نشرت جريدة هسبريس الإلكترونية مشكورة مقالا لي بعنوان "مفارقات حكومية" يوم 6 شتنبر 2020 الماضي، ومما كتبتُ فيه ما يلي: "أن ينص الملك في خطاباته على حُسن التسيير والتدبير، ثم تمعن حكومتنا في إبداع لجن من بعض أحزابها فقط؛ لتصرف لهم ملايين الدراهم يضيفونها إلى ما لديهم من مرتبات وتعويضات، في وقتٍ تُناقِضُ فيه نفسَها حين تطبّق سياسة التقشف فيما يعود على غالبية الشعب العظمى مثلا بالتوظيف في مختلِف قطاعات بلدنا ليحقق الشباب استقراره وكفافه من العيش؟؟ أليس جديرا بحكومة -تدعو وتبرمج للتقشف وأخذ ظروف الوباء بعين الاعتبار- أن تكون قدوة فيما تدعو إليه، على الأقل في ظروفنا الاستثنائية هذه؟؟ (أَتامُرونَ النّاسَ بالبْرّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُم وأَنتُم تَتْلونَ الكِتابَ، أَفَلا تَعْقِلون)؟ البقرة: 44. وفي نفس المجال المالي، لا تلتفت حكومتنا إلى مراجعة صرف ملايين الدراهم رواتبَ وتعويضاتٍ بما يناسب أن العمل الحزبي في البرلمان لا يعدّ وظيفة، وكلنا يلاحظ في واقعه الآن مع الأسف أنه أرقى من أغلب الوظائف الأكثر مشقة وممارسة والأقل راتبا وتقاعدا، هذا دون ذكر إيجابية قرب نوابنا المنتخبين العملي والميداني من المشاريع المدرة لمزيد دخل مادي، لأنهم السبّاقون إلى معرفة تفاصيلها بل تقنين مجالها، مما يمكّنهم من الإسراع باقتنائها والإفادة منها. ما الذي سيؤثّر سلبا في جيوب مسيّرينا -أصحاب الملايين في رواتبهم وتعويضاتهم التي هي إضافية في حقيقة أمرها؛ إذ لكل واحد مهنته الأصلية قبل التحاقه بالعمل النيابي- أن يخصصوا مثلا تلك الرواتب طيلة مدة الوباء لدعم بلادهم التي تجشموا نضالهم للنهوض بها وتطويرها؟؟ بل ولو نصف رواتبهم فقط؟؟ ..... وختاما ألا يمكن أن نقول: إنه لن ينضبط أمرُنا إلا إذا لاحظ المواطن العادي اهتمام مسؤوليه المباشرين بمحيطه الخاص من أزقّته وحدائقه وأرصفته وإنارته، واستجابة الإدارات لمطالبه العادية، وكل ما يحقق استقراره وارتياحه مما هو على عاتق هؤلاء المسؤولين؟؟ فمثلا كم مِن حُفَر تَنْخُرُ جميع مدننا وقرانا، وكم من إنارة معطلة لعقود من الزمن تصل عطالتها لأكثر من خمس سنوات مثلا، هذا ناهيك عن مناطق آهلة بالسكان لا يتوافرون على مجرد طريق...، كل هذا مُشاهَد ونعيشه يوميا. وهذا حتى يقتنع هذا المواطن بأن من يتسابقون إلى تدبير شؤونه لهم الانسجام التام بين ما يَخطُبون به قبل تحمّلهم المسؤولية وبين ما يمارسونه من تدبير شؤون الشعب في مُدن الوطن وقُراه". إن مقالي هذا يُعدّ حلقة من حلقات تساؤلات وانتقادات المؤثّرين الاجتماعيين، كلٌّ من زاوية اهتمامه وتخصصه، عبر مختلِف وسائل التواصل الاجتماعي الإلكترونية المتنوعة؛ بغية التوصل للمعلومة المُخفِّفَة من معاناتنا جميعا، وهذا في إطار ما اختاره بلدنا بقيادة ملكه محمد السادس من إشراك مجتمعنا المدني في مسيرتنا التنموية. دهشتُ غاية الدهشة لما سمعتُ -يوم الثلاثاء 13 أكتوبر 2020- كلاما للسيد البرلماني إدريس الأزمي الإدريسي، كله غضب وانفعال ضد من تساءل وانتقد بحسب ما لديه من أخبار ومعلومات عما يحصله البرلمانيون من رواتب وتعويضات ومعاشات، ومما ورد في كلمته/غضبه ما يلي: "... هذه شعبوية وهادي خاصنا نتصدّاو ليها، ..... الهجوم ديال ما يسمى بالمؤثرين الاجتماعيين والمؤثرين، ما الذي صنع لنا هؤلاء المؤثرون الاجتماعيون؟ ...، يْجِيو لعندنا نكلسو معاهوم...، ما عارفينهومش شتا يْشدّو باش يقولو هاد الكلام هذا..."، أركز هنا على مسألة قيمية تواصلية هي من أهم أسباب إحداث التشنجات في رأسمالنا غير المادي البشري. شعرتُ -كما هو كل غيور على هذا الوطن- بالامتعاض وبالحزن العميق لردة الفعل هاته، غير المحسوبة العواقب، وتولّد لديّ إحساس بالرّهاب من التفكير في تساؤلات بشأن تسيير مسؤولينا لشأننا المحلي والوطني، تقضّ مضاجعنا ونحن نلاحظ مفارقات وتناقضات يُقنَّن لها وتُطَبَّق مؤطَّرة ب"قانون" أو "مذكرة" أو "أوامر" وما أشبه هذا. أحس بهذا الامتعاض في وقتنا الذي أخذت مناهجنا التربوية على عاتقها تطوير وتعميق الحس النقدي لدى نَشئِنا!!! لن أخوض في أصول ما دَرَجَتْ عليه لغتُنا العامّية من استعمال لفظ "بيليكي"، وهل هو من أصله الإنجليزي "Be lucky=كن محظوظا"، أو أصله برتغالي؛ فالتعليل في مثل هذا نسبي اعتباري تقريبي. ولهذا أتساءل مستغربا عما يلي: هل ما طرحتُه شخصيا من نقد في مقالي المشار إليه أعلاه -يخص ما يتقاضاه البرلمانيون- بضوابط الغيرة الوطنية الصادقة، وبضوابط التضامن وفقه الأولويات المنصوص عليهما في ديننا الإسلامي يعدّ شعبويا؟ وينبغي التّصدّي له؟ هل عبارة السيد البرلماني "هذه شعبوية، وهادي خاصنا نتصدّاو ليها": نفهم منها أن أولويات برلماننا هو التصدي لمتنفَّس الشعب من خلال تساؤلاته وانتقاداته، ولو تكون أحيانا غير موضوعية؟ إذ مدارك الناس متفاوتة بطبيعة خلقتهم. هل مجرد أن يبالغ أحدهم في نقدٍ ما يجعله السيد البرلماني مدعاة لإعلان المواجهة بالتصدي، يؤدي هذا -بطبيعة هذا التّهوّر- إلى التراجع عن حق الشعب في المعلومة وفي السؤال وفي النقد؟ مع العلم أنه "لا تجتمع أمّتي على ضلالة" كما في الحديث المشهور؛ فليس أغلب المنتقدين مبالِغين، خصوصا منهم المهتمين والمفكرين والمتخصصين والباحثين. هل عبارة السيد البرلماني "الهجوم ديال ما يسمى بالمؤثرين الاجتماعيين والمؤثرين": نفهم منها أن العلاقة التي يراها البرلماني جامعة له بمنتقديه هي الهجومُ اللّازمُ له الكَرّ والفَرّ؟ والكلّ يعلم ما لهذه المصطلحات من مقتضيات العُدّة والاستعداد والقوة والنِّزال وما إلى هذا. لماذا يؤسس البرلمانيّ -عند نقاشه موضوعاتِ جلسات البرلمان- لخطاب التشنج والكراهية والضّدّيّة والنّدّية؟ عوض خطاب الحوار والتوضيح والتقويم والتصحيح وإقامة الحجة والاعتراف بالخطإ ووو؟ لماذا يعمق خطاب بعض برلمانيّينا النفور والتنفير لدى أفراد الشعب ممن يتولى شأنَهم المحلي والوطني؟ أليس مثل هذه الخطابات هي التي تولّد لدى الشعب ردود أفعال شرسة لمّا يزورهم مثلا قبيل الانتخابات مَن صوّتوا عليه فيشبعونه سبّا وشتما، بل وحجارة وغير هذا، مما نطّلع عليه مرارا في فديوهات وسائل التواصل الاجتماعي؟ متى ينتبه برلمانيّونا لأخلاق رئيسهم ملك البلاد وحنوّه الأبوي لينهلوا منها مناهج تواصلهم وردودهم، حتى يهذبوا من ردود أفعالهم ومن نظرتهم لأفراد الشعب باعتبار أنهم إخوانهم وأولادهم؟ هل عبارة السيد البرلماني "ما الذي صنع لنا هؤلاء المؤثرون الاجتماعيون؟": نفهم منها أن برلمانيّينا اختلط لديهم مستواهم المتمثل في موقع المسؤولية وتمكنهم من السلطة والتسيير، ومستوى الشعب الذي تُطبّقُ عليه قراراتهم وتشريعاتهم وقوانينهم؟ ألا يكون من الصواب الحكيم إذا قلب السيد البرلماني اتجاه سؤاله بقول: "ما الذي صنعناه نحن البرلمانيين لهؤلاء المنتقدين والمحاورين الاجتماعيين؟". بل يشكّل لجنة متخصصة في جمع الأسباب والدواعي التي أدت لهذا النقد المتواصل! فهل ننتظر من الشعب المغلوب على أمره أن يصنع لكم أيها البرلمانيون شيئا، ولا نجعل مركز الثقل في ما الذي تصنعونه أنتم لوطنكم ولأفراد الشعب -الذين بهم ترتقون سلم المسؤوليات المحلية والوطنية- يا من ملكتم القوانين والمشاريع وجبالا من التعويضات والامتيازات والحظوظ المجانية المسلوبة من ضرائب الشعب المستضعف الذي لم يجد في المقابل موردا بسيطا قارا ينقذ به عيشه؟ ألم يحن الوقت بعدُ للاستفادة من منهجية خطب ملكنا الموضوعية، التي تكررت مرارا في تحميل المسؤولية لذويها بكل تجرّد وشفافية؟ خصوصا ونحن نعيش هذه الأيام على وقع توجيه عاهلنا للمجلس الوزاري عمليا في تعميق الإصلاح لقطاعات التنمية، بأجندة دقيقة ومحدَّدة؛ بغية إرجاع ثقة الشعب في مؤسساته!! هل عبارة السيد البرلماني "يْجِيو لعندنا نكلسو معاهوم": نفهم منها أنه ليس للبرلماني ولا للحكومة وسائل إيصال المعلومة والأجوبة عما يؤرق أفراد الشعب من مفارقات واضحة، تزيد المسؤول البرلماني غنى وحظا ورفاها وامتيازاتٍ ومجانية "البيليكي" حيثما حلّ وارتحل ووو، إلا أن يأتي هؤلاء المؤثرون الاجتماعيون ليجلسوا مع البرلمانيين؟ ومع الأسف: يأتون للجلوس لا لإطلاعهم على مخططات إخراج البلاد والعباد من الضائقة التي حلت بها، بل للمباهلة والتبكيت والمغالبة والجدال وكثرة القيل والقال!!! هل هذا هو تخصص برلماننا المغربي؟ أم هو تطوير له وتجديد لصلاحياته ومهامّه!؟ أليس جديرا بمن أسَّسَ فكره وقناعته على شريعة الإسلام، وقبل أن ينتقدَهُ غيرُه، أن يكون سبّاقا لكل تصرّف يأخذ مثلا في حده الأدنى الضروري من التعويضات فقط ويُرجع الباقي لمُتناوَل أفراد الشعب، ولا يُرجعه لانتمائه الذي ينتسب إليه؛ فالمال مال جميع المغاربة، وليس مالا أتى من جيوب المنتسبين لانتمائه فقط، وفي حده الأعلى يزهد في تلك التعويضات جميعها باعتبار أن له مورده المالي قبل التحاقه بتسيير الشأن المحلي والوطني؟ وبهذا يكون منسجما مع مبادئه التي استقطب الناس من حوله بها، وربّى أتباعَه على فضائلها ومقتضياتها! أليس ممكنا تكييف قوانيننا لهذا الإجراء الموضوعي المسهم في تنمية بلدنا، وتأليف قلوب الشعب المغربي على التعاون والتكامل لبنائنا التنموي؟ إن عبارة السيد البرلماني "ما عارفينهومش شتا يْشدّو باش يقولو هاد الكلام هذا..." غير واضحة؛ فلا نفهم من تساؤله عمن يموّل المنتقدين، هل المموّل من داخل الوطن أم من خارجه؟ فمفهوم التساؤل أنه متأكد من أن إتاوة ما تُمنَح للمنتقدين. وعلى أيّ، وعلى فرض وجود مموّلٍ ما، فالظاهر بقرينة مَن يختار مثلا متابعة دراسته في بلد ما، يروم مسؤولوه إعادة تصدير أبنائنا الذين استكملوا تخصصاتهم العليا عندهم بعدما غسلوا أدمغتهم، ليرجعوا إلى بلدهم المغرب ويمكّنوهم من التحكم فيه من بابه الواسع الاقتصاد وغيره من القطاعات الحساسة التي ترهن البلاد والعباد للأجنبي كيفما كان لونه ودينه. ونحن نعلم جيدا ما عاناه بلدنا المغرب في صراعاته منذ القديم ليبقى حرا أبيّا. إن هذه القرينة الواضحة وضوح الشمس في ضحاها هي الكفيلة بتسليط ضوء السؤال والتساؤل عليها، وأن نتوقف متمعنين في تداعياتها وما يترتب عنها. أليس مُجحِفا ومُبالَغا فيه أن نخندق كل من ينتقد انتقادا ما في صف من باعوا ذممهم ونالوا أجرا ما حتى يقوموا بواجبهم النقدي، هذا النقد الذي قامت على أسسه دول عادلة، من ضمنها خلافتنا الراشدة التي سارت بها الركبان؟ أختم بنموذج للافتة اطلعتُ عليها إلكترونيا لدى مؤثرين اجتماعيين غيورين مكتوب فيها الآتي، أكتبها كما سطروها: "ما هي الانتخابات؟ أسبوع ديال الزرقة والمرقة، يوم واحد ديال لورقة، و5 سنين ديال السرقة": فعوض أن نكيل لأصحاب هذا النقد/السخرية من قاموس الدارجة التنقيصي التهكمي غير الوازن ولا المسؤول ولا الواعي، كأننا نتنابز بالألقاب في الشارع العام، لا يضبطنا مستوانا الاجتماعي ولا الفكري ولا المهني ولا الأخلاقي ولا النضالي، ينبغي التركيز على تجلية موضع النقد/السخرية في عبارة: "... و5 سنين ديال السرقة"، لتوضيح مجال السرقة ومَن اقترفها وما السبيل لمحاصرة أصحابها إن ثبتت تلك السرقة أو السرقات؛ متنوّرين بمبادئ من تراثنا الخالد مثل: "رَحِمَ اللهُ امْرَءاً أَهْدى إلَيَّ عيوبي"، أو توضيح غموض أو لبس يقع فيه المنتقدون لتبيين كيفية صرف الأموال بضوابطها القانونية، أو التنحي من تحمل المسؤولية إن لم نستطع كشف السارقين، كما هو ثابت ومشهور في تاريخ حكومتنا المعاصر، لا أن نراوغ المنتقدين ونشغلهم بقضايا هامشية بعيدا عن بؤرة النقد والتساؤل بمختلف الحيل، لنَظهَر أمام المجتمع أننا نتصدّى للشعبوية وللفساد ووو. وعليه فلنجاح مؤسساتِنا -وأعلاها مؤسستُنا التشريعية- ينبغي الالتزام بما يناسبها من مبادئ وصفات تؤهل المنخرط فيها لأن يكون مشاركا في قطار تنميتنا وتقدم حضارتنا، حتى لا نخلط تصرفاتنا فنجعلها على وتيرة واحدة، وإن تغيرت سياقات تموضعاتنا الاجتماعية والثقافية والسياسية والمهنية. إن ما يحصل من خروج عن جادة مبادئ برلماننا أحيانا في حوارات أعضائه وردود أفعالهم -البعيدة عن قبول الآخر وتدبير الاختلاف بما نعرفه جميعا من أساليب حضارية- لَيدعونا للتساؤل عن مقوّمات وضوابط أهلية من يَلِجُه لتحمّل أعباء النيابة عن الأمة، وهذا جَلَل عظيم، فهل يلزم إعادة النظر في وسائل الزجر والردع لمن يَحيد عن تلك المبادئ؟ أم يلزم سَنّ شروط لتحقّق أهلية مَن ينوب عن الأمة وكفاءته، سواء في مستواه الفكري والتجريبي قلْبا، أو في مستواه الكلامي والحواري قالَبا؟ ألم يحن الوقت بعد لانتماءاتنا أن يرتقوا عن سفاسف توظيف المؤسسات لتصفية حساباتهم الشخصية والانتمائية!! *أستاذ التعليم العالي جامعة سيدي محمد بن عبد الله فاس