هذا الأسبوع قررت أن أدردش مع بعض التعليقات التي تكرم أصحابها فحرروها ردا على ما نشر لي من مقالات.. معتذرا عن هذه الإطالة.. وأعتقد أن من أجمل ما جاءت به هسبريس، ومعها مواقع إلكترونية أخرى، هو فتح الباب أمام التعليقات بشكل أنيق وسلس، ما كسر قواعد التحرير "المونولوغ"، ومكن الكتاب والقراء على سواء من التفاعل المباشر وبشكل حر، عكس ما عهده مجال الصحافة في قوالبه الكلاسيكية. وكثير من التعليقات تضيف معلومات قيمة، أو تكشف الغطاء عن أسرار مهمة، وحتى تلك التي تركز فقط على الشتيمة توضح لك أنماطا من التفكير يعج به المجتمع المغربي، وتحتاج إلى النقاش والحوار من أجل الوطن أولا وأخيرا.. لكن في نهاية المطاف، هذا التفاعل مهم للغاية، وشخصيا أحرص على متابعة كل تعليق على أي مقال أنشره، فهذا يضيف إلي معلومة مهمة غفلت عنها، وذاك يوجه لي نقدا لاذعا ويبرز وجهة نظره التي تجعلني أفكر فيها، وذلك يرسم الابتسامة على وجهي بتعليق ضاحك، أو شتيمة أنيقة.. وأستغل هذه الفرصة لأشكر كل من يتكرم علي بقراءة ما يجود به خاطري، ويتفضل فيخط ما يجود به خاطره.. ولعل الخلاصة التي يصل إليها الإنسان وهو يطلع على تلك التعليقات هي أن هناك تنوعا كبيرا يميز المجتمع المغربي، وهذا الشيء الإيجابي، لكن الأمر السلبي هو أن كل هذا التضارب في المواقف والآراء بشأن القضايا المجتمعية المطروحة، يطرح تساؤلا حول مدى توافقنا كشعب على أرضية مشتركة للعيش الآمن داخل وطن واحد، يضمن لكل طرف حياة كريمة على شتى المستويات.. فمثلا في مقال "أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف" المعنى الذي قصدت إليه هو أن لدى المغاربة شعورا متجذرا بغياب الأمن بمفهومه الشامل، وهذا ينعكس على حياتهم وأسلوب تفكيرهم أينما وجدوا، وفقط حينما يعيشون في بلد يوفر هذا الإحساس، يكتشفون صدفة أنهم محرومون من هذه النعمة.. صحيح أن الحوادث الجنائية لا يخلو منها أي بلد كما قال المعلق السيد "hisham77" الذي كتب أن دول أمريكا اللاتينية مثلا تعيش انفلاتا أمنيا لا مثيل له، لكن أود أن أخبره أن مطلب الأمن لا يعني الطمع في انعدام الحوادث الجنائية بالمرة، وهذا لا يمكن أن يكون إلا في الجنة.. كما أننا نريد أن نقارن بلدنا مع أحسن الدول وليس مع أسوء النماذج.. الأمن مكون رئيس من مكونات شخصية أي مخلوق، وإذا حرم منه لكثرة ما يرى من الجرائم، تغدو شخصيته فاقدة لعنصر مهم يساعد على الإبداع والانسجام مع حركية الحياة.. أحد أصدقائي أخبرني بعدما قرأ المقال حكاية ظريفة تؤكد المعنى نفسه وملخصها أنه تأبط حذاءه وهو يدخل مسجدا في الدولة الخليجية التي كان قد وصل إليها حديثا، قبل أن يستغرب زميله السوداني لهذا الأمر ويستنكره.. فالناس هناك يتركون ما يملكون خارج المسجد ولا أحد ترواده نفسه بما يراود نفوس لصوص المساجد في المغرب.. وهناك أيضا تصادف سيدة متوجهة نحو عملها أو بيتها في وقت متأخر من الليل وهي آمنة مطمئنة.. وهناك كذلك يترك الناس ممتلكاتهم داخل السيارة دون خوف من أيدي الطامعين.. والزملاء يسافرون لأعمالهم في