البابا شنودة رمز ديني كبير، وقد دانت له الكنيسة المصرية لأكثر من أربعين سنة إلى الآن، وبسلطة مطلقة تعاقبت عقودها وتوثقت عهودها، وراكمت للرجل حسابا ممتدا فيه من الخطايا ما قد يجور على المزايا. وربما كانت أعظم مزايا البابا من وجهة النظر الوطنية أنه وقف سدا منيعا ضد إغراءات التطبيع مع إسرائيل، فقد أسس الرجل مبكرا لرفض ديني مسيحي لخرافات الشعب المختار وأرض الميعاد، وقد رفض بإصرار التصريح لأي مسيحي مصري بزيارة الأراضي المقدسة تحت الاحتلال، وتصدى بعناد باسل لضغوط حاولت زحزحة موقفه، وسواء جاءت من السلطات العامة أو بإلحاح أفراد من شعبه الكنسي، ولو قارنت بين مواقف البابا، من جهة، ومواقف شيوخ الأزهر الذين عاصروه، وبالذات منذ عقد ما يسمى «معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية»، وإلى الآن، فسوف تجد أن مواقف البابا شنودة أفضل بما لا يقاس، وأن موقفه الوطني الصلب موضع امتنان من المسلمين قبل المسيحيين، ومن العرب خارج مصر قبل المصريين، وبصورة جعلته رمزا عروبيا بامتياز، فضلا عن مقامه الديني الرفيع. بدا البابا شنودة في موقفه الوطني سابحا ضد التيار ومرتكزا على سلطته الدينية الآمرة الناهية وعلى الكنيسة التي حولها إلى دولة كاملة الأوصاف، وبأوسع كثيرا من مهام الرعاية الروحية، وقد بدت المفارقة بين الموقف الوطني وتضخم دولة الكنيسة هي موضع الخطر، فالموقف الوطني جامع يشد أواصر النسيج الوطني المصري، بينما دولة الكنيسة تنطوي على ميل انفصالي، ميل إلى عزل المسيحيين المصريين داخل أسوار الكنيسة، وبصورة تجعلهم أقرب إلى الحزب السياسي لا الجماعة الدينية، وفي سياق تناقض مفتعل واحتقان وحذر وتربص بمواطنيهم المسلمين، وهم الأغلبية الساحقة للجماعة المصرية. وبالطبع، لم يكن تحويل الكنيسة إلى دولة قرارا ابتدائيا للبابا شنودة، وإن بدا في المحصلة خصما من حساب موقفه الوطني ضد إسرائيل، فقد تولى البابا شنودة زمام الكنيسة معاصرا للسادات ومبارك من بعده، وفي وقت كانت مصر تودع فيه سنوات زهوها مع ثورة عبد الناصر ومشروعه الوطني والقومي وتبتدئ عهد انحطاطها التاريخي. كانت مصر تنزلق إلى سنوات الخطايا وتستقبل عهود جحيمها، فلم تشهد سنوات عبد الناصر خبرا عن فتنة طائفية واحدة، كان الكل مشدودا إلى خط النار مع إسرائيل وإلى خط النهضة والتصنيع والاختراق التكنولوجي وخلق مجتمع جديد نابض بالحيوية من قلب المجتمع القديم الراكد، وكانت الدولة القوية التي ينتمي إليها الكل بلا شبهة تمييز. وبعد حرب أكتوبر 1973، كان المشهد يتغير وينقلب بشدة، كان دم الذين عبروا يطوى في صفحات النسيان، وكانت جحافل «الذين هبروا» تنزلق بمصر إلى الهاوية، كانت أمريكا كيسنجر قد دخلت على الخط، وكانت الصحافة الرسمية قد بدأت حربا شاملة لاغتيال عبد الناصر وثورته ونهضته، وبدت الحرب إياها كستار كثيف من الدخان يتخفى ويمهد لنية السياسة، كانت التعبئة الوطنية تنفك على خط النار باتفاقات فض الاشتباك الأول والثاني، وكان «انفتاح السلاح مداح» -بتعبير أحمد بهاء الدين يحاصر مطامح النهضة بالتصنيع والتنمية المستقلة، وكانت سلطة السادات تدفع إلى تنمية نفوذ الجماعات الدينية، وبهدف القضاء على التيارات الوطنية الناصرية واليسارية بالذات، كان العقد الوطني الاجتماعي ينفك، وكان الصف الوطني العام تمحي بنوده، وفي مقابل تصاعد الأوصاف الدينية، إلى حد أن السادات وصف نفسه بكونه «رئيسا مسلما لدولة مسلمة»، كان السادات يدرك بالغريزة أنه لم تعد له شرعية وطنية، وأن ذهابه إلى إسرائيل وخضوعه لها خطيئة وطنية، وأراد أن يستر عوراته بورقة توت إسلامية زائفة، وأوصى أزلامه بإطلاق صفة «سادس الخلفاء الراشدين» عليه، كان العبث بالتاريخ وبالإسلام يأخذ مداه، وكان البابا شنودة في خانة رد الفعل، جاهزا بشخصيته المسيطرة القابضة، ومستعدا لدخول معركة دينية مع دولة السادات، كان السادات يلعب بالنار التي أحرقته فيما بعد في حادث المنصة الشهير، وانتهت مرحلة استثارة مشاعر التعصب الديني البدائي بشرخ ظاهر في نسيج الوطنية المصرية. ومع مبارك، وسنواته الطويلة الراكدة البليدة، تفاقمت المحنة وتضاعفت معدلات التفكيك وتراكمت ظواهر الخطر