إنه من غير المقبول أن يصنف المغرب اليوم في المرتبة 121 في تصنيف التنمية البشرية، متِأخرا عن الجزائر (الرتبة 82) بمشاكلها وحراكها الأسبوعي وعن ليبيا بصراعاتها القبلية (110) وعن مصر (116) وتونس (91) بمشاكلهم الداخلية. من المفروض أن المغرب الرائد في مناخ الأعمال إقليميا ومن بين أحسن الدول استقطابا للاستثمارات العمومية في شمال إفريقيا أن يتصدر قائمة الدول العربية والإفريقية في مجال التنمية البشرية، ولكن حجم التفاوتات الترابية بين الجهات نتاج عدم نجاعة التدخلات القطاعية وضعف التقائية السياسات العمومية وتمركز الاستثمارات في جهات دون أخرى، فوت الفرصة على ساكنة المغرب الاستفادة العادلة من التأثيرات الإيجابية للمشاريع والاستثمارات المنجزة بالمغرب. فخمس جهات بالمغرب فقط، تحتضن جل الاستثمارات، وتعتبر أكثر تنافسية وإنتاجا للثروة من باقي الجهات التي هي أقل إنتاجا وأكثر فقرا. وحسب المذكرة الخاصة بالحسابات الخصوصية لسنة 2018 الصادرة شهر شتنبر 2020 عن المندوبية السامية للتخطيط فثلاث جهات فقط تساهم ب 58,7% من الناتج الداخلي الإجمالي الوطني، ويتعلق الأمر بالدار البيضاءسطات، والرباط - سلا – القنيطرة، وطنجة تطوانالحسيمة. أما التسع جهات المتبقية فكلها تساهم بما مجموعة 41,3%. وفي ظل هذه التفاوتات في مساهمة الجهات في الناتج الداخلي الخام الوطني، انتقل متوسط الفارق المطلق بين الناتج الداخلي الإجمالي لمختلف الجهات ومتوسط الناتج الداخلي الجهوي من 60,4 مليار درهم سنة 2017 إلى62,7 مليار درهم سنة 2018 حسب المذكرة سالفة الذكر. وهو الوضع الذي من الممكن أن يتفاقم خلال هذه السنة مع جائحة كوفيد 19 وتأثيراتها على الاقتصاد الوطني بصفة عامة وعلى مختلف القطاعات الإنتاجية على وجه الخصوص. وقد أكد والي بنك المغرب خلال اجتماع مجلس البنك بتاريخ 22 شتنبر2020، أنه رغم المعطيات الخاصة بالحسابات الوطنية خلال الفصل الأول من سنة 2020 التي لا تعكس إلا تأثيرا جزئيا للجائحة على الاقتصاد الوطني، إلا أنه بالمقابل، بنك المغرب يتوقع انكماشا للاقتصاد الوطني ب6% في وقت توقعت الحكومة المغربية تراجع الاقتصاد الوطني ب 5% فقط في قانون المالية التعديلي لسنة 2020. والأكيد أن تطور الوضعية الوبائية بالمغرب وبالخارج يرجح فرضية بنك المغرب بتراجع للاقتصاد الوطني بنسبة كبيرة، في ظل الاستئناف التدريجي البطيء للنشاط الاقتصادي الوطني واستمرار إغلاق الحدود في وجه السياحة وكذا ما سبق ذكره من التفاوتات المجالية في خلق الثروة وما ينعكس على الواقع الاجتماعي للساكنة في مختلف جهات المملكة. رغم كل ذلك فالمغرب والمغاربة متفائلون بمستقبل أفضل مع الرؤى الاستباقية لجلالة الملك نصره الله وحفظه. فقبل جائحة كورونا شخص جلالته واقع المغرب الاقتصادي والاجتماعي وبادر بتدابير واقعية ستمكن المغرب من تبوء مكانته الحقيقية في محيطه الإقليمي والدولي، وفي المقابل ستمكن من تجاوز المشاكل الداخلية من تفاوتات ترابية واجتماعية وذلك بفضل الأوراش التنموية التي أوصى عاهل البلاد نصره الله بتنزيلها. نعم الوضع الاقتصادي والاجتماعي صعب ولكن لا يمكن للجائحة أن تثني الحكومة عن تنزيل الأوراش الملكية من جهوية موسعة ونموذج تنموي جديد وتنزيل ميثاق اللاتمركز الإداري في انتظار بداية يناير 2021 لتفعيل التغطية الاجتماعية للمغاربة. نعم نعاني آثار جائحة كوفيد التي أنهكت بعض القطاعات التي تدبر الجائحة ليل نهار كقطاعات الداخلية والصحة والتعليم، ولكن أين هي الحكومة بمكوناتها الأخرى لتباشر مهامها في تنزيل الأوراش الملكية والتي بعضها لا يحتاج لميزانيات بل لقرارات وزارية وهيكلة إدارية وجرأة سياسية؟ إن حجم التفاوتات المجالية والاجتماعية التي أقرتها المذكرة الأخيرة للحسابات الجهوية لسنة 2018، الصادرة أخيرا تسائل الحكومة المغربية عن نجاعة ورش الجهوية الموسعة وعن تجربة الجهات بعد حوالي خمس سنوات من الممارسة. إن المشرع المغربي جعل من التنمية الاقتصادية والجهوية اختصاصا ذاتيا لمجالس الجهات حسب القانون 111-14 المتعلق بالجهات؛ فهل الجهات التي لا تساهم في الناتج الداخلي الوطني فشلت في تدبير اختصاصاتها الذاتية في مجال التنموية الجهوية والاقتصادية؟ هل الإشكال يتعلق بالمؤهلات البشرية وبتركيبة المجالس أم بضعف الإمكانيات والتي غالب ما نعلق عليها شماعة الفشل؟ أم التنمية الترابية تدبير الحاجيات مما هو متوفر من الإمكانيات Le Développement territorial est l'acte de faire ce qu'on peut avec ce qu'on a sur le territoire ? إن الحصيلة ولو في زمن الجهوية الموسعة كتجربة جديدة لم تستو بعد شروط نجاحها مع تأخر الوزارات في تنزيل تصاميمها المديرية، تبدو غنية بالعبر والخلاصات للمرور من جهوية إدارية (واقع الحال) لجهوية اقتصادية (الهدف المنشود). إن في غياب الكفاءات والنخب عن تدبير الشأن المحلي والجهوي يمكن أن نتفهم هيمنة الجهوية الإدارية على الجهوية الاقتصادية ولكن الوضع مستقبلا لن يستقيم خاصة وأن الجهوية الموسعة تقطع مع مركزية القرار ولو الاقتصادي. اليوم مع مجموعة من الإصلاحات كإصلاح المراكز الجهوية للاستثمار وإحداث اللجان الجهوية الموحدة للاستثمار بموجب القانون 47.18 الصادر في 13 فبراير 2019، عهدت لمؤسسة والي الجهة اختصاصات جديدة كرئاسة المجلس الإداري للمراكز الجهوية للاستثمار. هو قرار إيجابي في صلبه لضمان نجاعة الاستثمار وتنسيق تدخلات المصالح الخارجية لفائدة المستثمر؛ لكنه في المقابل يطرح علامات استفهام ما دام المشرع منح كذلك لمجلس الجهة تخصص جدب الاستثمارات (المادة 82 من القانون 111-14)؟ نعم هناك تكامل أقره المشرع من حيث دراسة الملفات والمصادقة على المشاريع الاستثمارية (مؤسسة الوالي بصفته رئيس مجلس ادارة المركز الجهوي للاستثمار) وبين مجالس الجهة بدور تحفيز جذب الاستثمارات، إلا أن التخوف يكمن في تقوية اللاتمركز الإداري على حساب الجهوية الموسعة مستقبلا؟ إذ لا يجب السقوط في جهوية التمركز الإداري عوض الجهوية الموسعة رغم تكامل المنظومتين؟ وعليه، من الأجدى اليوم التسريع في تنزيل ميثاق اللاتمركز الإداري كي لا نسقط في جهوية التمركز الإداري وذلك دعما لورش الجهوية المتقدمة. Déconcentration administrative au lieu d'une régionalisation de la concentration administrative pour une régionalisation avancée النموذج التنموي في ظل الجهوية الموسعة نص الخطاب السامي لجلالة الملك نضره الله الموجه لنواب الأمة خلال افتتاح الدورة التشريعية الأولى 2017-2018 على ما يلي: "إذا كان المغرب قد حقق تقدما ملموسا، يشهد به العالم، إلا أن النموذج التنموي الوطني أصبح اليوم، غير قادر على الاستجابة للمطالب الملحة، والحاجات المتزايدة للمواطنين وغير قادر على الحد من الفوارق بين الفئات والتفاوتات المجالية وعلى تحقيق العدالة الاجتماعية. وفي هذا الصدد ندعو الحكومة والبرلمان، ومختلف المؤسسات والهيئات المعنية، كل في مجال اختصاصه، لإعادة النظر في نموذجنا التنموي لمواكبة التطورات التي تعرفها البلاد (....). وإدراكا منا أنه ليست هناك حلول جاهزة لكل المشاكل المطروحة في مختلف المناطق، فإننا نشدد على ضرورة ملائمة السياسات العمومية لتستجيب لانشغالات المواطنين حسب حاجيات وخصوصيات كل منطقة". انتهى كلام جلالة الملك. ويتزامن ورش بلورة نموذج تنموي جديد مع تنزيل ورش الجهوية المتقدمة، وهو ما يفرض التفكير والتأمل في العلاقة التكاملية بين الورشين. فهل النموذج التنموي تصور وطني؟ أم سيتم استحضار البعد الجهوي خاصة وأن الفوارق المجالية من بين مسببات نزول هذا النموذج الجديد؟ إن تغيير المؤشرات الترابية الخاصة بالتفاوتات المجالية والاجتماعية الصادرة أخيرا عن المندوبية السامية للتخطيط والتي تبين ضعف جل جهات المغرب في المساهمة في الناتج الوطني الاجتماعي، وبذلك ضعف نسيج اقتصادها الجهوي وعدم قدرته على امتصاص البطالة، تستوجب حاليا التعجيل بتنزيل الأوراش الملكية وخاصة التي لا يرتبط تنزيلها بجائحة كوفيد-19 لأننا أمام الهدر الزمني الذي يزكي فقدان الثقة. كما أن النموذج التنموي يستدعي استحضار البعد الجهوي لتنمية جهوية متكافئة قوامها خلق الثروة وتوزيعها العادل على ساكنة هذه الجهة، للتخفيف من حدة التفاوتات. كما أنه على بعد أشهر قليلة من الاستحقاقات الانتخابية التي ستكون مصيرية للبلاد، لأنها تتزامن مع تفعيل النموذج التنموي الذي سيقدم بداية يناير 2021 لجلالة الملك، يسائل الأحزاب السياسية على تقديم أطر في المستوى كفيلة ضمن لوائحها، مساهمة منها في إنجاح الأوراش المفتوحة لما فيه خدمة للبلاد. *دكتور في الاقتصاد الجهوية والتنمية الترابية