منذ أن أعلن وزير الاتصال الناطق الرسمي باسم الحكومة عن دفتر التحملات الخاص بالإعلام المغربي وما فيها ومنع القمار لحماية الناشئة، والدفاع عن اللغة العربية والأمازيغية وفرض اللأذان احتراما للهوية المغربية والمعركة لم تضع أوزارها بعد، وعلى الرغم من المبررات التي ساقها وزير الاتصال للدفاع عن مشروع أعده في ظل شراكة واتفاق مع جميع الفاعلين في الشأن الإعلامي، إلا أن لوبي فرنسا بالمغرب تحرك بانسجام تام من أجل مناهضة المشروع برمته...، لكن العجيب أن تيارا من النخب العلمانية وبعض الأحزاب ذات الهوى الحداثوي داخل الحكومة وخارجها اصطفت إلى جانب من كانوا بالأمس القريب يعتبرونهم رمزا للإعلام السلطوي الممخزن. وفي اللحظة التي انتصب فيها هؤلاء في وجه تنزيل دفتر التحملات الخاصة بالإعلام، نجدهم قد جعلوا من أنفسهم وعاظا لإخوانهم في المشرق، خاصة للمصريين منبهين إياهم من مصائد الإسلاميين، إذ يتابع المغاربة باهتمام كبير حمى الانتخابات في بلد الكنانة، حيث تحول المغاربة إما إلى : إسلاميون مرتبكون بين خيارات متعددة، هدفهم تطبيق الشريعة التي يرون آنه قد آن أوانها، أو هم علمانيون حائرون بين رفاق الأمس وليبراليو اليوم، متدرعون بالدفاع عن الدولة المدنية الضامنة للحرية، أو هم مدعمون "للفلول" من بقايا النظام السابق، وبعد فصل العشرة المبشرين بالرئاسة تقلصت الاحتمالات أكثر، وبات الصراع محصور بين محمد مرسي أو عبد المنعم أبو الفتوح من التيار الإسلامي وصباحي من التيار العلماني، وعمر موسى من بقايا النظام السابق. وكم أتمنى لو أن جريدة هسبريس الغراء أقامت استبيانا إلكترونيا للمغاربة لمعرفة من يريدون رئيسا لمصر، نتيجة هذه المتابعة الشديدة من طرف المغاربة. تبدو هذه المتابعة الشديدة طبيعية نظرا لمركزية مصر في العالم العربي، حيث لما كانت مصر ناصرية "تنصرت" معها الشعوب العربية، ولما اختارت الليبرالية أصبحت الموضة المعلنة هي الدفاع عن الرأسمالية والخوصصة والسوق الحرة، ولما انخرطت مصر في مسلسل التطبيع مع إسرائيل تبعتها الحظيرة كما عبر عن ذلك الشاعر أحمد مطر مستهزئا، وواصفا السادات بالثور الذي فر من حظيرة البقر قائلا: الثور فر من حظيرة البقر .. فثارت العجول في الحظيرة ... تبكي فرار قائد المسيرة... وبعد عام وقعت حادثة مثيرة... لم يرجع الثور... ولكن ذهبت وراءه الحظيرة. ولما اضطهدت مصر الإسلاميون حدث نفس الشيء في العالم العربي وبشكل كاريكاتيري في بعض الأحيان، إذ كان الإخوان في معظم الدول العربية، يعذبون بجريرة اقترفها إخوانهم في مصر!، بل إن الدول التي لم يكن فيها للإسلاميين وجود يذكر مثل المغرب، تأثروا أيضا بما يقع في المشرق، وعاشوا دور الضحية في ظل أدب المحنة على لسان زينب الغزالي والشيخ كشك وسيد قطب وحرموا أنفسهم تمكينا شعبيا ومؤسساتيا تأخروا كثيرا في جني ثماره.. الاخوان المسلمون والدرس المغاربي : تعيش الحالة المصرية اليوم تجييشا ضد التيار الإسلامي، يبدو أنه يسير وفق مخطط منظم ومحكم يشارك فيه الإعلام بكل توجهاته سواء أكان مرئيا أم مكتوبا أم إلكترونيا، مع تحالف واضح لمختلف