الخيال عسل ننغمس فيه والواقع علقم نغرق فيه ... هذا هو حالنا من الأندلس إلى العراق وما بينهما ... و" لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " . ( 2 ) الفصل الثالث والأخير : جرو لقيط أزيز شاحنة مثقلة تمخر عباب الشارع أعاده لواقعه ... تنصل من فراشه ، شرب جرعة ماء من قارورة بلاستيكية، وقف مشدوها إلى اللوحة المعلقة ... لاك كلما ت مبهمة ... استدار خطوتين ، إصطدم بكرسي خشبي ، أزاحه جانبا ، تسمر أمام المرآة الملتصقة على باب خزانة الملابس ... لامس شعره المتآكل ، حاول أن يجحض عيناه فلم تسعفاه ... كشر عن أسنانه التي علتها ترسبات عفنة ، دمدم عبارات الحصرة والمرارة ... جلس على حافة السرير ، شرب جرعة ماء، أشعل سجارة بلا طعم ، إلتصق بجانب النافذة ... دموع المطر تنساب على الزجاج وتتكسر على جنبات الخشب ... نفث الدخان بتأفف على الزجاج حيث ترسبت فرشة ضبابية رسم عليها حروفا متناثرة لا معنى لها ، مسح الزجاج بمنديل ورقي وألقى به وبأعقاب السجارة خارج الشباك ... جلس على الكرسي الخشبي وراء الطاولة الصغيرة حيث تناثرت صفحات جريدة رخيصة وأنصاف أقلام الرصاص وأشياء أخرى ... زمجرة الرياح العاتية تقذف بحبات المطر مصحوبة بصوت غريب إلى أعماق الغرفة ... أصاخ بسمعه ناحية الزقاق ... صوت حاد يقزز النفوس ... حاول تجاهله ... ارتعش زغب ظهره ... أشعل سجارة دون رغبة ووقف وراء الزجاج ... المياه تكتسح الدرب وصدور الدور اقشعرت بلفحات الأمطار والصوت الحاد الغريب يشق السيول ... حدق ببصره إلى زاوية خارج دائرة ضوء المصباح على ناصية الزقاق ... أجسام صغيرة تتحرك بسرعة تحت وابل الأمطار.. إنها تقترب ويقترب الصوت الحاد ... دخلت دائرة الضوء ... هي قطط ، نعم قطط ... أربعة ، خمسة ، بل ستة قطط ... تجر بأنيابها قطة تبدو متهالكة ... إنها صاحبة الصوت الحاد ، تجرها برفق على ضفة بركة ماء ... القطط تتزاحم في جر زميلتهم المنهكة بسرعة ، تبعدها عن البركة ... وأخيرا وصلت القطة تحت شرفة باب البيت المقابل جثة هامدة وقد اختنق صوتها الحاد والتصق جلدها بضلوعها ... القطط المسعفة تسارع إلى حيث تجمعت الأكياس البلاستيكية ... تمزقها بأظافرها وأنيابها ... تنقل أشياء وأشياء للقطة الجريحة ... تبدو عظام الدجاج وفتات الأطعمة ... كدست أمامها ما يشبع بطنا آدميا ، أحاطت بها وكأنها تواسيها وتشجعها على النهوض ... تلعق عينيها وشعرهيكلها المنهك ، تحاول بعث الدفئ في جسمها ، تساعدها على الحركة وهي تلتهم الطعام بتأني ... بدأت تحرك أطرافها ، تلملم جراحها، تصارع الوهن ... أخواتها تلعق جسدها ، تساعدها على الوقوف... رفعت رأسها .. تتلذذ أكلها وزميلاتها تدفئها بأنفاسها ... سبح لله ، إستغفر ربه ... إيه ، مخلوقات غير بشرية تفيض قلوبها بالرحمة والشفقة ... تتنافس على مصارعة الجوع والموت ولا تتهاون ولا تتقاعص عن فعل الخير ماتت جذوره في عمق قلوب تمشي على رجلين خلقت من أجله...