"ما قدهم الفيل زيدهوم الفيلة".. هارون الرشيد والسلطان الحسن الأول    ‬برادة يدافع عن نتائج "مدارس الريادة"    الدورة ال 44 لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب بالمنامة ...المغرب يشارك في فعاليات حدث رفيع المستوى حول الأسر المنتجة وريادة الأعمال    مجلس النواب يصادق على مشروع قانون الإضراب    المخرج شعيب مسعودي يؤطر ورشة إعداد الممثل بالناظور    أكرم الروماني مدرب مؤقت ل"الماص"    الجيش الملكي يعتمد ملعب مكناس لاستضافة مباريات دوري الأبطال    تبون يهدد الجزائريين بالقمع.. سياسة التصعيد في مواجهة الغضب الشعبي    حصيلة الأمن الوطني لسنة 2024.. تفكيك 947 عصابة إجرامية واعتقال 1561 شخصاً في جرائم مختلفة    بركة: أغلب مدن المملكة ستستفيد من المونديال... والطريق السيار القاري الرباط-البيضاء سيفتتح في 2029    وزير العدل يقدم الخطوط العريضة لما تحقق في موضوع مراجعة قانون الأسرة    الحصيلة السنوية للمديرية العامة للأمن الوطني: أرقام حول المباريات الوظيفية للالتحاق بسلك الشرطة        الاعلان عن الدورة الثانية لمهرجان AZEMM'ART للفنون التشكيلية والموسيقى    أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية .. رأي المجلس العلمي جاء مطابقا لأغلب المسائل 17 المحالة على النظر الشرعي        البيضاء: توقيف أربعيني متورط في ترويج المخدرات    هولندا: إدانة خمسة أشخاص في قضية ضرب مشجعين إسرائيليين في امستردام    آخرها احتياطيات تقدر بمليار طن في عرض البحر قبالة سواحل أكادير .. كثافة التنقيب عن الغاز والنفط بالمغرب مازالت «ضعيفة» والاكتشافات «محدودة نسبيا» لكنها مشجعة    الصناعة التقليدية تجسد بمختلف تعبيراتها تعددية المملكة (أزولاي)    المغرب يستورد 900 ألف طن من القمح الروسي في ظل تراجع صادرات فرنسا    جمهور الرجاء ممنوع من التنقل لبركان    وزارة الدفاع تدمج الفصائل السورية    مراجعة مدونة الأسرة.. المجلس العلمي الأعلى يتحفظ على 3 مقترحات لهذا السبب    الدورة العاشرة لمهرجان "بويا" النسائي الدولي للموسيقى في الحسيمة    العلوم الاجتماعية والفن المعاصر في ندوة بمعهد الفنون الجميلة بتطوان    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    اليوم في برنامج "مدارات" بالإذاعة الوطنية : البحاثة محمد الفاسي : مؤرخ الأدب والفنون ومحقق التراث    تفاصيل الاجتماع الأول لفدرالية الصحافة الرياضية بالمغرب    يوسف النصيري يرفض عرض النصر السعودي    الشبكة الدفاع عن الحق في الصحة تدعو إلى التصدي للإعلانات المضللة        توقيع اتفاقية بين المجلس الأعلى للتربية والتكوين ووزارة الانتقال الرقمي    "أفريقيا" تطلق منصة لحملة المشاريع    إلغاء التعصيب ونسب الولد خارج الزواج.. التوفيق يكشف عن بدائل العلماء في مسائل تخالف الشرع ضمن تعديلات مدونة الأسرة    أول دواء مستخلص من «الكيف» سيسوق في النصف الأول من 2025    مجلس الحكومة يتدارس أربعة مشاريع مراسيم    الملك يشيد بالعلاقات الأخوية مع ليبيا    ما أسباب ارتفاع معدل ضربات القلب في فترات الراحة؟    