ثيثيليا دومينغيث لويس هي أديبةٌ إسبانيةٌ من جزُر الكناري وُلدت عام 1948 بجزيرة تينيريفي، أمضت طفولتها ومراهقتها بين الكتب وبدأت الكتابة الإبداعية منذ نعومة أظافرها، فازت بجائزتين أدبيّتين وعمرها لم يتجاوز 13 سنة.. لم تستطع إتمام دراستها في أوانها بسبب وفاة والدها، وحصلت على الإجازة في الأدب الإسباني عام 1987 من جامعة لالاغونا بتينيريفي؛ ترأّست مُجمّع لالاغونا بين عامي 1999 و2001 وعُيِّنت عضواً في الأكاديمية الكنارية للغة سنة 2011 وفي معهد الدراسات الكنارية سنة 2013. بدأت ثيثيليا دومينغيث مسيرتها الأدبية منذ سبعينيات القرن الماضي وتُعَدُّ من ألمع أدباء الأرخبيل الكناري المعاصرين، وقد تُرجمت أعمالها إلى الفرنسية والألمانية والرومانية؛ صدر لها ما يُقارب أربعين كتاباً بين الشعر والسرد قصّةً ورواية، وحصلت على العديد من الجوائز الأدبية أهمُّها "جائزةُ جزُر الكناري للأدب" عام 2015.. ونذكر من دواوينها الشعرية ما يلي: "لأنّنا مِنْ طِين" (1977)؛ "أشياء" (1981)؛ "بقايا أحلامٍ في حناجرِ الحمائم" (1982)؛ "طَعْمٌ حامِضٌ للأيّامِ الآتِيَة" (1987)؛ "وفَجْأةً يَحُلُّ اللّيْلُ" (1997)؛ "البَحْرُ فقط" (2000)؛ "أقمارُ إيروس الإثنا عشر" (2000). وفي مطلع الألفية الثالثة أصدرت الكاتبةُ أوّل رواية لها بعنوان "الرياحُ المُعاكسة" (2002) ثم توالت بعد ذلك أعمالُها الروائية، منها تلك المخصّصة للأطفال والشباب ومنها الموجّهة إلى عموم القرّاء، وهي كالآتي: "بينما تَنضجُ البرتقالات" (2009)؛ "يارا" (2010)؛ "القمرُ في الماء" (2010)؛ "ذاتَ صَيْف" (2010)؛ "أطفالُ عُلْبَةِ الطّماطِم" (2012)؛ "لَوْ كُنْتَ هُنا" (2013)؛ "وَأَنْتِ سَتَكُونِينَ النّهْر" (2018)؛ "غَيْماتُ دانْيِيلا" (2019)؛ "وتوقّفتْ أُمِّي عَنِ العَزْفِ علَى البيانو" (2020). وتنحدرُ ثيثيليا دومينغيث من أُسرةٍ كناريّة كانت من أنصار الجمهورية الإسبانية الثانية التي قامت سنة 1931 وأطاح بها انقلابُ فرانكو العسكريُّ سنة 1939 بعد حربٍ أهلية دامت ثلاثة أعوام. وفي هذا الحوار الذي خصّتْ به هسبريس تُحدِّثٌنا الأديبةُ عن هذا الموضوع الذي تطرّقتْ إليه في إحدى رواياتها وعن أخوالها الجمهوريين الذين تمّ نفيُهم إلى الصّحراء المغربية رُفقة أحدِ الشعراء الكناريين الكبار وعن صداقتها مع هذا الشاعر الذي سبق لهسبريس أن نشرتْ مقالاً عن قِصّته قبل سنوات. كما تُحدّثُنا ثيثيليا عن قراءاتها في الأدب العربي وعن متمنّياتها للعلاقات الثقافية والأدبية بين المغرب وجزُر الكناري. □ السيدة ثيثيليا، إذا سمحتِ لي، أريدُ أن أبدأ هذا الحوار بالحديث عن صداقتك مع الشاعر الكناري الكبير بيدرو غارثيا كابريرا الذي تمّ نفيه إلى معسكر الاعتقال بمدينة الداخلة المغربية في بداية الحرب الأهلية الإسبانية (1936). متى وكيف تعرّفتِ على هذا الشاعر؟ وما علاقة صداقتكما بميولكِ إلى الشعر والأدب؟. ■ لقد سمعتُ جدّتي تتكلُمُ عنه، وهي من أخبرتني أنّ بيدرو كان قد تعاون مع جريدة "ديثيموس" الجمهورية التي كان يُديرها خالُ والدتي لوثيو إيّادا كينتيرو، ومِن هُنا جاءت الصداقةُ بينهما، وأيضاً بينه وبين خالٍ آخر من أخوال والدتي، وهو مانويل إيّادا كينتيرو. وقد جمعهم في ما بعد معسكرُ الاعتقال بمدينة الداخلة الذي هربوا منه، تحديداً، إثر خطةِ هروبٍ أعدّها لوثيو. بعد ذلك بسنوات، حين كنتُ طالبة أُتيحتْ لي فرصةُ استجوابه من أجل بحثٍ حول الشعر الاجتماعي؛ ومن محاسن الصدف أنه كان يعيش قريباُ منّا فَقَبِل الاستجوابَ بكلِّ لطف. في ذلك اليوم كانت تُرافقني إحدى زميلاتي في الدراسة وأخذتُ معي جهاز التسجيل بالكاسيت. وكنتُ حينها لم أُعرِّف بنفسي، ربّما بسبب الخجل.. بعد انتهاء الاستجواب الذي تحدّثنا فيه قليلاً عن كل شيء واستطاع خلاله بيدرو أن يُهدِّئنا إذ كنّا متوتِّرتين، أخذتُ جهاز التسجيل إلى المنزل وحين شغّلته أدركتُ أنه لم يُسجِّل أيّ شيء. اتصلتُ على الفور بصديقتي لأُخبِرها وأقترحَ عليها تجديد الاتصال بالشاعر من أجل إجراء الاستجواب من جديد.. رفضتْ صديقتي ذلك لكني فعلتُها أنا. بعد الاعتذار عن الخطأ، تجرّأتُ على استجوابه مرّة أخرى.. قال لي بيدرو حينها وبصوتٍ ماكر: "حسناً، لكن هذه المرّة تأكّدي من تشغيل التسجيل". في اليوم التالي، على الساعة الخامسة مساءً، وهي ساعةٌ شاعريّةٌ جدّاُ بالتأكيد، طرقتُ بابَ منزلِ الشاعر. ذهبتُ بمفردي ومعي جهازُ التسجيل. تمّ التسجيلُ هذه المرّة، لكن في الواقع، رغم أننا تحدّثنا عن الالتزام الاجتماعي والسياسي في شعره، تطرّقنا أيضاً إلى مواضيع أُخرى مثل الهوية والكَيْنُونة الجزيريّة والبحر، وهو موضوعٌ مهمٌّ جدّاً. لقد كنتُ مسرورةً في الحقيقة. وأثناء الحوار، أحضرتْ لنا زوجتُه ماتيلدي القهوة والبسكويت فأحسستُ فعلاً كما لو أنِّي في منزلي.. وفي تلك اللحظة تجرّأتُ على إخباره بأني قريبةُ لوثيو ومانويل وبأنّ لديّ نسخةً من الرسالة التي كتبها مانويل لزوجته ساعاتٍ قبل أن يتمّ إعدامُه رمياً بالرصاص. فتح بيدرو عينيه ثم طلب منِّي أن أُحضِر له الرسالة في اليوم التالي لأنّنا، كما قال، جيرانٌ، وكان يريدُ أن آتي إلى بيتهما مساءً، كلما رغبتُ في ذلك، لِشُربِ القهوة معهما. كان كل ذلك بالنسبة إليّ امتيازاً. حين ذهبتُ عنده في اليوم الموالي ومعي الرسالة كما وعدتُه طلب منِّي أن أقرأها عليه، وحين انتهيتُ، قام من مقعده ثم بدأ في إلقاءِ قصيدته "بيدٍ في الدّم". إنني أتأثّرُ فيّ كل مرّة أتذكّرُ ذلك.. ولمّا فرغ، بقينا ننظر إلى بعضنا دون أن نستطيع قول أيِّ شيء. أنا كنتُ على وشك البكاء. وفي أثناء ذلك، دخلتْ ماتيلدي تحملُ طبقاً وقالت: "هل تريدان بسكويتاً؟". أظنُّ أنّ ذلك أنقذَ الموقف. ومنذ ذلك الحين بدأتْ صداقتُنا تتوطّد.. كنتُ أذهب في كل مساءٍ تقريباً لشرب القهوة معهما. كنا نتحدّثُ عن كل شيء، خصوصاً عن الأدب، لاسيما الشعر. حسناً، ما كنتُ أفعله أنا هو طرح الأسئلة، إذ كان يسُرُّني سماعُ ذلك الصوتِ الرخيم والدافئ الذي كان يُثبِّتني على حبِّ الأدب؛ لكنني تأخّرتُ بعض الوقت في إخباره بأنّني كنتُ أكتب. وذاتَ مساء، في بداية الثمانينيات، أخبرتُه بذلك وتجرّأتُ أن أقول له إني قد ألّفتُ كتاباً وسيسرُّني أن يقرأه ويُخبرَني برأيه.. أنا كنتُ أثِقُ به كثيراً وكنتُ أعلمُ أنه ما كان ليكذب عليّ. وبّخني بيدرو –في شِبه مُزحة– على عدم إخباره قبل ذلك بأنِّي أكتُبُ وطلبَ مِنِّي أن أذهب إلى منزلي وأُحضِر له المخطوط في نفس ذلك المساء، وذلك ما فعلتُه؛ في صباح اليوم التالي، تلقّيتُ اتصالاً منه وأخبرني بأنّ الديوان أعجبه كثيراً إلى حدِّ أنه سيكتب له مقدِّمة من أجلي. لقد كان ذلك بالنسبة إليّ واحدةً من أحسنِ الهدايا التي تلقّيتُها في حياتي الشخصية والأدبية. مع الأسف، كان المرضُ قد بدأ في إنهاكه.. راسلتُ صديقةً لي كانت تعمل في ذلك الزمن ممرِّضةً بأحد مستشفيات السويد، لكي أسأل عن إمكانية ذهاب بيدرو إلى هناك، وكانت السويد حينئذٍ دولةً متقدِّمةً في علاج السرطان. بفضلِ كرمِ تلك الصديقة، لم تكتفِ فقط بالحصول على موعدٍ له في المستشفى بل قامتْ أيضاً باستضافته في منزلها هو وزوجته طيلة الوقت الذي بقيا خلاله في السويد. كان مرضَهُ في حالةٍ متقدِّمةٍ جدّاً. وعلى كل حال، سلّمني مقدِّمتَه لكتابي رغم أنها لم تكنْ تامّة واعتذر منِّي فوق ذلك؛ عانقتُهُ ولم تكن حينها الكلماتُ ضرورية. تلك قصةُ تقديمه (الذي مازلتُ أحتفظُ بمخطوطه) لكتابي "أشياء"، وكان آخر تقديمٍ كتبَه في حياته. إنّ التقديم مثل حبّة الكرز تلك التي تُوضع فوق الحلوى. لقد كان بيدرو غارثيا كابريرا مثالاً لي في أدبه وحياته استطعتُ بفضله الثبات على حبي للأدب. وهذا شيءٌ لا يُنسى أبداً. □ الكلامُ عن بيدرو غارثيا كابريرا يُحيلنا على فترة الحرب الأهلية الإسبانية والمواجهات بين الوطنيين والجمهوريين وتأثيرها على جزُر الكناري؛ وهذا هو الموضوع الذي قُمتِ بمعالجته في روايتكِ "بينما تنضُجُ البرتقالات" التي تستمدُّ عنوانها من بيتٍ شعريٍّ لهذا الشاعر الكناري الذي كتب قصيدةً طويلةً أثناء اعتقاله بصحراء المغرب... كيف خطرتْ لكِ فكرةُ كتابة هذه الرواية؟ ولماذا اخترتِ طفلةً (الطفلة سارة) لتكون هي الساردة؟ وما رمزيةُ أسماءِ بعض الشخصيات من قبيل: إفريقيا، جزائر، أناضول، أمريكا...؟. ■ جاءتني الفكرةُ لأنّ جدّتي، ومنذ أن كنتُ صغيرة، كانت تُحدِّثُني عن إخوانها وكيف تمّ إعدامُهم لمجرّد انتمائهم إلى اليسار، غير أنّ لوثيو (إرنيستو في الرواية) تفوّق على البقية بكونه المحرِّضَ على الهروب من معسكر الاعتقال؛ وكانت تُحدِّثُني عن الحرب التي لم تكن لها جبهاتُ قتالٍ في جزُر الكناري لكنّها رغم ذلك كانت قاسيةً جدّاً عليها بحيثُ أُقحمتْ في اللعبة مشاعرُ الحسد والضغائن وأمورٌ شخصية لم تكن في كثيرٍ من الأحيان تمُتُّ للانتماء السياسي بأيِّ صلة. حين بدأتُ الكتابة، وأنا مازلت طفلة، قالت لي إنها تتمنّى أن أكتب عما حدّثتني عنه في يوم من الأيام "حتى لا ينسى الناس ما وقع"، كما قالت لي أيضاً أن أفعل ذلك، إن كنت سأفعل، دون حقدٍ أو غيظٍ لأنّها ورغم عدم نسيانها لم تكن لديها أيُّ رغبةٍ في الانتقام. بعد مرور الوقت، بدأتُ في كتابة الشعر والقليل من السرد لكنني لا أدري لماذا لم أُقرِّر تحقيق أمنية جدّتي. وبعد وفاة والدتي سنة 2005، بدأتُ أعتبرُ نفسي، في الحقيقة، مدينةً لهما بتلك القصة، وهي قصّتُهما. وكانت أوّلُ مسألةٍ واجهتني هي من سيكون السارد. فكّرتُ أنّ أيّ ساردٍ بالغٍ لا بُدّ أن يكون له موقفٌ معيّن، وذلك ما لم أكن أُريده في هذه الرواية. هكذا خطرتْ لي فكرةُ أن تكون سارة هي الساردة (وهي في الحقيقة خالتي مارِيّا لُوثْ التي توفيت في فبراير من هذا العام 2020).. لأنّ الطفلة، أو الطفل عموماً، لا يتبنّى موقفاً ما، بل يروي فقط ما يراه وما يخافُ منه ويُفزِعُه، انطلاقاً من نظرته الطفولية. وهكذا بدأتُ الرواية. وبخصوص أسماءِ بعض الشخصيات، فقد كان شائعاً لدى الجمهوريين أن يتّخذوا أسماءً كأسماء القارات والفلاسفة والأفكار مثل: حرية، أرسطو، أمريكو... وجاء بعد ذلك نظام فرانكو ومنع تلك الأسماء. □ كما يدلُّ الإهداءُ على ذلك، خالتُكِ ماريّا لوث هي من قصّتْ عليكِ القصة، أي إنّ الطفلة الساردة سارة هي في الواقع خالتُكِ التي اعتقل نظامُ فرانكو الفاشي أخوالَها كلّهم، لا لشيءٍ إلا لأنّهم كانوا جمهوريين.. اثنان منهم: "أولئك الذين ماتوا من أجل أفكارهم" (دانييل وإرنيستو في الرواية، مانويل إيّادا ولوثيو إيّادا في الواقع) تمّ نفيُهما إلى صحراء المغرب، الأوّلُ إلى مدينة الداخلة مثل غارثيا كابريرا والآخر إلى لڭويرة، وكلاهُما تمّ إعدامهما في النهاية؛ والآخران: "أولئك الذين نجوا لكي يُواصِلوا الكفاحَ من أجلها" كان مصيرُهما أفضل إذ سُجِنَ الأوّلُ في جزُرِ الكناري وأُطلِقَ سراحُ الثاني... إذا سمحتِ لي بهذا السؤال، هل صحيحٌ أنكِ ورثتِ هذا التوجُّهَ الجمهوريَّ عن أقاربك؟ هل تعتقدينَ أنّ الجمهوريّةَ الإسبانيّةَ الثالثة ستقومُ يوماً ما؟. ■ سأجيبكَ بنعم، نعم إنّ أفكاري هي أفكارٌ يساريّةٌ وجُمهوريّة. أما بخصوصِ إمكانية قيام جمهوريّةٍ إسبانيّةٍ ثالثة فهذا ما أتمنّاه، لكنّني لا أدري هل سأرى ذلك يتحقّق أم لا. □ تتوجّهينَ أيضاً بإهداءِ الرواية إلى جدّتكِ ثيثيليا (أتصوّرُ أنها أمُّ سارة في الرواية) وإلى والديكِ "اللذيْنِ عرفا الحبَّ في زمنِ الحرب" (شخصيتيّ لويس ولوبي)... هلّا حدّثْتِنا كيف ساهمَتْ هذه الشخوصُ العائلية والويلاتُ التي عانتْ منها بسبب تلك الحرب في تشكيلِ شخصيّتكِ وموقفكِ إزاء تلك الأحداثِ من التاريخ الكناري والإسباني؟ هل مِنَ السّهلِ على الروائيِّ أن يتطرّق إلى موضوعِ الحربِ الأهليّة مِنْ غيرِ غيظٍ أو حقدٍ كما فعلتِ ذلك من خلالِ روايتِكِ "بينما تَنضجُ البرتقالات"؟. ■ نعم، ثيثيليا (خوليا في الرواية) هي جدّتي، ولوبي ولويس (ثيثيليا ودومينغو في الحقيقة) هُما والداي؛ وقد عانوا جميعاً من الخوفِ والتحقيرِ وصعوباتٍ في إيجادِ عملٍ من أجلِ البقاء فقط لأنّهم كانوا من أقاربِ الجُمهوريين أو الحُمْر، كما كانوا يُسمُّونَنا. أبي لم يذهبْ إلى الحرب لأنه كان صغيراً حينها، أما عائلتُه فكانت في صفِّ الوطنيين، ولذلك لم يكن الأمرُ سهلاً بالنسبةِ إليه لأنه وقع في حبِّ فتاةٍ حمراء. لم يضطرّ أبي لمحاولة إقناعِ أحدٍ فقد تيتّم وهو في سنِّ الرابعة عشرة، وكان الأكبرَ ضمن ستّةِ إخوة، ما جعله يُباشر العملَ منذ ذلك الحين.. كانت والدتي سنداً كبيراً له في إتمامِ دراسته حتى نجح في أن يكون مُحاسباً، ولذلك تقبّلَتْها عائلةُ أبي وبكلِّ سرورٍ على ما أظنّ، إذ إنّ والدتي كانت تجعلُ المرءَ يُحبُّها على الفور. أنا كنتُ طفلةً فضوليّةً جدّاً وكنتُ دائماً أَسألُ أخوالَ والدتي باستمرار، أولئك الذين نجوا واستطعتُ التعرُّف عليهم مثل إميليانو (خوان في الرواية) وخيسوس (نيكولاس)، وكان يُفرحُهُما أن يقُصّا قصصَهما على طفلةٍ تُنْصِتُ إليهما في حيرةٍ وبالكاد تَفهمُ الكثيرَ مِمّا يقُصّانِه، ولكن كان لا بُدَّ لشيءٍ أن يستقرّ في ذهنها. أعتقدُ أنهم جميعاً علّموني أن أُحبّ الحرية والحياة، حياتي وحياةَ الآخرين، وأن أُدافع عن هذه المُثُل العليا. أعتقدُ أنّ هذا هو ما ترسّخ في فكري بعيداً عن أيِّ شعورٍ بالغيظِ أو الحقدِ وهو ما لم يقوموا بغرسه فيّ أبداً، بل العكسُ تماماً. □ يقولُ الكاتبُ الكناري آنخيل سانتشيث إنّ "الكتابة مثل الكلاشنيكوف"... في رأيكِ، كيف يُمكن أن يكونَ الأدبُ الملتزمُ سلاحاً من أجل التغيير؟ وما هي الوظائفُ التي يجب أن يضْطَلِع بها النصُّ الأدبيُّ بالموازاةِ مع التاريخ الرسمي الذي عادةً ما يكتبُهُ المُنتصِرون؟. ■ يُعيدُني هذا السؤالُ إلى الاستشهاد بما قاله الشاعر بيدرو غارثيا كابريرا خلال الاستجواب المذكور. كان من بين الأسئلة التي قُمْتُ بطرحها عليه: هل يجبُ على الكاتب أن يكون مُلتزماً؟ وممّا قاله بيدرو في معرضِ جوابِه أقتبسُ حرفيّاً ما يلي: "لأنّ الشعر تواصلٌ، وجب على الشاعر أن يلتزم؛ لكن التزامه لا يجبُ أن يكون جزئيّاً مع نظامٍ سياسي، بل يجبُ أن يكون التزاماً من أجل حقوقِ الإنسان وحريّة التعبير والتجمّع والنضال والحرية ومن أجل إلغاء البنيات، سواء الماديةُ أو المعنويةُ، التي تَحُول بين الإنسان وبين تنميته الطبيعية والاجتماعية. لهذا فالالتزامُ لا مفرّ منه، لكن المبدعَ لا ينبغي له أن يتحوّل إلى مُجرَّدِ كاتبٍ هجائي. الشعرُ ليس مجرّد هجاءٍ أبداً... إنّ الأدب، والشعر بالتحديد، لا يُمكنه أن يتحوّل إلى مسدّس أو إلى سيف؛ فمِن أجل ذلك تُوجدُ أنساقٌ أُخرى وهي المسدّس والسيف ومن يُؤمنون بها ويعتقدون أنهم بواسطتها يُساهمون في التحرير. أما الشعرُ فهو سلاحٌ من أجل معركةِ التوعية وتنبيهِ الناس إلى مراتب أحسن وأكثر حرية للإنسان؛ ولا يُمكن للشعر أن يصير عبداً لفكرةٍ ماديّةٍ إلى حدٍّ يجعلُ الناسَ غير المعنِيِّين بها خارجَ إطارها". وأنا أُوافقُ على كلِّ كلمةٍ من كلماتِ الشاعر غارثيا كابريرا. □ أنتِ إحدى الشاعرات الكناريات الخمس اللائي شملتهنّ أنطولوجيا شعرية تضمّ 66 شاعرةً إسبانيةً معاصرةً اختار قصائدَهُنَّ ونَقَلَها إلى اللغة العربية المترجمُ العراقيُّ عبد الهادي سعدون ونُشرت ضمن كُتُبِ مجلة "الفيصل" السعودية عام 2017. كانت تلك هي المرّة الأولى التي تشمل فيها أنطولوجيا عربية للشعر الإسباني شاعراتٍ من جزُر الكناري، على قلّتهنّ بالمقارنة مع نظيراتهنّ المنتميات إلى شبه الجزيرة الإيبيرية... هل الأدبُ الكناريُّ ضحيةٌ للجغرافيا في ما يتعلّق بالنشر والانتشار خارج الأرخبيل، أم أنّ هناك تهميشاُ للمُبدعين الكناريين من طرفِ دُورِ النشر الإسبانيةِ في شبه الجزيرة الإيبيرية بسبب العلاقة بين الهامش والمركز، ما يجعلُ ذلك ينعكسُ أيضاً على ترجمةِ الأدبِ الكناري إلى لغاتٍ أُخرى؟. ■ الأمْرانِ معاً. كما تعلم، نحنُ ننتمي إلى منطقةٍ هامشيّةٍ جدّاً، وهذا شيءٌ مؤثِّرٌ، لاسيما حينَ يتمُّ التعرُّف علينا وتُقرأ أعمالُنا في إسبانيا الإيبيرية. وهناك أيضاً تأثيرُ لغتِنا الإسبانية ذاتِ الخصوصية الكنارية. لقد واجهتُ العديد من المشاكل عند النشر في شبه الجزيرة الإيبيرية إذ لم تُنشر لي هنالك سوى ثلاث روايات بعد كثيرٍ من الكفاح، لأنني أستعملُ الإسبانية الكنارية في كلِّ ما أكتبُهُ وأُدافع عن هذه الخصوصية اللغوية لأني أعتبرها صحيحةً تماماً كنظيراتها في قشتالة أو مرسية أو إشبيلية. أنا لا أقبلُ استعمالَ ضميرِ المُخاطَب الجمع (أنتم) ولا استبدالَ مُصطلحاتٍ كنارية بكلماتٍ لا نستعملُها. وأعرفُ بعض الكُتّاب ممن قاموا بتلك التنازلات لكي يُنشر لهم في شبه الجزيرة الإيبيرية. أنا أتفهّم ذلك لكنني لا أُشاركهم الرأي، وكما ترى، لهذا فالأمر بالنسبة إلي صعبٌ جدّاً. لقد سألتُ ذات مرّةٍ إحدى دور النشر عن سبب رفض هذه الخصوصية من اللغة الإسبانية رغم أنها في المقابل تنشُر لكُتّابٍ من أمريكا اللاتينية.. كان الجوابُ بأنهم يَنشرُون للكُتّاب الأمريكيين اللاتينيين من أجل بيعِ الكتُبِ التي يُصدرونها في أمريكا اللاتينية وليس في شبه الجزيرة الإيبيرية إلا أن يتعلّق الأمر بشخصياتٍ مثل غابرييل غارثيا ماركيز أو فارغاس