أخرج من جيب سترته منديلا ورقيا ، مسح وجه الزجاج من الترسبات المطرية ، ألقى بالمنديل الورقي إلى الدرب ... أشعل سجارة بعد تأفف عميق ... وقفت القطة المتهالكة على رجليها وقد انتفخ بطنها وجف شعرها ... تعانقت القطط بحرارة فرحة بإنقاذ أختها من الموت المحقق ... قفزت بسرعة البرق فوق الأصوار تنط على السطوح تحت حبات المطر العنيف غير مبالية بلفحات الرياح العاتية ... رمى بأعقاب سجارته على سطح البركة المائية ، أغلق نصف النافذة ، جلس على الكرسي الخشبي أمام الطاولة الصغيرة ، إلتقط صفحة من صفحات الجريدة الرخيصة دون رغبة ، غسل وجهها بلمحة فاترة ، أسقطها بعنف بين نظيراتها ، فتح ملفا أزرقا يضم بين دفتيه أوراقا صفراء ... قرأ عنوان روايته المبتذلة التي تنتظر الترميم وتحلم بالإفراج منذ سنوات ... تأفف بمرارة وأسقط رأسه بين كفيه يدلك جبينه بانفعال شديد ... إذا بعثوا لي مستحقات ترقيتي المنسية لن أشتري الشقة ولن أشتري أحلام أبنائي ... سأنشر روايتي حتى وإن كانت بضاعة فاسدة ... سأتعلم ... وأتعلم ، أحاول تحقيق حلمي رغم تحفظ زوجتي ... هي محقة في تحفظها أنا أعرف ذلك ... الأطفال يحتاجون للطعام واللباس والمدرسة ولعب عشراء وحناء ليلة القدر ... ومسكنا يضمن استقرارهم ،، أعرف أن نادية محقة ... هي تشمئز كثيرا من دقات الحاج مموعلى بابنا آخر كل شهر ... نظرات البقال الحجرية تثير في نفسها التقزز ... مساعدات السي محمد وحياة ونجية مطارق تدق بقوة على أم رأسها وكماشة تعصر قلبها ... أعرف هذا ... إنها لا ترضى أكل ما هو ليس لها وإن كان من كرم إخوانها ... هي لا تغار من حبي للكتابة ، تتمنى أن تتجمع أحلامي بين دفتي كتاب في يوم من الأيام ... لكن بساطة أفكاري وضيق الحال لايشجعانها ، تزاحم الإحتياجات تصور لها الحلم مضيعة للوقت ... تأفف بمرارة ، أغلق الملف الأزرق ورمى به إلى عمق الخزانة الصغيرة مع قصص مخطوطة على أوراق صفراء . جلس على حافة السرير ، أشعل سجارة من دون طعم ، عاد للنافذة يتأمل كرم السماء ... القطط تمرح بقفزاتها فوق السطوح تحت حبات المطر غير مبالية بلفحات الرياح العاتية ... ابتسامة عابرة انزلقت من بين شفتيه المحروقتين ، ألقى بنصف السجارة على سطح البركة المائية ، عاد للطاولة الصغيرة ، شرب جرعة ماء ... فتح الباب ببطئ ، تحسس طريقه على ضوئ الشارع إلى الغرفة المجاورة عبر الممر الضيق يلامس الأرض حافي القدمين ... وقف بجانب السرير يتأمل وجه يوسف وهو يغط في نوم عميق ... إغرورقت عيناه ، جلس بجانب جسده النحيل المكوم تحت لحافين صوفيين فقدا الكثير من دفئهما يراقب أنفاس إبنه الوحيد أكبر أخواته الاربعة لم يتجاوز ربيعه الثالث عشر بعد ... طفولة بريئة تكتوي بنار رذالة القلوب المتحجرة ... وجه مستدير بوجنتين إستنشقتا ألوان بلعمان وعينين واسعتين ملأتهما ظلمة الليل يعلوهما حاجبان كثيفان زادا الطفل وسامة ووقارا... سافر بين أنفاسه الهادئة يقرأ لوحة تمزق أكباده... كم يقسو على الولد في تربيته ، يحمله