الإصابة بالسرطان في أنسجة الكلى .. الأسباب والأعراض    نظرية جديدة تفسر آلية تخزين الذكريات في أدمغة البشر    العصبة تكشف عن مواعيد مباريات الجولة ال17 من البطولة الاحترافية    "فيفبرو" يعارض تعديلات "فيفا" المؤقتة في لوائح الانتقالات    الإعلان عن تشكيلة الحكومة الفرنسية الجديدة        عودة نحو 25 ألف سوري إلى بلدهم منذ سقوط نظام الأسد    مستشار الأمن القومي بجمهورية العراق يجدد موقف بلاده الداعم للوحدة الترابية للمغرب        "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    المغرب يشارك في أشغال الدورة الأولى لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب بالرياض    اختطاف المخيم وشعارات المقاومة    تقديم «أنطولوجيا الزجل المغربي المعاصر» بالرباط    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العمري: المثقف وأسئلة التجربة السياسية الحالية في المغرب

علٌل الدكتور محمد العمري هزيمة الأحزاب اليسارية خلال الانتخابات التشريعية الأخيرة، كون الأحزاب اليسارية حسب رأيه لم تستطع تسويقَ الفكر اليساري ميدانيا، وعلى رأسِها، وفي مقدمتها، الاتحاد الاشتراكي، فهو جذع اليسار في المغرب" مضيفا في حوار مع جريدة الاتحاد الاشتراكي تعيد "هسبريس" نشره تعميما للفائدة بأن ما ينقص الأحزاب اليسارية ليست الأفكار، بل ما ينقصها هو "تبنِّيها وعرضُها بالملموس وبلغة مفهومة. ف"الأصوليون المعتدلون (والمتطرفون كذلك)"، بتعبير العمري، قاموا بدور التبليغ والتحفيز على أحسن وجه: "خاطبوا الناس مباشرة على طول الوطن وعرضه، وسجلوا لقاءاتهم على فيديوهات وأذاعوها على المواقع الإليكترونية. وفعلوا ما هو أهم في مجال التحريك السياسي وهو "صناعة خصم"؛ ظلوا يرجمونه بالحصا وبالحجارة بمختلف الأحجام، يهددون ويتوعدون".
واقترح العمري على اليسار بضرورة الالتحام بالشباب في الجامعات والمعاهد ودور الثقافة، والنقابات، وحيثما وُجدوا، لأجل مواجهة المشروع "المخزني" و"الأصولي". فالمخزن استولى على الأصوات والبرلمانات يقول العمري بالتزوير ولكنه "لم يستطع تدجين المجتمع المدني، القوات الحية ظلت مستعصية عليه، كانت تتنفس من فضاء الله الواسع، من القيم الكونية، ومن دعم الأحرار في العالم. يجب التوجه إلى الشباب المتعلم ودعمه في مطالبه العادلة في العمل والكرامة".
كما توقع العمري ممن يسميهم ب"الحقوقيين" اضطرارهم "إلى النضال من أجل الحفاظ على المكاسب وحُسن تأويلها، بدَلَ تنميتها وإغنائها. فآخر حروب الأصوليين المتطرفين والمعتدلين...كانت ضد رفع المغرب تحفظاته على المادتين 9 و 16، وقبلها كانت الحرب على الطبيعة المدنية للدولة".
وعن كيفية تنزيل بنود الدستور الجديد المتعلقة بالتعدد الثقافي والحضاري للمغرب، عبر العمري عن موقفه كون المسألة "ستخضع العملية لقانون العرض والطلب.. والحكومة الحالية مطوقة بأسبقيات تشغلها عن غيرها.. فالمسألة تتطلب بناء حضاريا مستمرا. وللحزبين الكبيرين في التحالف الحكومي أسئلة معلقة بالنسبة لقضايا الهوية تخالفُ تصورَ الحليفين الصغيرين: الأمازيغية (مع الحركة الشعبية، ولو للمساومة)، واليهودية (مع التقدم والاشتراكية، للطبيعة الأممية). ربما يستعمل منطق: كم من حاجة قضيناها بتركها. يجب الانتظار، وطول النفس، هذه أمور اِستراتيجية".
