تطرقت مقالة بحثية، منشورة في الموقع الإلكتروني لمركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، إلى ذكرى إعادة توحيد شَطْريْ جمهورية ألمانيا الاتحادية بعد مرور ثلاثة عقود على سقوط جدار برلين ونهاية الحرب الباردة، مشيرة إلى نجاح ألمانيا البارز في إرساء نموذج ناجح لتحقيق النمو الاقتصادي والاستقرار السياسي، بالإضافة إلى علاقات ودية مع جيرانها في القارة الأوروبية، وعلاقات استراتيجية وثيقة مع الولاياتالمتحدة، وعلاقات تجارية نشطة مع معظم دول العالم. قيادة "ميركل" تشير المقالة، المعنونة ب"هل يصمد النموذج الألماني في بيئة دولية مضطربة؟"، إلى نجاح النموذج الألماني تحت قيادة "أنجيلا ميركل" في السنوات الأخيرة، حيث نجحت إلى حد كبير، حتى الآن على الأقل، في مواجهة أزمة وباء "كوفيد-19"، بعدد أقل من الوفيات وبضرر أقل على الاقتصاد. من ناحية أخرى، تتولى ألمانيا الرئاسة الدورية لمجلس الاتحاد الأوروبي من 1 يوليو 2020 إلى نهاية العام، حيث تنظر أوروبا إليها للعب دور قيادي في دعم التعاون الأوروبي وحل النزاعات، سواء في ليبيا أو بين تركيا واليونان. لكنها-في الوقت نفسه-تواجه تغيرات في البيئة الدولية. وعلى الصعيد الداخلي، من الممكن أن تُهدد استمرارية هذا النموذج، أو تدفع إلى إحداث تغييرات جذرية عليه. ولعل من أهم هذه التغيرات، ما لمسته "ميركل" من أنه ربما لا تستطيع أوروبا الاستمرار في الاعتماد على مظلة الحماية الأمنية الأمريكية. ولذلك مدلول كبير لألمانيا تحديدًا، فقد كانت الضمانة الأمريكية، وانضمام ألمانيا إلى حلف الناتو، ثم بقاؤها في الحلف بعد إعادة التوحيد، من أهم العوامل التي ساعدت على تجاوز التحفظات الأوروبية على عودة ألمانيا موحدة وقوية إلى الساحة. ضغوط خارجية تعود التحفظات الأوروبية-طبعًا-لاقتران توحد ألمانيا تاريخيًّا بصعود تيار قومي يميني وتوسعي، تسبب في قيام حربين عالميتين، بما صاحبهما من تدمير واسع على القارة الأوروبية، ولألمانيا نفسها بالطبع، وفق المقالة، وهو ما أشار إليه "هنري كيسنجر" في عبارته الشهيرة بأن ألمانيا الموحدة أقوى مما تتحمله توازنات القوى في أوروبا. وكان المخرج من هذا المأزق الأوروبي أن تتعهد الولاياتالمتحدة بحماية أمن أوروبا، سواء من الاعتداءات الخارجية (الاتحاد السوفيتي)، أو من الصراعات الأوروبية، أي من ألمانيا الموحدة. وقد وضع ذلك حدًّا لسباقات التسلح التي شهدتها القارة من قبل، وأعطى لألمانيا الفرصة للتركيز على تحقيق القوة الاقتصادية. من جانبها، عمدت ألمانيا إلى طمأنة جيرانها بالاندماج القوي في المشروع الأوروبي، إلى درجة التخلي عن عملتها القومية، واعتماد العملة الأوروبية الموحدة، وهو ما رفضته بريطانيا تمسكًا بالهوية القومية. من جانب آخر، حرصت ألمانيا على التمسك بمقاربة تحقيق التوافق، وعدم الخروج عن التيار السائد، داخليًّا وعلى الساحة الأوروبية، ما