقتصاد والإعلام والتعليم"، وأضاف إننا صمتنا على كل الخروقات التي عرفتها هذه المرحلة، والواقع أن السيد القباج يبدو وهو يكتب ما كتب كمن كان خارج الوطن، فنحن لم نتوقف قط عن التنديد بهذه التجربة التي أدت إلى تأخير الانتقال إلى الديمقراطية بشكل خطير، ذلك أن التناوب كان مخططا سلطويا لضمان انتقال العرش، أدى فيما بعد إلى إجهاض كل الأوراش التي أعلنت للإصلاح والإلتفاف عليها بآلياته التقليدية المعروفة، وقد شهد بذلك عبد الرحمان اليوسفي بعد أن خرج من التجربة بخيبة مريرة بعد أن دخلها بآمال عريضة، وحتى يكون السيد القباج على بينة مما نقول، ففي ظل أربعة وزراء تعليم يساريين هم اسماعيل العلوي وعبد الله ساعف والحبيب المالكي واخشيشن، عثرنا في الكتب المدرسية المغربية على كوارث التطرف السلفي التي لا يقبلها عقل سليم، مما يدلّ على أن الجهات التي تدبّر مجال التعليم ومكانة الدين فيه ليست هي الحكومات المتعاقبة، فلو نجح اليسار في تمرير قيمه في التعليم لما وجدنا مثل تلك الدروس الفضائحية واللاتربوية. إرادة الشعب: من بين الأخطاء التي وقع فيها السيد القباج كما وقع فيها الكثير من الإسلاميين، اعتبار فوز حزب العدالة والتتنمية في الإنتخابات تعبيرا عن إرادة الشعب المغربي، والحقيقة أن الحزب يمثل الأقلية التي صوتت عليه ووضعت ثقتها فيه، وهي لا تمثل في نسبة الأصوات المعبر عنها إلا 26 في المائة، أي أن 74 في المائة من المغاربة الذين صوتوا للأحزاب السياسية لم يختاروا الإسلاميين، وتتضاءل نسبة المصوتين للبيجيدي عندما نتذكر أن عدد الذين في سنّ التصويت هم 22 مليون وعدد المسجلين منهم في اللوائح هم 13 مليون، وعدد الذين صوتوا منهم لجميع الاحزاب لا يتعدون ستة ملايين ونصف، ومع ذلك يرى السيد القباج أننا بنقدنا لتخلف المجتمع إنما ننتقم "من الأغلبية التي اختارت أن يحكمها الإسلاميو، الأغلبية التي هي هنا مليون وثلاثمائة ألف مواطن، من أصل 22 مليون مغربي. إن العملية التي يتحدث عنها السيد القباج موجودة فعلا وهي التي تعبر فيها الإنتخابات عن صوت الشعب، حيث تتوفر كل الضمانات لعملية سياسية نظيفة، ففي فرنسا صوت 83 في المائة من الفرنسيين لأنهم يثقون في مؤسساتهم، أما في بلادنا فإن الحقيقة التي ينبغي أن توقظ الإسلاميين من غفلتهم إنما يعكسها السؤال التالي: لماذا تظلّ "إرادة الشعب" المغربي الحقيقية خارج اللعبة بكاملها؟ ما ننكره على الإسلاميين: لا ننكر على الإسلاميين كما زعم السيد القباج استعمال وسائل السلطة عند نجاحهم في الإنتخابات، ولا ننكر على السلفيين تصويتهم للعدالة والتنمية فهذا من حقهم، لكننا ننكر على الإسلاميين وعلى غيرهم استعمال وسائل السلطة لقهر غيرهم وإشاعة الظلم والميز واللامساواة وخرق حقوق الإنسان، وغصب الحريات وتكميم الأفواه، لأنهم بذلك إنما يعيدون سيرة المخزن الذي ضجر منه الناس. كما ننكر على السلفيين مطالبتهم العدالة والتنمية بنشر تطرفهم الوهابي في المجتمع، وتهديده بسحب ثقتهم منه إن لم