كما توقع، العمري أيضا، من أن حزب العدالة والتنمية أن يبعد حلفائه الإيديولوجيين لأنه ليس في صالحه "أن ينزلَ حلفاؤه الأيديولوجيون (وهم، لحد الآن، الجمعية المذكورة وأطياف السلفيين: الأصولية المتطرفة) إلى الشارع لمعارضة المطالب الكونية التي يدافع عنها خصومهم، وإلا تسبب ذلك في إرباك الحكومة، ووضعَها في مواجهة مع المسار الكوني الحقوقي، ومعروف ما سيترتب على ذلك من مشاكل لا قِبَل للمغرب بها".
كما تحدث العمري عن دور المثقف في الوقت الحاضر ووظيفته التنويرية وأشياء أخرى في هذا الحوار ...
- ما هي الأسئلة الثقافية والفكرية التي يطرحها التحول الناتج عن الانتخابات التشريعية الأخيرة وفوز العدالة والتنمية بها بنسبة لم تكن متوقعة؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال أضع كلمة "التحول" وجملة "لم تكن متوقعة" بين قوسين: التحول يقتضي أن يكون هناك اتجاه يُنزاحُ عنه، والواقع هو أن السياسة المغربية فقدتِ البوصلة منذ سنة 2002، وحزب الاستقلال الذي كان يقود الحكومة السابقة هو اليوم دعامة الحكومة اللاحقة ورئيسُ برلمانها، وربما يكون علتَها. إذن فما وقع لم يشكل أي مفاجأة بالنسبة إلي، وليس مصدر أي قلق، الأنسبُ لحالنا نحن اليساريين أن نقول: "الصَّيْفَ ضَيعْتِ اللبَن". سيجعلُ الله فيما وقع خيرا كثيرا إن تفاعلت الأطرافُ كلها إيجابيا، الجميع مقيد بقيود من حديد.
إذا لخَّصنا ما يهم الثقافةَ والفكرَ في تحقيق الحرية والمساواة وقيمِ العدل وحقوق الإنسان المتعارف عليها عالميا، بصفة عامة، فمن المفترض أن الوضع الراهن سيضيفُ عبئا جديدا. فحزب رئيس الحكومة متحفظ على قيم الحرية والمساواة وكثير من قيم الحداثة وحقوق الإنسان التي قضينا نصف قرن في المطالبة بها. ومن ورائه قوى سلفية متشددة ستحاول دفعه نحو مآزق ومغارات ينعدم فيها الأكسجين. نحن مستعدون لكل الاحتمالات؛ قضينا نصف قرن في مقاومة نظام مستبد يرفض التلاؤم مع المعايير الدولية في بناء حكم ديموقراطي يصون كرامة الإنسان فردا وجماعة، ومستعدون لقضاء الباقي من أعمارنا في نفس الطريق، هذا قدرنا.
ألا يعني هذا الفوز نزوعا عميقا للمجتمع المغربي نحو الأسلمة السياسية؟
المجتمع المغربي متدين بعفوية ويُسر، وتديُّنه، ككل تدين شعبي، خليطٌ من تعاليم الدين وطقوسه، ومن عاداتٍ وتقاليدَ محليةٍ: أسطورية وفلكلورية احتفالية؛ قد تصل من التناقض حد الغش (في القرعة مثلا) من أجل الحج، أو التسول والسرقة من أجل كبش الأضحية. التدين الشعبي معروف، مليئ بالبدع حسب عبارة السلفيين. الشيءُ الذي لم يعمل أحد على مساعدة الجمهور المتدين على اكتسابِه هو إثمار التدين في السلوك. سلوكنا مطبوع بالأنانية والنفاق، والقسوة...الخ
هكذا الناس، أما السياسة فهي السياسة: لا يمكن تديينُها وإلا فقدتْ صفتَها، أي النسبية والمسؤولية البشرية. لا يمكن أن نُحاسب الله على عمل "سياسي" يختبئ وراء الدين، ولا يمكن أن نحاسب "سياسيا" إذا سلمنا له مبدئيا أن ما يَدعيه هو شرع الله. الله جل جلاله لم يقدم أي مشروع للانتخابات الماضية. "الإسلام السياسي" قراءات بشرية مختلفة إلى حد التناقض. وإلا ما كانت لدينا في المغرب أربعة أحزاب "إسلامية" (العدل والإحسان، حزب حقيقي غيرُ معترف به، لأنه يصر على تقديم حزب باسم الله). وعندنا أيضا عدد من الجماعات والفرق التي يصل الخلاف بينها إلى حد تكفير بعضها بعضا. العدليون والعداليون يلتقون في الجذر المعجمي لاختيارهم الإسلامي (عدل)، ويتناقضون في الاختيار السياسي! فهل الإسلام هو المسؤول عن اختلافهما، أم تأويلهما وتصورهما، أي السياسة؟ وهما معا (إلى وقت قريب) عملاءُ للمخزن أو خرافيون في نظر الجماعات السلفية المقاتلة، وطلابُ دنيا عند التبليغيين وأصحابِ الزوايا المخترَقين.
