"إن الكلمة في داخلها كلمة، لا تستطيع أن تقول كلمة" (ت.س إليوت) أكثر من ذي قبل، أصبحت لدي حساسية شديدة أشبه بحكّة الجلد كلما لمست أو تذوقت شيئا، أينما حللت، ثمة سلطة ما تتربص بي، قلت سلطة ما لأن قوة السلطة في غموضها، في كونها هي وغيرها، في كوننا على يقين بوجودها لكننا لا ندري في أي "أين" تحوز لها مكانا، وهنا سر سحرها وخلودها. صرت أخشى السلط المرئية وغير المرئية، كلما جلست إلى مكتبي تخرج لي من حبر مداد القلم، أو من أزرار لوحة مفاتيح حاسوبي، سلط عديدة مثل الجراد. نعم إن إرادتي في التحدي ومحاولة مواجهة السلط أنّى اختبأت بلا حدود، أن أقول ما أرى، أسمي وردة جلنار في حبات رمانة أيامي المعدودات، والشمس أشبه بالقبلة الأولى، والندى بذرة جمال على خد الزهرة والبحر حبة زبرجد في جيد الحبيبة، وأحكي إعجابي بشجرة الأكاسيا التي لا تطالها سوى أعناق الزرافات... هنا حيث تكون الأشياء شفيفة بلا حجب، وإذا أحب زوزو أن يصطاد السمك بمحض اختياره فله ذلك، لكن سعاد لم تذهب حتما إلى المكتبة كما في تلاوة "اقرأ"، بل اختارت في مفتتح الأسبوع ذات مساء أن تجلس في مقهى على شاطئ البحر ولذّ لها هذا الريح الذي يمشط شعرها وهي تستعيد ذكرياتها على موجه المترمل، وتستعيد شريط أيامها بحيوية، تحكي عن عزلتها، عن الأعراس الصاخبة وعن هروبها بلا خجل مما يضجرها، وعن التجاعيد التي نمت على وجنتيها، أفضل من أن تُحتجز في التلاوة المفسرة وأن تحفظ سورتها عن ظهر قلب من طرف أجيال. لكن لساني أخذ ينعقد أكثر، أحس كما لو أني أمام تلك العلب الصينية المتداخلة في بعضها البعض من الأصغر إلى الأكبر. كل كلمة في داخلها كلمة، هي ذاتها وسطها كلمات لا تستطيع أن تقول الكلمة التي أريد! كيف غدونا أمام سلط بصيغة الجمع، سلط عديدة متناسلة صغيرة مثل رؤوس النمل، ضخمة مثل جثث الماموت؟ يقال والله أعلم إن السلطة الأم أنجبت سلطات صغيرة، خصبة الذرية، والنسل يتزاحم حتى قناة "فالوب" في رحمها ثم نامت... سلطة في التاريخ، سلطة في الإعلام، سلطة في التعليم، البرلمان، السجن، المحكمة، وسط الطريق، على الحدود، في علب السمك، في فرشاة الأسنان... سلطات صغيرة تكاد لا تُرى في الهواء الذي نتنسمه، في ذرات الرمال وقطرات المطر، سلطة في اللغة، في المقدمات والمؤخرات من كل شيء، في القلب، في الخلايا الدقيقة للدماغ والأنسجة الصغيرة للجسد وفي تشكل الحقائق والمرويات والأحداث... أينما وليت وجهك ثمة وجه السلطة! نامت السلطة الأم لتستريح، وتركت نسلها الصغير يعبث بنا بلا رقيب ولا أم عاقلة مربية وكابحة. سلطات صغيرة مختبئة في سماعة الهاتف، في كاميرا التلفزيون، في جرس الباب، في بوق السيارة، في قاعة الانتظار، في سماعة الطبيب وحبات وحوامل دواء وَصَفاته، تحت جلد النظارة التي أضع على أرنبة أنفي... مثل أسلاك عارية تلسعني حين أمرر أناملي على