التيارات العلمانية يسارية كانت أم لبرالية، مضمونه الأساسي اتهام الإسلاميين بمحاولة التسلط والهيمنة والاستيلاء على مؤسسات الدولة، خاصة بعدما قررت حركة الإخوان المسلمين التنافس على منصب رئيس الدولة، وفي هذا كتب الكثير عن الدرس المغاربي الذي يجب أن تستفيد منه حركة الإخوان المسلمين، حيث مجد مثلا فهمي هويدي تجربة العدالة والتنمية المغربي ومواقفهم السياسية متسائلا : لماذا كانوا أكثر نضجاً ؟ ، وفي نفس الاتجاه امتدح وحيد عبد المجيد زعيم حركة النهضة راشد الغنوشى ووصفه بالحكيم في مقالة له بعنوان "لماذا وحَّد الغنوشي الشعب التونسي... ". أمام هذا الافتتان المشرقي بالتجربة المغاربية سواء في المغرب أو تونس، والمقارنة بين الحركة الإسلامية المغربية ونظيرتها المشرقية، لم يطرح أحد مقارنة من نوع آخر بين العلمانيين المصريين خصوصا ونظرائهم في المغرب، أيهم أكثر حكمة !.. العلمانيون المغاربيون والدرس المصري ... ! العلمانيون في الشرق لا يشبهون إخوانهم في الغرب، ذلك أن علمانيتهم ليست ذات منحى فلسفي جذري في مواجهة قيم المجتمع، وإنما هي توجه سياسي لمواجهة المد الإسلامي التنظيمي، .. فالمتتبع للحالة المصرية اليوم يلاحظ تطورا كبيرا في خطاب العلمانيين، فخطابهم وإن كان شديد الانتقاد لتصرفات الإسلاميين إلا أنه لم يتجاوز ذلك إلى مواجهة الخلفيات الفكرية والإيديولوجية للتيار الإسلامي، بل إنهم أبدوا مرونة أكبر بقبولهم وثيقة الأزهر حول الدستور والتي تنص صراحة على أن الشريعة الإسلامية ومبادئها مصدر أساسي للتشريع، والمتتبع لأساطين الفكر الليبرالي واليساري بمصر يلمس مدى إلمامهم بالمشروع الإسلامي ومدى احترامهم للحضارة الإسلامية وتعاليمها، ويمكن أن نأخذ كمثال على ذلك أهم رموز التيار العلماني في مصر مثل عمرو حمزاوي والذي في مناظرة له مع الشيخ عبد المنعم الشحات دافع عن مرجعية الشريعة الإسلامية، بل أكد على أن حرية الفكر مكفولة، ولكن بشرط عدم مخالفتها للشريعة الإسلامية، ولما سئل هل ستصوت على مشروع يصادم قيم المجتمع وأخلاقه، قال أن أي قانون يخالف تعاليم الإسلام سأقوم بمناهضته، أما الإعلامي الشهير إبراهيم عيسى فقد كتب أن الشريعة في مصر مطبَّقة ما عدا تنفيذ الحدود! ، وتحدث عن شروط تطبيق الحدود ، أما حزب الوفد العلماني ففي برنامجه أكد أن الإسلام دين الدولة ومبادئ الشريعه الإسلاميه هي المصدر الرئيسي للتشريع"، بل حتى الأقباط في مصر ممثلين في البابا شنودة كان مؤيدا للشريعة، ويكفي أن نقرأ البيان الذي أصدره الشيخ يوسف القرضاوى رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين والذي قدم فيه العزاء فى وفاة البابا شنودة بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية قائلا "هو الذي كانت له كلمات لا تُنسى في تأييد الشريعة الإسلامية"، وقد وجدت حرجا كبيرا في سرد مواقف التيار العلماني الكثيرة والمتنوعة في الدفاع عن قيم المجتمع وهويته الحضارية، وانعكس ذلك على الانتخابات الرئاسية المقبلة والتي أبدى فيها كثير من العلمانيين تأييدهم الواضح لعبد المنعم أبو الفتوح وهو قيادي