فهل يتسع منبر المسجد لكل هذه الخطابات؟ سيصبح أشبهَ ببرج بابل! لا أحد يوافق على ذلك، حتى العداليون احتجوا على استعمال وزير الأوقاف لخطبة الجمعة في الدعوة إلى التصويت على الدستور، وهم متهمون من طرف اليساريين باستعمال المساجد وكانت نشأتهم الأولى فيها كانت مقراتٍ للشبيبة الإسلامية، ثم للسلفيين قبل أن ينتبه الحسن الثاني إلى خطورة ذلك ويخرجهم منها أوائل الثمانينيات.
الشيء الوحيد الممكن هو العمل من أجل تحقيق المقاصد العليا للدين في كل نازلة بما يوافق العقل والعرف ويحقق مصلحة الناس، وهذا شيء سيقبله خمسةٌ وتسعون بالمائة من المغاربة، وصدورهم متسعة كما كانت طوال التاريخ لكل اختيار تسلكه الخمسة بالمائة المتبقية، "ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا". ويمكن تلخيص هذه المقاصد في العدل والرحمة.
أليس عدد النواب البرلمانيين الذي حققه حزبان محافظان، هما العدالة والتنمية والاستقلال، (167 برلمانيا) مؤشرا دالا على انحسار الفكر التحديثي والتقدمي مغربيا، إن لم نقل هزيمة للمفكرين المثقفين الحاملين لهذا الفكر؟
هي، في الحقيقة، هزيمةٌ للأحزاب اليسارية التي لم تستطع تسويقَ الفكر اليساري ميدانيا، وعلى رأسِها، وفي مقدمتها، الاتحاد الاشتراكي، فهو جذع اليسار في المغرب، وإذا لم يتدارك نفسَه الآن سيكون علةَ هذا اليسار. فليستِ الأفكارُ هي ما ينقص اليسار في المغرب، الذي ينقصه هو تبنِّيها وعرضُها بالملموس وبلغة مفهومة. الأصوليون المعتدلون (والمتطرفون كذلك) قاموا بدور التبليغ والتحفيز على أحسن وجه: خاطبوا الناس مباشرة على طول الوطن وعرضه، وسجلوا لقاءاتهم على فيديوهات وأذاعوها على المواقع الإليكترونية. وفعلوا ما هو أهم في مجال التحريك السياسي وهو "صناعة خصم"؛ ظلوا يرجمونه بالحصا وبالحجارة بمختلف الأحجام، يهددون ويتوعدون؛ هذه شجاعة وبطولة يحبها الناس: من لا خصم له في مجال السياسة لا قضية له. شاهدتُ أكثرَ من عشْر فيديوهات للسيد عبد الإله بنكيران، وأهنئُه على ذلك، ولم أشاهد فيديوها واحدا لزعيم اتحادي غيرَ حديث عن الذات ونشر لغسيل الملابس الداخلية.
المجتمع المغربي مجتمع غير قارئ، مجتمع أمي بمعنى الكلمة، ولا أدل على ذلك من عدد النسخ التي تباع من الجرائد والكتب (الروايات خاصة). ولذلك لا بد من الوصول إليه بالصوت والصورة. من يظن أن الشعار الذي كانت التلفزة تؤشرُ عليه كنموذج أثناء الحملة الانتخابية اختيرَ عفوا فهو مخطئ، إنه شعار أحد الأحزاب أضيف إليه اللون البني، وبقي شكله دالا عليه، اكتشفه الأميون عند التصويت بسهولة، فهم لا تشغلهم الحروف عن الأشكال.
