بالعودة إلى التصريحات الأخيرة الصادرة عن السيد وزير العدل والحريات يمكن التوقف أيضا عند ما نقله لنا السيد الوزير من كون بعض الحقوقيين قد ندموا على اخراج وزير العدل من تشكيلة المجلس الأعلى للسلطة القضائية، إذ تعتبر هذه المرة الأولى التي نسمع فيها مثل هذه التصريحات التي تأتي ضد التيار الحقوقي الذي دشنه المغرب من خلال دستور 2011، وما يدفع للاستغراب هو أن السيد الوزير نقل الينا هذه التعليقات على سبيل الإشادة والتنويه بأصحاب مثل هذا الرأي مع العلم بأن الحزب الذي يشرف حاليا على وزارة العدل والحريات والذي ينتمي إليه السيد الوزير كان له موقف واضح من تشكيلة المجلس الأعلى للقضاء ولا أدل على ذلك من كونه أكد على ضرورة استبعاده من تشكيلة هذا المجلس كما يظهر من خلال المذكرة المرفوعة للجنة المكلفة بتعديل الدستور. بل ويلاحظ أن هذه التصريحات الأخيرة تأتي مناقضة للموقف والتوجه الذي سبق وأن دافع عليه السيد الوزير نفسه من موقعه كحقوقي بارز قبيل توليه منصب الوزارة، وهو الذي سبق وأن صرح بكون "مقترحات الأحزاب السياسية والنسيج الحقوقي تذهب إلى عدم تمثيل السلطة التنفيذية في شخص وزير العدل في المؤسسة التي يفترض أنها هي المعنية بالشأن الوظيفي للقضاة، والتي تسمى حاليا المجلس الأعلى للقضاء"، كما أكد بأن "استقلال القضاء إنما يقصد به أن لا يصبح خاضعا لأي تأثير كيفما كان نوعه، خاصة التأثير الذي يعانيه حاليا، وهو تأثير السلطة التنفيذية ممثلة في وزارة العدل". مما يدفع لطرح علامات استفهام عديدة بخصوص الأسباب الكامنة وراء هذا التحول الجدري في موقف السيد الوزير. بل وما يزيد من غرابة الأمر هو كونه لم يسمي لنا الجهة الحقوقية التي تتأسف على استبعاد وزارة العدل من تشكيلة المجلس الأعلى للسلطة القضائية حتى يتسنى لنا معرفة حقيقة الأمر والوقوف على وجهة نظرها بهذا الخصوص ومناقشتها، خاصة وأن هذا الموقف يبدو معزولا، ويشكل تراجعا خطيرا على المكتسبات الدستورية التي كرسها التعديل الدستوري الجديد، الأمر الذي يتأكد باستحضار ما جاء في الخطاب الملكي التاريخي ليوم 09 مارس 2011 الذي أكد على ضرورة الاسترشاد بالتوصيات الصادرة عن هيئة الإنصاف والمصالحة كمحطة بارزة في تاريخ المملكة والتي خلصت إلى أن فصل وظيفة وزير العدل عن المجلس الأعلى للقضاء يعد من أهم ضمانات إستقلالية السلطة القضائية. من جهة أخرى لقد نقلت لنا التصريحات الأخيرة للسيد وزير العدل والحريات والتي لم يتم تكذيبها أو توضيحها لحد الآن دفاع السيد الوزير عن بقاء جهاز النيابة العامة تحت وصاية وزارته وهو استباق لنتائج الحوار الوطني الذي من المنتظر أن يتم تدشينه مع فعاليات عديدة خلال الأيام القليلة المقبلة، إذ تبدو التصريحات الواردة بهذا الخصوص وكأنها حسمت بشكل قاطع في نقطة خلافية لم يتطرق إليها المشرع الدستوري صراحة. فالمشرع الدستوري لم يحدد بشكل صريح طبيعة السلطة التي سيتبع لها قضاة النيابة العامة، وهو بذلك يعطي إشارات قوية