هاتفي أو لوحة مفاتيح حاسوبي، سلط دقيقة ميكروسكوبية تتسلل مع دخان سيجارتي إلى جوفي وتسكن إلى الأبد، وتقدم من هناك تقارير مفصلة عن نشاط "الخلايا السرية" في جسدي ومنظمة الكريات الحمراء ومدى تكاثر أشياعها ضد الكريات الرافعة لراية السلام. أحس بأنني مراقب في أدق التفاصيل، ما أن أضع جثثي على السرير حتى تُشعرني السلطة بأنها لا تنام، ورغم أنها لا ترى في حلكة الليل، فإنها تشتغل بنشاط عجيب وهمة منقطعة النظير، لا أستطيع أن أحلم مثل جبل نبتت له أجنحة ليطير، أو نسر ملكي يعيش بأنفة في القمة الشماء. فذلك مخل بالأمن العام للحلم، ومزعج لعطلة السلطة الأم التي أنجبت سلطات غزيرات واستوت على سريرها لتنام من تعب حراسة العالم! سلطات كثيرة لها قدرة عجيبة في مواجهة الذاكرة بالنسيان، الشرف بالمال، الأمل بالألم، الحب بالخيانة والمكر... لقد خيبت السلطة رأي رولان بارت نفسه، حين اعتبر وجود النص هو الاستدلال على انعدام السلطة والوعي التاريخي، أي الانبثاق والتوجه، قم لتر يا بارت. كل النصوص محكومة بالسلطة كغياب للحقيقة، كانعدام حقيقي، كتملك وكقوة: (Authority/power)، نفيا أو مقاومة. زحفت السلطة على كل ذرة في العالم اليوم مع هذا الوباء التاجي النازل من سلالات إمبراطورية منذ نيرون وهولاكو: إرادة، ذاكرة، تاريخ، وعي، عاطفة، جغرافيا وتاريخ، امتلكت الزمان والمكان والهواء، تجددت وأعادت تأثيث ذاتها باستمرار، فهي ناعمة الملمس لكنها دوما خشنة الفجيعة... كبر سياج الهواء الممنوع، إننا نتنفس اليوم بحرية وبدون إرغام من أحد، هواء السلطة التي انتشرت من حولنا، بلّدت حواسنا، دجّنت مشاعرنا، نثرت الكثير من الغبار على سلسلة وعينا حتى صدئت وتعطّلت، لم تعد هناك سلطة بالمعنى المرئي الذي اعتدناه: سلطة قوية، متجبرة، تعلو كنسر جليل على رأس الصولجان، أو تقف بشموخ بهي كأسد يحرس مملكة غابته، يزرع الرعب في المتسللين البرابرة إلى مزارعه الخاصة، أو منافي السجون ومقاصل وكرابيج. السلطة اليوم ناعمة ومغرية، تجدها في قبلة الحبيبة، في جيب معطفك، تتسلل مع صنبور الماء حين تفتحه كما في صوت المذياع أو صور التلفزيون، في رائحة فراشك، تحت الوسادة التي تدس تحتها أحلامك، في قمطر مكتبك الذي تعتقد وحدك من يملك مفاتيحه، وتغلق أسرارك باطمئنان الواثق... لا، لم تعد السلطة اليوم تعتمد المقابر لإصلاح احدوداب ظهر معارضيها، لقد تخلت عن أسلحة الحديد والنار وسئمت الرائحة الزنخة في العنابر والسجون السرية والمنافي ورائحة الدم الفائحة من المقاصل والمشانق والمقابر. السلطة اليوم أنيقة، فاتنة وجذابة، تحرص على إخفاء رائحتها الكريهة التي تستشري في الجسد مثل سم زعاف، تتجمل لعشاقها كما معارضيها، تتعطر، تُجري حمية خاصة على جسدها كي لا تعدو مثل مومسات الرصيف في آخر الليل، مشتهاة من طرف من يمارسها ومن يقاومها على حد