صبغ سياساتها بالمحافظة والميل لتجنب المخاطر، اقتصاديًّا وسياسيًّا. ورغم قوتها النسبية على الساحة الأوروبية، فقد عزفت ألمانيا خلال العقود الماضية عن لعب دور قيادي. وكل سياسة تبنّتها حرصت خلالها على أن تُطرح في إطار جماعي. وحتى الآن، فالحديث عن قيادة ألمانية فرنسية مشتركة للاتحاد الأوروبي، حيث تبنى كل من الرئيس الفرنسي "ماكرون" والمستشارة الألمانية "ميركل" معًا إقناع باقي الزعماء في الاتحاد الأوروبي بتخصيص حزمة مالية لمساعدة الدول المحتاجة داخل الاتحاد على مواجهة تداعيات وباء "كوفيد-19". وأبرزت الورقة البحثية أن التغيرات على الساحة الدولية تضع ضغوطًا كبيرة على ألمانيا لتغيير هذه المقاربات التقليدية. فلو رفعت الولاياتالمتحدة فعلًا مظلة حمايتها الأمنية عن أوروبا، فإن ذلك سيعزز من الدفع الفرنسي بضرورة تكوين قوة عسكرية أوروبية، بكل ما يعنيه ذلك من زيادة الإنفاق على التسلح، وهو ما لا تحبذه ألمانيا، وتتخوف منه في ظل تصاعد تيارات القومية اليمينية المتطرفة في مختلف أنحاء أوروبا، بل وداخل ألمانيا نفسها. من جانب آخر، أوضح المركز البحثي أن تصاعد الحروب التجارية، والنزعة لتطبيق الإجراءات الحمائية، التي دشنتها أيضًا الولاياتالمتحدة في عهد "ترامب"، تهدد حرية التجارة عالميًّا، وهي الحرية التي تعتمد عليها ألمانيا كإحدى أكبر الدول المصدِّرة في العالم. وبينما تعد أوروبا السوق الأولى للمنتجات الألمانية، وهي من أكبر المستفيدين اقتصاديًّا من استمرار المشروع الأوروبي، فإنها تحتاج أيضًا إلى الأسواق الأمريكية والصينية. وقد وجدت أوروبا، وألمانيا بالطبع، نفسها بين شقي رحى فيما يتعلق بالحرب التجارية بين الولاياتالمتحدة والصين. فكل منهما يضغط لكي تأخذ أوروبا جانبها في هذه الحرب، واختيار أي من الجانبين له ثمن اقتصادي وسياسي وربما أمني. وأشارت المقالة أيضا إلى التدهور المستمر في العلاقات الأوروبية مع روسيا، خاصة في ظل الحملات الروسية الساعية للتأثير على الانتخابات في عدة دول أوروبية، ودعم مرشحين من اليمين المتطرف وتيارات أخرى يبدون استعدادًا لاتخاذ مواقف أكثر اقترابًا من روسيا، بالإضافة إلى تكرر عمليات الاعتداء على معارضين للنظام الروسي على أراضي دول أوروبية. ولعلّ الموقف الألماني أخيرًا بإعلان المستشارة "ميركل" أن المعارض الروسي "نافالني"، الذي نقل إلى ألمانيا للعلاج، قد تعرض فعلًا للتسمم، يعد-بحسب المراقبين-مؤشرًا على تدهور حقيقي في العلاقات الثنائية، حيث كانت ألمانيا من قبل حريصة على إبقاء القنوات مفتوحة مع الكرملين. ومن المنتظر أن يؤدي ذلك إلى سلوك أكثر عدوانية من روسيا، التي لم يعد لديها أمل في علاقات جيدة مع أي من الولاياتالمتحدة أو الاتحاد الأوروبي. ولفت المصدر عينه إلى الشطر الثاني من مقولة "كيسنجر" الشهيرة، التي تفيد بأنه إذا كانت ألمانيا أكثر قوة مما تحتمل أوروبا، فإنها أضعف من أن