دول أخرى ويتركون أسرهم دون أدنى قلق عليهم.. لكن في المغرب، نعيش حالة طوارئ بيننا وبين أنفسنا، وحرمنا المجرمون، مثلما حرمتنا سياسات الدولة الفاشلة في مجال الأمن من نعمة الأمن.. وهنا أتفق مع الزميل مصطفى الحجري، الذي أحييه بهذه المناسبة، حول أن الأمن تتدخل فيه عوامل سياسية واجتماعية واقتصادية، وأنه إحساس مركب معقد، زادته تعقيدات تراكمات وترسبات ثقافية وأخلاقية سلبية للغاية. ولهذا السبب بالضبط أعتقد أن تلك الحملات الأمنية التي يبشرنا بها المسؤولون الأمنيون لا يمكن البتة أن تسهم في خلق الأمن بالبلاد على فرض وجود النية الحسنة، بل الأمر يجب أن يكون مبنيا على استراتيجية واضحة: من معالمها وجود إرادة سياسية لفرض احترام القانون لحماية الشعب، واتباع خطط عمرانية تلائم الحياة البشرية الحديثة، وذلك إلى جانب تمتيع المنظومة الأمنية والقضائية بما يلزم من الآليات لتحقيق هذا الهدف الأسمى، ومن بينها الاهتمام بحياة رجال الأمن بمختلف تشكيلاتهم وتوفير الظروف الملائمة ماديا ومعنويا و"لوجستيا" للعمل.. ونحن أبناء وطن واحد في نهاية المطاف، والكل سيستفيد من فرض حالة الأمن وتربية الناس عليها، باستثناء المجرمين والمنحرفين بطبيعة الحال.. صحيح فرض احترام القانون كما هو الحال في أوربا مثلا لا يمنع وقوع جرائم بشعة كما يقول المعلق "alkortoby"، لكن هناك داخل أوروبا ترى أن أخلاقيات احترام الآخر واقع ثابت، ورجال الأمن يقومون بعملهم، والقانون محترم في غالب الأحيان، والاستثناء يؤكد القاعدة.. ونحن نتحدث عن الأمن، لا يستطيع المرء مهما اجتهد أن يصور الوضع في سوريا الآن.. إذا كنا كمغاربة نشتكي من مجرمين هنا، ولصوص هناك، فكيف يعيشون السوريون الآن وأزيز الرصاص يلعلع من فوق رؤوسهم صباح مساء؟ كيف يعيشون وهم ينتظرون أن يخر عليهم السقف بين الحين والآخر نتيجة سقوط قذائف المجرم بشار؟ كيف يستمتعون بالحياة وهم يرون الأشلاء والمجازر ترتكب يوميا، والإحصائيات تقول إن عدد القتلى تجاوز العشرة آلاف بكثير، أما عدد الجرحى فحدث ولا حرج؟.. لهذا السبب فاض الكيل وكاتب هذه السطور يحرر موضوع "هاني يا الشفياني".. البعض لامني على "التهجم" على سي السفياني، لكن كيف بالله يستطيع المرء أن يبقى صامتا وهو يرى شخصا داوم على الخروج في مظاهرات لا حصر لها دعما لقضايا الأمة وتبوأ مكانة محترمة في قلوب المغاربة، لكن منذ اندلع القتل في سوريا قبل عام كامل وكأن شيئا لم يقع.. وتصادف أن أصدر المؤتمر القومي العربي بيان شديد اللهجة يستنكر تحطيم تمثال لجمال عبد الناصر بليبيا، فكان لا بد من كشف مواقف من يدعي أن المبادئ تتجزأ، ولا يوجه ولو نقدا عابرا للسبع السوري قاتل شعبه، فهو عريااااان ولا داعي لستره. ولعل الكاتب المصري العروبي عبد الحليم قنديل كان موفقا وهو ينتقد في مقال لاذع نشر مؤخرا، المنتسبين للاتجاه القومي العربي ويدعوهم لعدم الاصطفاف وراء سفاح.. وبالرغم من أن الحديث عن عصيد، مر عابرا في المقال، إلا أنه كان بمثابة مقدمة لسلسلة من الشتائم التي تكرم مؤيدوه بتوجيهها لي بعد