كيف تقرأ تموقع حزبين ذوي مرجعية يسارية (الاتحاد الاشتراكي والتقدم والاشتراكية) في خندقين متناقضين بالنسبة لحكومة عبد الإله بن كيران؟ ألا يشكل هذا مصدرا إضافيا للتشويش على الأداء الفكري للمثقفين المتخندقين يسارا وعلى القيم التي يدافعون عنها؟
لا أريد أن أجرح أحدا، ولا استعراض تاريخ أحد! قصارى ما يمكن قوله هو أنه وقعت خسائر متوالية في هذا الرصيد الثقافي السياسي اليساري على مراحل، منذ بداية حكومة التناوب، وبلغت الخسارة أوجَها في ظروف المؤتمر السادس للاتحاد الاشتراكي. ومعنى ذلك أنه لم يعد هناك "تخندق"، بقيت التزامات حقوقية شخصية غير متعلقة بأي كيان حزبي، وبقي عند البعض، فضلا عن ذلك، ارتباط عاطفي بالتاريخ يتلاشى تدريجيا، كما هي حالة عبد ربه. بعضُ أحزاب اليسار نفضت يدها من يد المثقفين واستراحت.
وارتباطا بما وقع، وحسب متابعتي من الخارج للمجريات، فقد كانت لحظة الترقب وإعلان النتائج ملتبسة، فاختيار الحزبين لم يكن حسب علمي اختيارا سابقا، بل هو حدث وقع في الطريق! سمعنا أنه ليست هناك خطوط حمراء.. وهذا ما دفع عبد الإله بن كيران إلى استباق الأحداث حين اعتقد أن الكتلة في جيبه، وبدأ يُلوِّح بتوفُّر إمكانيات أخرى للتحالف خارجها رغبة في كبح شهيتها، كما بدأ يشترط شروطا محرجة في صيغة التمني، ولو أنه خاطب الكتلة مجتمعة منذ البداية فلربما اختلفت النتيجة. أضف إلى ذلك ذهاب حزب الاستقلال منفردا لا يلوي على شيء، والتململ القوي الذي اعترى شباب الاتحاد وقواعده، الشيء الذي كان محدودا داخل التقدم والاشتراكية.
ما الدور المطلوب من الفاعلين الثقافيين (مؤسسات المجتمع المدني والمفكرين) في المرحلة القادمة ليستعيد الفكر التنويري والتحديثي ريادته مجتمعيا؟
موقفي من المخزن والأصولية الدينية المتطرفة معروف وثابت قبل قيام الثورات الحديثة؛ لي في ذلك كتاب بعنوان: منطق رجال المخزن وأوهام الأصوليين. هما عائقان من عوائق الحداثة. ولذلك فقَدُرُ الفاعلين الثقافيين أن يستمروا في الدفاع عن القيم التي ناضلوا من أجلها طوال نصف قرن. لا بد من الالتحام بالشباب في الجامعات والمعاهد ودور الثقافة، والنقابات، وحيثما وُجدوا. هذه هي المواقع التي تمت منها مواجهة الأصولية المخزنية في عز عنفوانها وجبروتها طوال نصف قرن. استولى المخزن على الأصوات والبرلمانات بالتزوير ولكنه لم يستطع تدجين المجتمع المدني، القوات الحية ظلت مستعصية عليه، كانت تتنفس من فضاء الله الواسع، من القيم الكونية، ومن دعم الأحرار في العالم. يجب التوجه إلى الشباب المتعلم ودعمه في مطالبه العادلة في العمل والكرامة.
سيضطر الحقوقيون، مع الأسف، إلى النضال من أجل الحفاظ على المكاسب وحُسن تأويلها، بدَلَ تنميتها وإغنائها. فآخر حروب الأصوليين المتطرفين والمعتدلين، مع الأسف، كانت ضد رفع المغرب تحفظاته على المادتين 9 و 16، وقبلها كانت الحرب على الطبيعة المدنية للدولة. لقد وصل الأمر بمُنَظِّر الحركة والحزب الأستاذ الريسوني أن اعتبر الحقوقيين المغاربة الذين سَعَوا لرفع التحفظات "فرنسيساً"، أي عملاء مندسين. ووصلت الحملة على السيدة وزيرة شؤون الأسرة (نزهة الصقلي) إلى حد التكفير من على المنابر، وفي المظاهرات المساندة للخطيب الذي كفرها. وأنا أستغرب لماذا لم تتابع هؤلاء المكفرين المحرضين قضائيا!