وواضحة إلى ضرورة ترك الفرصة للبحث في طبيعة هذه السلطة ووضعية قضاة النيابة العامة، وقد يكون مشروع الحوار الوطني حول إصلاح منظومة العدالة مناسبة حقيقية لمناقشة هذا الأمر، والوقوف على الاقتراحات ووجهات النظر التي من الممكن أن تسهم في تقوية هذا الجهاز للقيام بدوره في أفق المقتضيات الدستورية الجديدة . إن قراءة متأنية لمواد الدستور الجديد تعطي انطباعا واضحا وقويا بأن وضعية قضاة النيابة العامة قد تغيرت فقد نصت الفقرة الثانية من المادة 110 من الدستور الجديد على أنه يتعين على قضاة النيابة العامة الالتزام بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون لها، وفي هذا ارتقاء بمؤسسة النيابة العامة ودسترة لطريقة عملها وتنفيذها للتعليمات الموجهة إليها، بل ونوع من الرقابة المسبقة من طرف قضاة النيابة العامة للتعليمات الموجهة إليهم، إذ أنهم لا يلتزمون في ظل الدستور الجديد إلا بتنفيذ التعليمات شريطة احترامها لثلاثة قيود أساسية: - أن تكون تعليمات صادرة عن السلطة التي يتبعون لها. - أن تكون تعليمات كتابية. - أن تكون تعليمات قانونية. وكأن الدستور الجديد جاء ليؤكد الحرص على تضييق مجال التعليمات الموجهة إلى قضاة النيابة العامة، مع العلم بأن مطلب استقلال جهاز النيابة العامة أصبح ملحا، بل و يشكل المظهر الصحيح لاستقلالية السلطة القضائية. بل وبالرجوع للمقتضيات الدستورية الجديدة نلاحظ أنها تطرقت إلى السلطة القضائية كوحدة تشمل قضاة الحكم وقضاة النيابة العامة وأوكلت إليهما معا مهمة تطبيق القانون التي تستدعي في حقيقة الأمر استقلالا عن كل جهة يمكن أن تؤثر بشكل أو بآخر عن استقلالية القرار القضائي، ومما يدعم هذا الاتجاه كون الدستور المغربي لم يقم أي تمييز بين القضاة على مستوى طبيعة المهام التي يقومون بها والضمانات الممنوحة لهم والحقوق التي يتمتعون بها. إذ تنص المادة 113 من الدستور على أنه "يسهر المجلس الأعلى للسلطة القضائية على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة، و لا سيما فيما يخص استقلالهم و تعيينهم و ترقيتهم وتقاعدهم وتأديبهم"، كما أنه متع قضاة النيابة العامة وقضاة الأحكام على حد سواء بنفس الحقوق كالحق في التعبير والانتماء إلى جمعيات أو تأسيس جمعيات مهنية(المادة 111)، والحق في الطعن بسبب الشطط في استعمال السلطة (المادة 114)، والحق في اللجوء للمجلس الأعلى للسلطة القضائية باعتباره الضامن لاستقلال القضاء الواقف والجالس على حد سواء في حالة تهديد هذه الاستقلالية (المادة 109). ومن جهة أخرى تطرق السيد وزير العدل والحريات بمناسبة تصريحاته الأخيرة لواجب التحفظ الوارد في المادة 111 من الدستور الجديد، واعتبر أن طريقة حديث واشتغال إحدى الجمعيات المهنية للقضاة في إشارة ضمنية لنادي قضاة المغرب تشكل خروجا عن واجب التحفظ، وهي أول مناسبة يتم فيها إشهار هذا القيد المفروض على حرية القضاة في التعبير غداة المصادقة على الدستور الجديد، مع العلم