سواء. تلبس معطفا من الفرو، تضع أحمر شفاه قرمزي يزيدها بهاء، تُمتع مجالسيها بالكثير من الحكي الأنيق، تشرب بضعة كؤوس من "التيكيلا" أو "المارتيني" قبل أن تودع عشاقها الذين يتكاثرون على موائدها مثل الذباب، ولها براعة خاصة في إخفاء جثث ضحاياها كما الرائحة المنبعثة من فمها. كم أضنت فوكو وهو يبحث في الدهاليز حيث توجد بشكل سري أو سافر. قمت اليوم متسللا إلى الحمام، لأغتسل، لأنظفني من كل غبار السلطة حتى لو أصبحت عاريا إلا من حدسي ولغتي لمواجهة كل أشكال الانكسار والتلاشي، وأكون قادرا على تسمية الأشياء دون الإشارة إليها، فالأشياء وُجدت لتسمى، لتدل على مرور ذلك الإنسان الذي علمه الله الأسماء كلها. كنت أنفض الغبار عن ماكينة جسدي، أحسست بالكثير من المرح، فبدأت أصدح بالغناء، أخذ صوتي يملأ الفراغ بين ذرات ماء الرشاش وحبات الرمل تدغدغ قدمي في صحراء الذاكرة. جلست إلى مكتبي وبدأت أستعد للبوح بلا رقيب، أحسست بأنني أريد أن أعبر بالكلمات عن الأشياء بلا زيغ ولا دوران، تحولت صحراء الذاكرة إلى واحة خصبة، ووجدتني أعيد ترتيب العالم، وأسمي الأشياء بمسمياتها قبل أن يجف ماء الحياة في اللغة/الحقيقة. كنت أسرع في خلقي بهمة وحيوية، أعلق سماء رشيقة على الكون لها الحرية في أن تغادر فضاءها متى شاءت، أُنبت جبلا على حافة البحر، ليحضن عشق النورس وإذا ما عنّ له أن يطير مع سربها، ما عليه إلا أن يصفق جناحيه. وضعت بعض الرذاذ على موجة البحر كي لا يجف حلقها إذا صرخت، أطلقت خيولا من إسطبلات المروضين لتسرح في الحقول طليقة بلا ساسة ولا فرسان، فلا حروب هنا ولا صراع ولا استعراض قوة. وحين انتهيت من فرط التعب بعد ستة أيام من الخلق، صنعت في اليوم السابع بما كتبت طائرة ورقية لأسعد طفلا مهملا ببسمة، لكن الحروب حتى ولو كانت على الورق تستفز السلطة لتطرح أسئلتها الحارقة حول النوايا السيئة من صناعة طيران ورقي: لم وكيف وأين ومتى... إذن فأنت متهم حتى تثبت إدانتك؟ ذهبت للفراش لأستريح من فرط التعب، فوجدت السلطة الأم تنام إلى جانبي، تضحك حتى برز ضرس عقلها وتستلقي على قفاها وتقهقه بلا سبب. لعنت الشيطان فيما يخيل إلي ونمت، لكني وجدت زوجتي توقظني من النوم وتمد إلي كسوتي ومحفظتي لأذهب إلى المدرسة التي أدرس بها. فلعنت في سري: الحلم والسلطة وسعاد التي ذهبت إلى البحر بدل المكتبة وكيف تحررت من النص بين الحاجب والعين، وحضرني "طُلي عمود النور" و"القناص والغراب الأعور"، و"الطاحونة التي حوت ما في العالم"، و"الفلاح وأعوانه" وكدت أصرخ: "آش قريتونا، قرد بقرة برتقال". ولولا أني لعنت الشيطان لطار الفيل والمعلم والمدير والمدرسة والحي الذي توجد فيه، ولما وصلتكم حكايتي والعياذ بالله، فشهرزاد كانت تحكي لتنفذ بجلدها من قطع رقبتها فتحيا وألف امرأة من بنات جنسها، فيما أنا أحكي لأموت. إنها السلطة والسلام.