إن أول مجال سيعمل المتشددون من وراء الحكومة، وفي ظلها على تعطيله وإفساده هو مجال مكتسبات مدونة الأسرة. فغصتُها لم تنطفئ بعدُ عندهم. والتزويج دون السن القانون من الميادين التي مُورس فيها هذا التخريب قبل الحكومة الحالية، وسيستمر الآن بمنهجية، وسيمتد إلى التعدد، والولاية ...الخ
وسيحاول المتطرفون، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، تجفيفَ منابع الأنشطة الثقافية والفنية التي لا تخدم أجندتهم، ومن الآن نسمع من يُحدد مواصفات المهرجانات، وما ينبغي أن يكون وما لا يكون.. السلفيون يتحفزون لدفع الحكومة نحو الهاوية والحقوقيون يتربصون، والحكومة على المحك. كتب الأستاذ عصيد في أحد المواقع الإلكترونية مقالا يؤكد فيه أن لا تراجع عن المكتسبات الحقوقية المتراكمة منذ نصف قرن، فرد عليه شيخ سلفي (حماد القباج) بأن المغاربة عندهم ما هو أجل من "حقوق الإنسان"، وهو "حقوق الله". مثلُ هذا الخطاب المعادي لحقوق الإنسان يسُد باب النقاش. فالله لا يمكن أن يعرض كما سبق القول للتصويت المُعتمَد في حل الخلافات السياسية! وهو خطاب يتضمن نفيَ المحاوِر من الانتماء للمغرب.
سيكون من الحكمة التعاملُ إيجابيا وبحُسن نية مع الخطاب الذي تحدث به زعماء حزب النهضة في تونس، وبدأ يتحدث به زعماء العدالة والتنمية في المغرب بعد الانتخابات، نقول لهم ما قاله الرسول (ص): "أفلح إن صدق". لا بأس أن نتغير جميعا لنلتقي عند المواطنة في دولة مدنية تصون الحرية. وبذلك ستبقى الأصوليات المتطرفة والعنصرية والانتهازية على الهامش.
كيف تقارب تنزيل بنود الدستور الجديد المتعلقة بالتعدد الحضاري واللغوي للمغرب؟
ستخضع العملية لقانون العرض والطلب، المسألة مسألة توازن قوى، والحكومة الحالية مطوقة بأسبقيات تشغلها عن غيرها، ولها في ذلك عذرها. باستثناء الخطوات الأولية المطلوبة لأجرأة ترسيم الأمازيغية لا أتصور جديدا، فالمسألة تتطلب بناء حضاريا مستمرا. وللحزبين الكبيرين في التحالف الحكومي أسئلة معلقة بالنسبة لقضايا الهوية تخالفُ تصورَ الحليفين الصغيرين: الأمازيغية (مع الحركة الشعبية، ولو للمساومة)، واليهودية (مع التقدم والاشتراكية، للطبيعة الأممية). ربما يستعمل منطق: كم من حاجة قضيناها بتركها. يجب الانتظار، وطول النفس، هذه أمور اِستراتيجية.