أكثر من طاقته ... في دراسته ، وفي تهذيب أخلاقه ،وفي تعليمه الصلاة .. يكلفه بمهمات مقيتة ومملة ، يثقله بشخصية عنترية ... صرامة جافة ... هو يعرف ذلك ... كم مرة عاقبه بقساوة لأتفه الأسباب ، ضربه ضربا مبرحا لا تتحمله الأجسام الكبيرة ، نهره بكلمات مهينة مرات ومرات ، خاصمه أكثر من مرة ... صرامة قاتلة ... قساوة الزمن الردييء أفقدت الأب الأبوة والطفل براءته وجماله فمات قلب الأب وغرقت في جوفه شخصية طفله ... تملكه الخوف والخجل من حقوقه قبل واجباته ... هو يدرك قساوته ، قلبه يعتصر وعقله ينزف ... قد ينكمش قلب الطفل على كرهه ،، كره طفولي مبرر وصرامة أبوية مبررة ... أب يحاول ترميم نفسه ... يتذكر بمرارة إهمال والده لتكوينه وإخوانه ... كم عانى من قساوة تربية والدته ... عقاب مبرر بتكاسله وآخر لا يبرره حبه الفاحش لكرة القدم ولأقرانه في القرية ... عقابات الوالدة كانت جارفة لا تنتهي وإهمال أب قتل في أعماقه حب الحياة ،، وطفل لا حول له غير أحلام الأطفال التي لم يتلذذ بها كأقرانه ... مسح بكم سترته دموعه الساخنة ، لامس شعر يوسف الناعم ، قبل جبينه بحرارة وكأنه يلتمس منه العفو والصفح ، وضب غطاءه وربت على جنبه وأمطره بدعوات الرضى ... دخل الغرفة المجاورة ، إصطدمت عيناه بوجه أم يوسف وزينب وعتاب وغيتة وكنزة الممددة بين أنفاسهن الهادئة ... تأمل بحصرة جلدها وقوة تحملها لحياة مليئة بالنكبات حتى الإنتفاخ ، لامس رأسها برفق ودثر جنبيها ، رسم قبلات الحب والرضى على جبين البنات ... تذرع إلى ربه بأن ينورعقولهن ويحقق أحلامهن المشروعة ... تركهن تحت الرعاية الربانية يسعهن قلب أم يسبح لله ولحبهن ومتيم بيوسف الذي لا ينام ويستيقض إلا على لمساتها ... عاد لغرفته يتحسس الممر الضيق حافي القدمين ... أغلق بابه ، جلس على الكرسي الخشبي وراء الطاولة الصغيرة ، شرب جرعة ماء ، ألقى نظرة على عقارب الساعة المعلقة فوق باب الغرفة ... إقترب موعد آذان الفجر ... الطقس بارد وممطر ، الأزقة منتفخة بالمياه والشارع تحول إلى بحيرة طويلة ، الوصول إلى المسجد جد صعب ... لكنه ألف صلاة الصبح مع الوجوه البائسة ... وجوه طاهرة لا تتخلف عن موعد المسجد غير آبهة بالعيون المترصدة ... شعارها لكم دينكم ولي ديني ... صرير الأكياس البلاستيكية المكدسة بالأزقة والمنتفخة بالقمامة النتنة التي لم تجرفها السيول نغص عليه سكون الغرفة ، صرير أقوى من أنياب القطط والكلاب الضالة ، صرير اخترق فضاء الغرفة الملوث بروائح السجائر والرطوبة الخانقة على أجنحة الرياح المزمجرة وخرير المياه المطرية ... حركات فوضوية في الدروب والأزقة ... لم يتماسك نفسه ، أشعل سجارة على عجل وأطفأ المصباح وانتفض واقفا ، إلتصق بجانب النافذة ... غسل الحومة بنظرة شاملة ... لا حركة ولا وجود لأي كائن حي ... حتى القطط غادرت السطوح ... الكلاب لا تقوى على هذا الغضب الطبيعي .. بحيرة الشارع حاجز قوي في وجه كل الآليات ... الأمطار والرياح سيدة الساعة والمكان...