تؤثر وحدها على الساحة العالمية. فلكي تحافظ ألمانيا على سلمها ورخائها، فهي تحتاج لأن تكون أوروبا موحدة وقوية، وأن تلعب ككل دور "الموازن" على الساحة العالمية أمام كل من الولاياتالمتحدة والصين وروسيا. ولكي تدعم ألمانيا هذا الدور الأوروبي، يتعين عليها أن تتخلى بأشكال مختلفة عن سياساتها التقليدية. فسوف يتعين عليها أن تأخذ المبادرة في قيادة أوروبا، ولكن عليها أيضًا أن تستخدم قوتها الاقتصادية في دعم الدول الأقل حظًّا في الاتحاد. ويرى المراقبون أن هذا ما يهدف "ماكرون" إليه، حيث إن الوضع الاقتصادي لفرنسا ليس بالقوة المطلوبة. وسيتعين ربما أيضًا على ألمانيا أن تهتم بتطوير قوتها العسكرية، وأن تواجه معضلات التنسيق الأوروبي في هذا الصدد. تحدي ما بعد "ميركل" وفي هذا الإطار، أكدت الورقة أن دعم التماسك الأوروبي يحتاج إلى قيادات تؤمن بهذا المشروع وأهميته لمصلحة ألمانيا، لكن الأخيرة على موعد استحقاق انتخابي لخلافة "ميركل" في العام المقبل، متسائلة: هل ستتبنى القيادة الجديدة المنطق نفسه؟ وهل يمكن إقناع الناخب الألماني، الذي دعم دومًا سياسة مالية محافظة، استفادت من فوائضها ألمانيا بشكل كبير في مواجهة تداعيات وباء "كوفيد-19"، بأن عليه التضحية ماليًّا لمساعدة دول أخرى؟ لقد قاومت ذلك بشدة الدوائر السياسية الألمانية إبان أزمة الديون السيادية اليونانية، حيث وضعت شروطًا شديدة صارمة وقتئذ لتقديم الدعم الأوروبي اللازم لإخراج اليونان من أزمتها. وبينما يبدو أن ألمانيا حققت تحولًا نوعيًّا باعتمادها حزمة الدعم الأوروبي الأخيرة، إلا أن الطريق ما يزال طويلًا ومحفوفًا بالمفاوضات الشاقة، حسَب المركز. ووفق المقالة التحليلية، فإن المؤشرات تبدو إيجابية على الساحة الأوروبية، حيث تصاعدت بشكل كبير معدلات الدعم للاتحاد الأوروبي في استطلاعات الرأي، بعد أن كانت قد بلغت مستويات متدنية في السنوات الأخيرة. وعلى الساحة الألمانية، تراجعت أيضًا معدلات الدعم لحزب البديل اليميني المتطرف، بينما ارتفعت معدلات الرضا عن قيادة "ميركل" وعن حزبها، بعد أن كانت شهدت أيضًا تدنيًا واضحًا، وذلك بسبب اقتناع الشعب الألماني بقيادة وأداء "ميركل" أثناء أزمة الوباء. ولكن ليس من المضمون أن يستمر الحال على ما هو عليه، والموجة الثانية من الوباء التي تحذر منها "ميركل" قد تأتي بما لا تشتهي السفن. من جانب آخر، تتوالى الأخبار عن اكتشاف حلقات من المتطرفين اليمينيين داخل المؤسسات الأمنية الألمانية نفسها، بالإضافة إلى أن حزب البديل ما تزال له قواعد قوية في بعض المناطق. ورغم أن ألمانيا قد تجاوزت-إلى حد كبير-أزمة إدماج المهاجرين التي أشعلت معارضة واسعة في الداخل الألماني، إلا أن الأزمة ما تزال قائمة وتنذر بالاشتعال على الساحة الأوروبية، وقد قذف الحريق في مخيم اللاجئين باليونان مؤخرًا هذه القضية مرة أخرى إلى بؤرة الاهتمام، تبعاً للمصدر عينه.