بأن مهمة تحديد التعاريف والمفاهيم ليست من مهمة السلطة التنفيذية، خاصة إذا تعلق الأمر بتفسير مادة دستورية شديدة الحساسية لمساسها باستقلالية سلطة أساسية من السلطات المكونة للدولة وهي السلطة القضائية. هذا وإن سلمنا جدلا بإمكانية وزير العدل بوصفه وزيرا للحريات أيضا و من موقعه كحقوقي في ابداء رأيه بخصوص مفهوم واجب التحفظ فإنه لا مناص من الاعتراف بأنه من غير المستساغ إعطاء واجب التحفظ مفهوما واسعا، لأن في ذلك نسف لنطاق حرية التعبير المخولة للقضاة، إذ يعتبر واجب التحفظ من أكثر الواجبات المفروضة على القضاة إثارة للجدل، وهو أول ما يواجه به القضاة عند ممارستهم لحقهم في التعبير أو عند دفاعهم عن حقوقهم المهنية، لذا ينبغي حصر هذا المفهوم ليشمل فقط مجال ممارسة المهام القضائية، فمن المعلوم أنه لا يقبل من القضاة إبداء آرائهم بخصوص القضايا الرائجة المعروضة عليهم لأن في ذلك مساس بحقوق المتقاضين وتأثير على السير العادي للعدالة، كما لا يقبل منهم إفشاء السر المهني أو أسرار المداولة، ولا يمكن أن نقيس على ذلك الممارسة الجمعوية للقضاة لأن إلزامهم بالتحفظ بهذا الخصوص مساس خطير بحريتهم في التجمع، وهي الحرية المكفولة دستوريا، وعلى صعيد المواثيق والاتفاقيات الدولية. وبالرجوع إلى بعض الوثائق الدولية التي تطرقت لواجب التحفظ المفروض على حرية القضاة في التعبير يلاحظ أنه غالبا ما يتم ربطه بممارسة القضاة لمهامهم القضائية أو بمناسبة ذلك، وهكذا تؤكد مبادئ الأممالمتحدة لاستقلال السلطة القضائية في مادتها الخامسة عشر على أن القضاة ملزمون بالمحافظة على سر المهنة فيما يتعلق بمداولاتهم وبالمعلومات السرية التي يحصلون عليها أثناء أداء واجباتهم الأخرى خلاف الإجراءات العامة، كما يشير تعريف الاتحاد العالمي للقضاة لواجب التحفظ بأنه يعني ممارسة القضاة لواجباتهم باعتدال وكرامة وباحترام لمهامهم ولأي شخص معني، الشيء الذي يؤكد أن التعريف الديمقراطي لواجب التحفظ يقتضي حصر نطاقه على مجال ممارسة القضاة لمهامهم القضائية دون توسيعه ليشمل نشاطهم خارج إطار عملهم أو أي أنشطة جمعوية أخرى، ويستقيم هذا التفسير حتى بالرجوع إلى المقتضيات الدستورية الجديدة إذ أن ممارسة القضاة لحرية التعبير مشروطة باحترام واجب التحفظ والأخلاقيات القضائية، وممارسة النشاط الجمعوي مشروط باحترام واجبات التجرد واستقلال القضاء فقط، مما يجعل تحفظ السيد الوزير على كيفية ممارسة القضاة المنخرطين في الجمعية المهنية لنادي قضاة المغرب لحقهم في الانتماء إلى جمعية مهنية والعمل من خلالها في غير محله، ومطالبته إياهم بالامتثال لواجب التحفظ خروج من جانبه على واجب التحفظ المفروض عليه أيضا اتجاه السلطة القضائية. لقد أكدت التجارب الدولية أن واجب التحفظ كان ولا يزال هو ذلك السلاح أو القيد الذي تمارسه السلطة التنفيذية لمواجهة أي محاولة من السلطة القضائية لفرض استقلاليتها خاصة في الأنظمة الاستبدادية، إذ يمكن بالمناسبة أن نستحضر