ألا تشكل الأغلبية الحكومية الحالية، التي هي أساسا أغلبية محافظة، تهديدا للتنزيل الديمقراطي لهذه المقتضيات؟
هذا هو السؤال الحقيقي الذي ينبغي لليسار والدِّيمُقراطيين عامة أن يطرحوه على أنفسهم وهم يتهيؤون للتعامل مع الوضع الجديد. لن نتجنى على أحد إذا قلنا بأن تغيير الدستور لم يكن مطلبا لأي حزب من الأحزاب المشاركة في الحكومة الحالية. تصريحات زعمائها عند تقدُّم الاتحاد الاشتراكي بمذكرته موجودة وموثقة، واحدا واحدا. فكلهم كانوا يحتجون بأن الدستور القائم لم يستنفذ كل طاقاته، بل كانوا أكثر تمسكا بالفصلين 19 و24 من الملك نفسه. فكيف سيُطبِّق قانوناً من لم يكُنْ يرى ضرورة لتعديله أصلا؟
الأخطر من ذلك هو أن السيد رئيس الحكومة الحالي لا يؤمن بالملكية البرلمانية التي يحلم اليساريون بالوصول إليها! لا أدري أي تنزيل سينزلونه؟ نسمع الآن أن السيد رئيس الحكومة بصدد التنازل عن وزارات لاعتبارات غير دستورية..أو التشاور بشأنها؟ يجب التنديد بأي تنازل ولو بسيط عن السلطة التي يخولها الدستور للحكومة.. كما يجب التصدي لأي خرق أو تأويل رجعي.. هذه مهمة اليسار الآن.. سبق لي أن كتبتُ مقالا بعنوان: "الكلامْ علاش تعول" في الدفاع عن الوزير الأول، داعبتُ فيه ادعاء السيد عباس الفاسي إمساكَه بكل خيوط الوزارة الأولى، والحال أن الصحف كانت تتندر بالطريقة التي سُلمت له بها لائحة حكومته في ضريح مولاي إدريس.
يبدو أن العدالة والتنمية لن يمس حرية الإبداع من موقعه في الجهاز التنفيذي. لكنه دأب على تفويض مهاجمة هذه الحرية (خاصة في مجالات السينما والمسرح والغناء) لذراعه الدعوي (الإصلاح والتوحيد) أو لبعض منتسبيه ليجني هو ثمارها. في ظل هذا المعطى، ألست قلقا على حرية الإبداع مستقبلا؟
كان يؤخذ على خطاب العدالة والتنمية الخلطُ بين السياسي والدعوي. وقد بذلوا الآن مجهودا للخروج من هذا الخلط، ولو شكليا: فوضوا "التدافع" فيما ليس تدبيرا سياسيا صرفا للذراع الدعوي: جمعية التوحيد والإصلاح. المسألة تبدو عادية، بل محبذة، وما على الأطراف الأخرى المطالبة بالحرية والمساواة وحقوق الإنسان إلا أن تراقب وتندد بأي استغلال للنفوذ السياسي لصالح الذراع الدعوي.
من الأكيد أنه ليس في صالح الحزب أن ينزلَ حلفاؤه الأيديولوجيون (وهم، لحد الآن، الجمعية المذكورة وأطياف السلفيين: الأصولية المتطرفة) إلى الشارع لمعارضة المطالب الكونية التي يدافع عنها خصومهم كما وقع في خطة إدماج المرأة في التنمية وإلا تسبب ذلك في إرباك الحكومة، ووضعَها في مواجهة مع المسار الكوني الحقوقي، ومعروف ما سيترتب على ذلك من مشاكل لا قِبَل للمغرب بها. فالمغرب ليس دولة بيترولية بوسعها أن تولي ظهرها للعالم وتفعل ما تشاء؛ المغرب ليس إيران ولا السعودية. إن أي تمرد أو تراجع عن المسار الإنساني التحرري سيؤدي، لا قدر الله، إلى الفتنة، ثم إلى الاختناق. والمغرب يسيرُ وفي حذائه حجرُ "الجوار الشقي"، وهو محتاج لتنمية تعاطف القوى الكبرى مع مساره النموذجي في العالم العربي المتخلف لإنهاء قضية وحدته الوطنية على خير. الأصوليون المتطرفون مسكونون بالحقد على الحداثة والعلمانية وحقوق الإنسان، وهي لسوء حظهم مرتبطة بالمسار الكوني الحقوقي، والمغرب مفتقر إلى الاندماج في هذا المسار افتقارَ وجود وعدم.