لكن صرير الأكياس المنتفخة بالروائح القذرة يصفع طبلتي أذنيه ، رمى بأعقاب السجارة وراء البركة المائية ... أمطار وخرير ورياح وحركات فوضوية تعلوها تهاليل الفجر ... صورة صوتية إكتضت بشتى الألوان والأذواق ... ضوء وهاج اشتعل وراء الزجاج بالطابق الثالث على الضفة الجنوبية للساحة الممتدة من شرق الحومة إلى غربها حيث يلعب الصغار بالدراجات الهوائية أيام عطلهم ويلعب الكبار كرة القدم على امتداد أيام بطالتهم ويعاكسون البنات بعد ما يسدل الظلام خيوطه ، وتتحول إلى مرتع لترويج واستهلاك كل أصناف المخضرات وممارسة اللصوصية والمعارك الشاذة بين أبطالها في عمق الليل ... رأس أصلع أطل خارج الزجاج ، يطوف ببصره بين أركان الساحة يتفقد أحوالها ... إنها منتفخة بالأوحال تسبح في المياه المتسخة ، وحبات المطر تسقط عنيفة ... جر الكهل رأسه الأصلع وأغلق الزجاج ... برق ورعد وزمجرة وخرير وصرير ... والمؤذن يهلل لصلاة الصبح بينما كان شبح يخترق ظلمة زقاق يلامس بيت الرجل الأصلع ..دخل دائرة المصباح المنتصب فوق الزاوية اليمنى للساحة ،، هيكل يمشي على قدمين يلفه لحاف بلاستيكي يجرعربة خشبية إنتفخت بالتفاهات وأثقلتها أوحال أيامنا القذرة ... اقترب من الأكياس المكدسة تحت شرفة الباب ، قوس ظهره يبحث عن أشياء قد تهمه ولا تهم الرجل الأصلع ... باغته صوت خشن متفجر من خارج النافذة ... - من هناك ؟ توقف الشبح عن ما كان بصدده ورفع وجهه إلى النافذة ... وبنبرة فضة ومقيتة نزلت عليه مطارق تدق في رأسه مسامرا سامة ... - ماذا تفعل هناك يا كلب ؟ بصوت مبحوح ومحروق كمن ابتلع حفنة تراب أجابه وقد أغطس رأسه بين الأكياس التي تفوح منها روائح تثيرفي النفوس التقزز... - فقط أنا ، يا سيدي الحاج ، .. - أنت من .. ؟ ومذا تفعل هناك .. ؟ - أبحث عن ... - تبحث ... ؟ تبحث عن ماذا يا لص ...؟ ألا يقهركم لا البرد ولا الثلج ، يا حيوان .. ؟ - جمع الأزبال ... هو لصوصية ، يا عمي الحاج ؟ وهل البرد أقوى من الجوع ... أيضايقك هذا في شيء ، يا سيدي الحاج ؟؟ - ألأزبال لم نضعها هناك لك أو لأمثالك ... ألا تشبعون ، يا أوباش ..؟ - أما زلتم بحاجة لهذه الأزبال ياحج .. ؟ - إنصرف يا حيوان وإلا ... - وإلا ماذا ، يا أبي ؟ هل أنت من الكلاب المسعورة ..؟ أظنك من أسراب الباعوض الذي إجتاح البلاد وامتص دماء كل الناس ... أليس كذلك ، يا حاج ؟... ألم تكفيك سرقة نومنا وأحلامنا ، .. ؟ تسرب إنتفاخ الأصلع من ثقوب جلده المنكمش على ضغائن وأحقاد سامة تحت ضوء مصباحه الوهاج حتى أصبح في حجم جرو لقيط يعوي في صمت وراء الزجاج ... أغلق نافذته الخشبية بقوة المذعور وأطفأ مصباحه الو هاج والمؤذن ما زال ينادي لصلاتي الفجر والصبح ... دمدم الشبح كلمات غاضبة وترك العفونة لصاحبها وجرعربته الخشبية بعنف كثور هائج ، يشق أمواج الشارع الطويل ... إلى بيت الله. انتهت فصول رواية : لاتكفر بوطنك اضغط هنا لقراءة الفصل الأول اضغط هنا لقراءة الفصل الثاني