موقف أحد القضاة الشجعان بتونس عندما أرسل رسالة إلى رئيس الجمهورية السابق يؤكد فيها أن السلطة التنفيذية في البلاد لا تتوانى على التدخل في شؤون السلطة القضائية من خلال عملها المتواصل على التأثير على استقلالية القضاة في إصدارهم للأحكام، فما كان من وزير العدل إلا أن عمل على التعجيل بعزل هذا القاضي بحجة أنه أخل بواجب التحفظ المفروض على القضاة، ولا شك أن تأمل مثل هذه التجارب المريرة تدفعنا لاستخلاص العبر والدروس والتعامل بحذر شديد مع أي محاولة لتفسير واجب التحفظ خاصة إذا أتت من السلطة التنفيذية، مع العلم بأن اعطاء مفهوم واسع ومطاط لهذا المصطلح ومحاولة تمديد نطاقه ليشمل أيضا حق القضاة في العمل الجمعوي ضرب لكل مكتسبات السلطة القضائية من خلال الدستور الجديد، وهو دستور جاء ليكرس استقلالية هذه السلطة لا ليكرس تبعيتها. وفي الأخير لا بد من الإشارة إلى نقطة مهمة تتعلق بمدى رضى أو سخط السلطة التنفيذية على طريقة عمل الجمعية المهنية لنادي قضاة المغرب، إذ بمجرد تولي السيد وزير العدل والحريات لمهامه أعطى إشارات قوية بأنه لن يدخر أي جهد من موقعه ليضمن تمكين نادي قضاة المغرب -على غرار باقي الجمعيات المهنية للقضاة- من الوسائل الضرورية لمزاولة مهامه خاصة حقه في الحصول على مقر، وعلى الدعم المالي الممنوح للجمعيات الأكثر تمثيلا، وهي وعود ذهبت كلها أدراج الرياح، نتيجة المسار الذي اختاره نادي قضاة المغرب لعمله كأول جمعية مهنية مستقلة لقضاة المملكة، والمواقف التي اتخذها في كل مناسبة استدعت ضرورة تدخله من موقعه كجمعية مهنية لقضاة المملكة تجعل من بين أهم أهدافها الوفاء لشعارها الخالد "من أجل الكرامة والتضامن واستقلالية السلطة القضائية". إن التصريحات الأخيرة الصادرة عن السيد وزير العدل والحريات -التي نتمنى أن يتم تكذيبها أو على الأقل توضيحها- وإشهاره لسلاح واجب التحفظ الذي يراد به تقييد حق قضاة المملكة في التعبير وهو الحق المكفول دستوريا وكذا من خلال المواثيق الدولية، تذكرنا بمحاولات المنع التي تعرض لها الجمع العام التأسيسي لنادي قضاة المغرب في أول تجربة حاولت وضع المقتضيات الدستورية الجديدة في المحك، وهو المنع الذي لم يتم إعطاء أي تفسيرات واضحة أو مقنعة بخصوصه لحد الآن، خاصة وأنه شكل أول خرق سافر لمقتضيات الدستور الجديد، بل وأسهم في بث اليأس والتشكيك في الآفاق الحقوقية الرحبة التي حملها التعديل الدستوري الجديد. لذا لا مناص من الاعتراف بأن الطريق لا زال طويلا وشاقا من أجل تنزيل المقتضيات الدستورية الجديدة خاصة في الشق المتعلق باستقلالية السلطة القضائية، مع العلم بأن القضاة أنفسهم هم المعول عليهم في هذا المجال لترجمة المقتضيات الدستورية المتعلقة باستقلاليتهم. إذ أن الاستقلال المنشود لمكونات السلطة القضائية لا يعتبر منحة من السلطة التنفيذية أو حتى السلطة التشريعية بقدر ما يشكل حقا ينتزع من طرف السلطة القضائية وهو حق لعموم الشعب قبل أن يكون حقا للقضاة فقط.