سابق بجماعة الإخوان المسلمين، نزوعه الإسلامية واضحة. حيث تحول الخلاف في مصر، ظاهريا على الأقل، من حوار إيديولوجي إلى حوار سياسي محض يتعلق بالاستقطاب الجماهيري أكثر منه فرزا ثقافيا وقيميا، فالخلاف حول الدستور مثلا انتقل من موضوع الهوية والفصل الأول كما هو الشأن في تونس والمغرب، إلى خلاف تقني حول شكل الدولة المصرية، هل نفضل دولة رئاسية أم دولة برلمانية، وبدى التقارب واضحا بين العلمانيين في أقصى اليسار مع السلفيين في أقصى اليمين تفضيلا للدولة الرئاسية، في مواجهة جماعة الإخوان المسلمين التي تفضل نظاما برلمانيا تكون فيه حكومة ائتلافية يقودها الحزب الفائز، مع صلاحيات ضعيفة للرئيس، لذلك استشعر الإخوان المسلمون الخطر من انسحاب التيار العلماني من تأسيسية الدستور، وأن الأمر سوف يسير نحو دولة رئاسية لا سلطة فيها للبرلمان، الشيء الذي اضطرهم لتغيير موقفهم بتقديم مرشحين للرئاسيات، من أجل البحث عن موقع قدم في السلطة التنفيدية ومحاربة الإقصاء الممنهج ضد القوة الأولى في البلد. وعلى الرغم من اختلافنا في تقييم موقف جماعة الإخوان المسلمين سلبا أو إيجابا من قضايا الدستور أو الانتخابات ... فإن الملاحظ هو حفاظ النخبة السياسية المصرية على حدود للمعركة لا تتجاوزها تتمثل في الصراع السياسي المحض، دون أن يؤدي ذلك إلى الانجرار نحو صراعات هوياتية تجعل من الإسلام كدين محل تشكيك واتهام، في مقابل ذلك استغل العلمانيون المغاربة الفرصة لتقديم النصح لإخوانهم العلمانيين في المشرق، منبهين إياهم ومذكرينهم بطبيعة المعركة مع الإسلاميين وأنها ليست معركة سياسية فقط وإنما هي معركة ثقافية قيمية حضارية، تمتد عبر التاريخ لتضرب في جدور الإسلام نفسه، إنها معركة حياة أو موت، والمتأمل لخطاب العلمانيين المغاربيين عموما يلمس ذلك جليا، حيث كتب ادريس الملياني مثلا في جريدة أخبار اليوم 05 / 04 / 2012 متحدثا عن الوضع في مصر "...فالإخوان الأعداء بينهم لن يجدو ورقة توت أو تين واحدة تواري عورة الدولة الإسلاميةالفاشلة ماضيا وآنيا وآتيا، لا في خلافة راشدة ولا أموية ولا عباسية ولا أندلسية ولا سنية ولا شيعية ولا باطنية كالقرمطية ولا في الصفوية الخمينية ولا حتى في إخواننا الأعداء"، ولو شئنا تتبع ما يكتب في الآونة الأخيرة من سم زعاف تجاه الإسلام ومبادئه وقيمه، من طغمة فرانكفونية متغربة في المغرب وحده لما كفتنا مثل هذه المقالة القصيرة. فإن كان من خاتمة نخلص إليها في ظل هذا السجال حول دفتر التحملات التي جاء بها وزير الاتصال الخلفي، أن يتعلم علمانيو المغرب من علمانيي المشرق، حيث لا يوجد علماني في مصر نادى بوضع القمار في الشاشات الخاصة فما بالك بالشاشات العمومية، ولن تجد أحد من العلمانيين المصريين يدافع عن الإنجليزية ضدا في اللغة العربية...، ولن تجد أحدا منهم يطالب بمنع الأذان من القنوات العامة التي تمول من طرف الشعب، بحيث يمكن القول أن علمانيو مصر ظاهريا على الأقل أكثر تشددا في قضايا الهوية من إسلاميي تونس والمغرب، فهل نسمع من علمانيي المغرب قولا مثل: لماذا كانوا أكثر نضجا وحكمة منا .. !!