اعتقد أن المجتمع المدني المغربي لا ينتظر من الحكومة الحالية إلا إن فتح الله بصيرتها أكثرَ مما نتوقع أن تبادرَ بالتوقيع على مزيد من الحقوق الإنسانية الكونية، ولكنه لن يسمح بتشويه المكتسبات وإفراغها من روحها بشتى الحيل. وقد بدأ هذا التحايل منذ الآن: فما كان "يسمى شرع الله" صار الآن يُسمى قانونا وعرفا. وهذا هو التفسير الذي صار يُعطى مثلا لواقعة احتجاج بنكيران على الصحفية، فالأمر لم يعدْ (في الخطاب الحالي) باسم الإسلام، ولكن باسم العرف أو القانون: يفترض أن يكون للبرلمان زي ما، أو شيء من هذا القبيل. وهذا باب للانزلاق قد يكون خطيرا، لأن كثيرا من المكاسب المرتبطة بالحياة العصرية غيرُ موثق في التشريع المغربي نتيجةَ نفاق الدولة، التي كانت تغض الطرف عن كثير من الممارسات، ولكنها لا تسجلها كحقوق مشروعة. كانت هذه استراتيجيةً مخزنية تحكمية تجعل الحقوق مِنَّة، أو تتحاشي إحراجَ "علمائها"، وتمارسُ المضايقة والعقاب على خصومها متى شاءت جراء ممارستهم لتلك "المحرمات" المباحة.
في البلدان العربية التي عرفت استحقاقات انتخابية في سياق ما يصطلح على وسمه ب"الربيع العربي"، اكتسحت الأحزاب ذات المرجعية الدينية صناديق الاقتراع. ألم يؤثر هذا المد على القرار الانتخابي للمغاربة، أم أن سلوكهم الانتخابي أملته عوامل داخلية محضة؟
لا يتعلق الأمر بالانتخابات، لأن تونس هي الوحيدة التي سبقتنا، بل يتعلق بالجو العام الذي خلقه تطور الأحداث نحو مزيد من العنف في مصر وليبيا واليمن (وسوريا أيضا) حيث أدى امتداد الصراع إلى دخول الأصوليين بقوة، وهيمن الخطاب الأصولي تدريجيا حتى سمعنا رئيس المجلس المؤقت بليبيا يقدم المرأة للثوار كغنيمة حرب، ومكافأة نهاية خدمة، وهو يعلن تحرير ليبيا، يا له من تحرير مُرغ في التراب مرتين!
هناك اختلافٌ كبير بين حالة تونس والمغرب وحالة ليبيا وما وراءها شرقا (وقد بَيَّنتُ ما يخص المغرب في مقال سابق بعنوان: المسار المغربي في الحراك العربي). يمكن الحديث عن الاكتساح بالنسبة لِ ليبيا واليمن بدون انتخابات، و مصر بالانتخابات، والبقية في الطريق. أما في المغرب وتونس فالأصوليون المعتدلون الذين تزعموا الانتخابات لم يحققوا أي اكتساح، فالاكتساح يفترض تجاوز الأغلبية المطلقة بكثير، فهم "بَطُّةٌ عرجاء"، كما يقول الأمريكيون.
في تونس وجدوا أمامهم مكتسبات ضخمة في المجال الاجتماعي (وضعية المرأة والتعليم)، وفي المجال الاقتصادي أيضا (صناعة مؤهلة وسياحة مجهزة). وفي المغرب أمامهم مجتمع مدني وحزبي سياسي متمرس على مقاومة الطغيان. ولذلك بقي حظهم نسبيا ومعقولا. والذي سهلَ حصولهم على النتائج المتميزة نسبيا هو الفساد السياسي والردة التي وقع فيها النظامان: البطانة الفاسدة التي أوقفت الإصلاح في المغرب بعد انطلاقه، والبطانة الفاسدة التي أتت على رصيد البورقيبية في تونس.
من العوامل المساعدة التي تفسِّر الوضع في المغرب إنهاكُ الأحزاب اليسارية المعارضة بإقحامها في اللعبة وتكبيلها لإظهار عجزها، ولا أريد أن أتحدث عن الفقر والأمية...الخ. هناك رغبة في التغيير، وهذا أمر طبيعي بالدين أو بغيره. إنها بداية تناوب بشروط أحْسِنَ، ولكن بأي رجال؟ هذا هو السؤال الذي نتركه معلقا إلى حين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.