يُّوسا. طبعاً، أمريكا اللاتينية سوقٌ كبيرةٌ بما فيه الكفاية لكي لا تخسر دورُ النشرِ مالياً على عكس جزُر الكناري. لقد جعلني هذا الجوابُ السريالي أفهمُ أنّ إمكانياتي بالنشر هناك ضئيلةٌ جدّاً.. لكنّني مازلتُ هنا مع إسبانيتي الكنارية ودون أن أندم على ذلك مُطلقاً. □ في الختام، أودُّ أن أعرِفَ هل كان لكِ، كقارئة، اتصالٌ سابقٌ بالأدب العربي وما هي الرواياتُ الكناريّةُ التي تعتقدين أنها تستحقُّ أن تُترجَم إلى اللغة العربية؟ وماذا يُمكنكِ أن تتمنّي للعلاقات الثقافية والأدبية بين جزُر الكناري وبين المغرب والعالم العربي؟. ■ أنا أعترفُ بأنّ اتصالي بالأدب العربي كان قليلاً رغم أنّ حكاياتِ "ألف ليلة وليلة" كانت تُطربني منذ الصغر، وهو كتابٌ مازلتُ أحتفظ بطبعة منه تعود للعام 1901 ورثتُها عن جدّتي وأعود إليه الآن، لاسيما أنّ لي حفيدة تبلغ من العمر تسع سنوات. وفي الشعر، قرأتُ "الخرجات الرومانثية في إطار موشّحاتها العربية" لإميليو غارثيا غوميث صدرت عام 1975 عن دار النشر سايكس برّال؛ كما قرأتُ أيضاً كتاباً نادراً عنوانه "الفكرُ العربي" نُشر في مدينة لاس بالماس بجزيرة كناريا الكبرى بمبادرةٍ ذاتيّةٍ من طبيبٍ اسمه أحمد محمد سليمان.. ولا أدري كيف وصل إليّ هذا الكتاب. وقرأتُ لاحقاً لجبران خليل جبران ولأمين معلوف وهو كاتبٌ يجذبني كثيراً وأمتلك عدداً من أعماله. كما ترى، قراءاتي قليلة جدّاً في هذا الخصوص. أتصوّرُ أنّه خلال حُكم فرانكو الدكتاتوري لم يكن بالإمكان قراءةُ الكثير ولستُ أقصدُ الأدبَ العربيَّ وَحْدَه. على الأقل في ما يتعلّقُ بشخصي، رغم أني كنتُ أعلَمُ جيّداً بوجودِ أدبٍ عربيٍّ غنيٍّ جدّاً إلا أنّ الفرصةَ لم تُتَحْ لي خلالَ شبابي للاطلاعِ عليه. لعلّ ذلك من تداعياتِ العيشِ في جزيرةٍ أقربَ إلى القارّةِ الإفريقيّةِ منها إلى الوطنِ الذي تنتمي إليه. أعتقدُ أنّ تشجيعَ التبادلِ بين الأدب العربي والأدب الكناري، المتقاربين جدّاً والمتباعدين جدّاً في الآنِ نفسه، يتوقّفُ أساساً على وُجودِ مُترجِمين جيِّدين ودعمِ المؤلِّفين والمؤلِّفات وعلى نشرٍ جيِّدٍ وفعّالٍ لأعمالهم. وبخصوصِ سُؤالِكَ عن الرواياتِ التي يجبُ ترجمتُها إلى العربية فهو أمرٌ يستوجبُ مسؤوليةً كبيرةً بالنسبة إليّ، إذ تتداخلُ ها هنا، بالإضافة إلى عاملِ الجودةِ الأدبيّة، أذواقي وآرائي الخاصةُ أيضاً؛ ومن جهةٍ أُخرى، لا أعلمُ إمكانياتِ تلقِّي هذه الأعمالِ الأدبية. لكن رغم ذلك سوف أُخاطر: "ماراريا"، "جعّةُ الشعير الأحمر" و"عُميانُ القمرِ المنتصِف" لرفاييل أروثارينا؛ "فيتاسا" و"تاسيلي" لإسحاق دي بيغا؛ "السكِّينُ المُولَّد" لآنخيل سانتشيث؛ "الوَهْد" لنيباريا تيخيرا؛ "عصافيرٌ بلا سماء" لكانديلاريا بيريث غالبان أو "المُقرِضة" لماريا ديل مار رودريغيث؛ وهناك أيضاً رواياتُ أليكسيس رابيلو البوليسية.