بالتحلل في بنية الدولة والمجتمع معا، فالبابا شنودة، الذي خرج منتصرا من معركته مع السادات، راح يوطد أركان دولة الكنيسة، ويستفيد من انكشاف الدولة المصرية ورخاوتها، ومن تفرغها للنهب العام على حساب أولوية القانون، ومن تبعيتها الكاملة للهيمنة الأمريكية الإسرائيلية، ومن عطايا المليارديرات الجدد من المسيحيين، وإلى حد تضخمت معه ثروة الكنيسة وصارت بمئات المليارات، وفي غيبة رقيب أو حسيب من الدولة الغائبة، فالكنيسة هي الهيئة الوحيدة في مصر التي لا تراقب مصروفاتها ولا مواردها من الجهاز المركزي للمحاسبات، وتصرفاتها المالية ذاتية، وبإشراف ذاتي لا يجوز لأحد التدخل فيه. وفيما كان التيار الإسلامي بنزعاته الوهابية الصحراوية ينمو بشدة، ويثير روحا نافرة عند المسلمين من المسيحية والمسيحيين، ويخصم من المعنى الوطني الجامع، ويروج لنوع من الاحتراب الديني، ويدفع المسيحيين إلى الانعزال بهمومهم وقضاياهم، كانت الكنيسة جاهزة لاحتواء رعاياها، تشدهم إلى طاعتها، وإلى ملاذها الآمن، وإلى جعل كل شؤونهم الدينية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية في حوزة الكنيسة وحدها، وراح البابا شنودة يجمع الخيوط كلها في يده، ويعتمد على سياسة ملتبسة، يمد طرف خيط خفي وظاهر إلى جماعات أقباط المهجر، يلومهم أحيانا ويستثمر أدوارهم غالبا، ويستقوي بفرص الضغط الواردة من الإدارة الأمريكية صاحبة النفوذ الآمر في مصر، ويبني شبكة هائلة من آباء الكنيسة في الداخل، ويدهس استقلال الشخصيات المسيحية «العلمانية»، ويتوسع في استخدام أساليب الحرمان الكنسي، أو يهدد بها، ويفوض أمن دولته في التفاوض مع أمن دولة مبارك، ويعقد معه الصفقات على طريقة الند للند، ويأخذ من سلطات الدولة لحساب سلطات دولة الكنيسة، وينشئ ما يشبه السجون وأماكن الاحتجاز في الأديرة المعزولة، ويتخذ من خط بناء الكنائس، الفارغة غالبا من مصلين، خط هجوم أمني وديني، ويسقط الاعتراف بأحكام القضاء، ويحل محلها شريعة الكنيسة بحسب فهمه وتأويلاته بالغة التشدد. ورغم أن البابا شنودة يبدو دبلوماسيا حريصا في أحاديثه العامة، ورغم أن موقفه ضد التطبيع مع إسرائيل لم يتغير لفظا، فإن تصرفاته، على ما يبدو، تفتح الباب لصنوف ريبة لا تنتهي، فهو يؤيد، في العلن طبعا، حسني مبارك «أعظم كنز استراتيجي لإسرائيل» على حد تعبير بنيامين بن أليعازر، ولا يمانع في إعلان تأييده لتوريث جمال مبارك، وربما على قاعدة ضمان تضخم دور دولة الكنيسة، فهو ومعاونوه يصف عصر مبارك بكونه «العصر الذهبي للأقباط»، وكأن عصر انحطاط مصر هو عصر نعمة الأقباط، وتلك تصريحات عبث تأخذ من رصيد البابا الوطني وتضيف إلى حساب الريب وأخطاء البابا. أضف إلى ذلك تصريحات أسوأ من النوع الذي يتورط فيه معاونوه، ومن دون أن تهوى على رؤوسهم مطرقة البابا التي لا ترحم، ومن نوع أدوار الأنبا توماس المريبة كلها، أو من نوع تصريحات الأنبا بيشوي عن كون المسلمين ضيوفا على المسيحيين في مصر، أو تخرصاته عن تزييف في آيات القرآن الكريم، أو المبالغات الفجة من قبل البابا شنودة نفسه في تقدير أعداد المسيحيين بمصر، ومن نوع تقدير عددهم بعشرة ملايين من ثمانين مليون مصري، بينما بيانات الإحصاء السكاني في مصر تقول بأرقام أقل، وتقدر عدد المسيحيين بحوالي ستة في المائة من المصريين، أي أن عددهم الآن لا يزيد على خمسة ملايين، مع الأخذ في العلم أن النسبة ثابتة منذ أول إحصاء علمي أجراه البريطانيون بأنفسهم في ثلاثينيات القرن العشرين، ومع أخذ تناقص كبير محتمل في النسبة مع هجرات المسيحيين الكثيفة، في الاعتبار. وبالطبع، ليس من قيمة حقوقية لاختلاف العدد، نقصَ أو زادَ، فحقوق المواطنة لا تتوقف على العد والإحصاء، والمسيحيون المصريون عنصر إغناء للنسيج الوطني المصري. وقد يتصور البابا شنودة أن تصرفاته تنتصر للمسيحيين في مصر، لكنه للأسف رغم حساب النوايا يضعهم في المحنة، ففي مصر الآن احتقان اجتماعي وسياسي مرعب، ووقت تحين ساعة الانفجار، نخشى أن يجري تصريف الاحتقان المصري طائفيا، وأن يكون المسيحيون هم الضحايا في ما لا ذنب لهم فيه، لكنها سوءات السياسة في دولة الكنيسة، والتي تبدو قرينا ملازما لدولة مبارك.