نشر "الجنرال عصيد"، وأنا متأكد أن كثيرا منهم لم يقرؤوا المقال.. الاتهام الأول هو أنني ركزت على الشخص وليس الأفكار، وهذا طبعا خطأ، وأؤكد لكل أولئك الذين شتموني أنني متابع لما يحرره سي عصيد أو يقوله، وبناء على ذلك وقفت على مظاهر تناقض عصيد فيما يعرضه من أفكار، لحد التزوير والتدليس، وضربت على ذلك مثلا بقضية الديمقراطية التي يرى أنها ضرورة، لكنه في محاضرات أخرى يؤكد ما معناه أنها إن كانت ستأتي بالإسلاميين فيجب أن نعيد النظر في مفهومها، ثم يبدأ "يتفلسف" ويتحدث عن ديكتاتورية الأغلبية... إلخ. ولا أحد يختلف في أنها قيم ومبادئ، لا تقصي أي طرف كان علمانيا أم إسلاميا، لكن آلية تنفيذ الديمقراطية هي الانتخاب، وهو ما لا يستطيع عصيد تقبله لأنه يعلم أنه بعلمانيته وليس بسبب دفاعه عن الأمازيغية لا يجب الخلط بين الأمرين يجد نفسه مقابل شعب مغربي معتز بإسلامه.. وبالطبع هو لا يريد أن يصرح علنا بأنه يريد فرض وصاية على الشعب الذي يتهمه ضمنا بالقصور في فهم الواقع بتصويته لأطراف لا تتوافق بالضرورة مع الجنرال.. والأغرب أنه يدافع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، لكن لا يجد مضضا في دفاعه عن الاستعمار الفرنسي، وعن قتلة الشعب المغربي بمكوناته المختلفة ومنها الأمازيغية بالتأكيد.. وذلك في محاضرة علنية منشورة كذلك على اليوتيوب.. الاتهام الثاني هو أن كل من يقف ضد عصيد، هو بالضرورة يقف ضد القضية الأمازيغية.. ومع احترامي لمن وقفوا مع هذا الطرح، فأؤكد أنه سطحي جدا.. وفيه نوع من العبادة والانقياد لعصيد دون استخدام العقل.. من منح عصيد، أو أرحموش، أو بن الشيخ، أن يمثلوا هذا القضية العادلة؟.. صحيح من حقهم الاشتغال والدفاع عما يرونه مناسبا بالطريقة التي يرون، لكن لا حق لهم ولا لغيرهم، في أن يتبنوا منهج الإقصاء والاستئصال الذي يدعون أنهم ضده، لكن هم من يطبقه وبطريقة بشعة.. الأمازيغية كقضية ظلمت مرتين، مرة من طرف سياسات خاطئة للحكومات المتعاقبة وسياسات بعض الأحزاب التي لم تعط للموضوع الأهمية التي يستحقها، وثانيا من طرف نخبة علمانية، تبنت طرحا متطرفا إقصائيا ولدته حالة الإقصاء الذي عاشه أصحابها من قبل.. الطرفان وجهان لعملة واحدة.. لكن الأمازيغية كقضية عادلة، من من المغاربة لا يتبناها؟ من منا لا يريد أن يعرف الثقافة الجميلة والتراث الرائع للحضارة التي صنعها الأجداد قبل الإسلام وبعده؟ من منا لا يريد لأطفاله أن يتعلموا اللغة الأمازيغية ويستكشفوا التاريخ المجهول للأجداد الكرام؟.. وحتى هذه المسألة حرمونا منها، بعدما تبنوا تيفيناغ، وأتحدى عصيد وغيره أن يشرحوا للناس سبب فشل تجربة تعليم اللغة بهذا الحرف.. للأسف المسألة جاءت ترضية سياسية بعدما انبرى العلمانيون يطالبون بالحرف اللاتيني، فيما أفاق الإسلاميون من سباتهم العميق إزاء هذا المكون الحضاري المغربي، وبدؤوا يطالبون بالحرف العربي، فجاء تيفيناغ وصفق له الجميع، والذي يثير الحنق هو أن كلا الطرفين لم يطالبا به من البداية... المشكلة أن الناس تريد أن ترى الحقيقة كما يكتبها