يفعل، لأن الحزب المذكور لم يعلن ذلك في برنامجه الإنتخابي، والمحاسبة إنما تتم على البرامج الحزبية المعلنة وليس المخططات السرية التآمرية. فعلى السيد القباج إن أراد مناقشتي فيما أعلنه من أفكار أن يحافظ عليها كما هي لا كما يريدها أن تكون. الدستور الذي صوت عليه الشعب: استند السيد القباج إلى الدستور لينكر المواثيق الدولية وحقوق الإنسان التي اعتبرها "غربية إباحية" كما عبّر حرفيا، وأضاف في تأويل سلفي للدستور أن "إسلامية الدولة" تعني رفض كل ما يتعارض مع الدين من مواثيق واتفاقيات دولية، والمشكل هنا أن السيد القباج ينسى كلية بأن المغرب قد وقع وما زال يوقع على الاتفاقيات والعهود والمواثيق الدولية التي تتضمّن أمورا تتعارض مع الفهم السلفي للدين، وأن الدستور يتضمن أيضا سموّ المعاهدات الدولية على التشريعات الوطنية، وهو تناقض نبهنا عليه أكثر من مرة وقلنا إن المتطرفين الدينيين سيستغلون هذه المضامين المتعارضة التي ينبغي تدقيقها، وإن كان الدستور في الواقع يتحدث عن الإسلام الوسطي السمح المعتدل، وليس عن العقيدة الوهابية المنحرفة التي خرجت من تحت عباءة السيد المغراوي. في هذا المستوى يبدو أن التصادم مع السلفية قد يكون حتمية تاريخية ، ليس في المغرب فقط، بل في كل دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط،، إلا إذا تراجع السلفيون عن هذا الفهم المغالي والسطحي للدين. ما أتفق فيه مع السيد القباج: اهتدى السيد القباج في نهاية مقاله إلى أمور لا خلاف فيها بيننا، وهي أن الدين لا يفرض بالعنف والغلبة على المجتمع، وأن لكل قناعاته، وأن المطلوب هو حوار وطني عميق ومسؤول، ثم ترك المواطنين يختارون ما يناسب ميولهم من القيم وأنماط العيش، وما قاله الرجل هنا هو من صميم العلمانية بل هو جوهرها، وقد نصّت عليه أيضا آيات قرآنية، وإن كان بعض السلفيين ينسخها جميعها بحديث واحد مفضل لدى المتطرفين يقول "من بدّل دينه فاقتلوه"، فالسيد القباج لم ينتبه إلى أن المشكلة ليست في إعلان بعض الأفكار الجميلة، بل في مخالفتها في التدابير العملية والقرارات والقوانين، وهي التناقضات التي تملأ حياة المسلمين، التناقضات بين الأقوال والأفعال، وعليهم مناقشتها بوضوح وشفافية، وإليك هذا المثال الحيّ: فحرية المعتقد تحتاج إلى قوانين تحميها من تعسّف الأفراد والجماعات، والحال أن المتطرفين الدينيين واللوبي المخزني التقليدي عملوا في آخر لحظات وضع الدستور على حذف حرية المعتقد من هذه الوثيقة، وهو سلوك لا يبشر بخير، لأن من ينوي احترام هذا المبدأ الديمقراطي الصميم لا يسعى إلى حذفه من الدستور. وهذا مجرد غيض من فيض، فنقدنا ومحاسبتنا للإسلاميين لا يكون على النوايا ولا على الأفكار النظرية المجردة، بل على السلوكات والمواقف والتصريحات السياسية المباشرة، وإذا كنا نحترم حق كل واحد في المشاركة السياسية والتعبير عن آرائه والدعوة إليها، إلا أننا لن نسمح أبدا لأي كان بأن يمسّ بمكاسبنا من الحقوق والحريات أو يعيدنا على الوراء.