الجنرال عصيد.. وليس كما هي فعلا.. وجل من يدعي الدفاع عن الأمازيغية، بنى لنفسه مجدا ماديا وسياسيا على حسابها، ولتبحثوا لتروا بأم أعينكم.. والأهم في هذا كله هو أنه حان الوقت لنميز بجدية أكبر بين الأمازيغية والعلمانية، أما الإصرار على الخلط بينهما فهو يصب لمصلحة قلة نخبوية تاجرت أطراف كثيرة منها بالقضية.. الموقف ضد العلمانيين الإقصائيين لا يعني بالضرورة الوقوف ضد القضية الأمازيغية التي هي قضية الوطن كله.. وآن لها أن تستريح من عبث العابثين، وتؤتي ثمرها لخير أبنائها.. ولا شك أن من بين القضايا المظلومة في بلادنا إلى جانب الأمازيغية، تجد المدن المنجمية التي تتصدر القائمة.. تلك المدن قامت على نشاط اقتصادي واحد، وبعد أن ينتهي خير المنجم، يغض عنها المسؤولون الطرف تاركين إياها وأبناءها لمصير مجهول.. من بينها جرادة.. المدينة الجميلة التي لا شيء فيها تغير.. تمر السنون والعقود ولا شيء يتبدل.. الشوارع هي هي، الأزقة هي هي، حتى بائع "الشمة" بقي في مكانه وكأنه لم يغادره برغم أن الشيب غزا رأسه.. هناك مدن وقرى كثيرة منسية في هذا الوطن، ولا أحد يدري متى سينتبه لها هؤلاء الذين ابتلاهم الله بتسيير أمورنا.. ويتحملوا مسؤوليتهم اتجاه أبنائها الذين يعيشون في صمت ويموتون في صمت.. وأحد هؤلاء كان عزيز برخلي، رحمة الله عليه، هذا الصديق العزيز من أبناء جرادة الذي توفاه الله في حادثة مؤلمة عند مدخل مدينة العيونالشرقية، بعدما اصطدم بقطار.. ولم تتكرم إدارة الخليع على المنطقة بوضع الإشارة المرورية اللازمة لتنبيه الغافلين عن قدوم القطار، تاركة الممر فخا يستقبل ضحايا جددا لا قدر الله.. حاول عزيز مقاومة الظروف الصعبة بكل ما أوتي من جهد وقوة ولم يستسلم أبدا.. ولعل أجمل شيء كان في عزيز هو ابتسامته الدائمة، وقدرته على تحويل المواقف الحالكة كما قال المعلق خالد إلى مشاهد كوميدية ولا أروع كما يجمع على ذلك كل من عرفوه.. وعندما كنت أحرر مرثيته على هسبريس، كانت الابتسامة تغالب الدمع حول من يسبق أولا.. الفاجعة كبيرة، لكن ظروفها كوميدية كما كان عزيز دائما.. فالطريق بين العيون وجرادة دائما فارغة، والقطار لا يحظى إلا قليلون بمشاهدته لأنه لا يأتي إلا نادرا.. لكن شاء القدر أن تنسجم حياة عزيز مع موته، فيكتب له أن يلقى ربه الرحيم على طريق فارغ دائما، مصطدما بقطار لا يراه إلا المحظوظون.. والأهم أنه توفي وهو يكد ويكدح لأجل لقمة حلال باتت صعبة في هذا الزمن الأغبر.. رحمة الله عليك يا عزيز.. لقد كان مشهد جنازتك جليلا مهيبا، وجاء أصدقاؤك من أقصى مدن المغرب ليلقوا عليك نظرة الوداع، ويذرفوا عليك دمعا جليلا، وأنت الذي طالما رسمت الابتسامة على وجوههم.. لطالما أضحكتهم، فلا ضير أن يبكوا عليك الآن بحرقة.. وبعيدا عن الحزن وأشجانه، يمكن التأكيد بأن خلاصة ما سبق هي قضية واحدة: الوطن يبقى غنيا بأفكاره المتنوعة المتضاربة بل وحتى المتناقضة.. لكن لا يجوز لطرف أن يتبنى نهجا إقصائيا لطرف آخر.. الوطن يتسع للجميع، اللهم إلا تلك الفئة التي لا يهمها الوطن في شيء..