مِن الفنون القوليّة التي تميّز بها المغاربة وحققوا فيها الريادة فنُّ الملحون، الذي سمّاه المتخصّصون في الأدب المغربيّ "ديوان المغاربة" بامتياز، بعدما صار بنبوغ الأشياخ فيه تراثا ينضح بالقيم الوطنيّة والتعبيرات الإيمانية والمشاعر الإنسانيّة والتّغنّي بالجمال والعطاءات الإلهية، بلوحات شعريّة بديعة ودارجة مغربيّة رفيعة. ومِن مختلف مناطق المغرب، تنافس أشياخ الملحون، عبر قرون، في هذا الصّنف من صنوف الإبداع، مسجّلين أحوالهم الذّاتية وسرائر أنفسهم ورؤاهم وموثّقين وضع تاريخهم وبيئاتهم وهموم مجتمعاتهم وأحوالها الحضارية. ولبيان الجهود المغربية في توثيق وحفظ وتجديد "تراث فنّ الملحون"، توثّق ورقة معنونة ب"بيان الدّرّ المكنون حول تراث الملحون"، جهود أكاديمية المملكة المغربيّة في صيانته وتحديثه، ووعيها بما يميّز المغرب مِن "نبوغ فني، وعمق تاريخيّ، وغنى تراثيّ، وتنوّع في أنماط الفنون"، يصدح ب"رسائل مربية على قيم العيادة والمواطنة، وموثّقة لصور وجدانية وحضارية إنسانية". عناية بالملحون تضع ورقة "بيان الدّرّ المكنون حول تراث الملحون" جهود أكاديمية المملكة المغربيّة في صيانة تراث فنّ الملحون، في إطار قيادة راعي الأكاديمية ومجدّد هيكلتها ووظائفها الملك محمّد السادس الذي عبّر عن ابتهاجه باهتمامها ب"نشر شعر الملحون الذي كان للشّعراء والزّجّالين المغاربة باعٌ طويل فيه". كما توضّح الورقة أنّ هذه الجهود تأتي استرشادا بعناية مؤسٍّس الأكاديمية، الملك الراحل الحسن الثاني، بهذا الإبداع الذي وصفه ب"الفنّ البديع والأدب الرّفيع". وتقف الورقة عند الانطلاقة الجديدة للأكاديمية بتعيين عبد الجليل لحجمري أمينا لسِرّها الدائم، حيث "عرف الملحون إقلاعا لقطارِه الفني السريع، من حيث تنوير رؤيته التراثية، وتحديث أداءاته الفنية، وتجديد أفهامه الحضارية، وتعزيز غيرته ومحبته الوطنية لدى المهتمين به". وتطرّقت الورقة لما شهدته الأكاديمية في هذه المحطّة من اهتمام كبير بتراث فن الملحون "توثيقاً لنصوصه، ودراسة لمبانيه ومعانيه، ونشرا لدواوينه، وتحديثاً لأداءاته الفنية". وقدّمت في هذا السياق مثالا بإصدار "موسوعة الملحون" التي بلغت أعداد دواوينها، إلى حدود اليوم، أحد عشر ديواناً لكبار أشياخ الملحون. وتُعَرِّف هذه الموسوعة التي يشرف عليها عباس الجراري، عضو أكاديمية المملكة، ب"عبقريات أشياخ المغاربة"، وتوثِّق إبداعاتهم التي يستحق بها هذا التراث الفني أن "يصنف في قائمة التراث الثقافي العالمي غير المادي". وتذكّر الورقة بمبادرة الأكاديمية بالتعاون مع وزارة الثقافة والاتصال المغربية (وزارة الثقافة والشباب والرياضة حاليا)، للشّروع في إعداد ملفّ ترشيح فن الملحون، حتى يُسجَّل ضمن اللائحة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي لدى منظمة الأممالمتحدة للتربية والعلم والثقافة – اليونسكو، استناداً إلى اتفاقية هذه المنظمة في سنة 2003 الخاصة بصون التراث الثقافي الإنساني غير المادي، التي صادق عليها المغرب سنة 2006. عمل دؤوب باعتبار أكاديمية المملكة المغربية المؤسسة الوطنيّة العلمية العليا العاملة على التعريف بمقومات الهوية الوطنية بجميع مكوناتها وروافدها، تتتبّع هذه الورقة جهود هذه المؤسسة، المادية والعلمية، في تحقيق هذا المسعى الوطني والإنساني، حيث دعت يوم 14 يوليوز 2017 وزارة الثقافة والاتصال المغربية ومكتب اليونسكو الإقليمي بالرباط إلى اجتماع عقد يوم 20 يوليوز 2017، حضره رئيس لجنة الملحون عباس الجراري، ومُمَثِّلا الوزارة ومكتب اليونسكو بالرباط، لدراسة الإجراءات الإدارية والثقافية من أجل إدراج تراث الملحون ضمن قائمة التراث الثقافي غير المادي العالمي. بعد هذه المحطّة، عقدت الأكاديمية ملتقى تشاوريا تمهيديا بمقرها الدائم بالعاصمة الرباط يوم 9 يناير 2018، حضره وزير الثقافة والاتصال الأسبق محمد الأعرج، ورئيس لجنة الملحون عباس الجراري، وستون مشاركا مثَّلوا لجنة موسوعة تراث فن الملحون، ولجنة الأنطولوجية، والجمعيات المغربية المهتمة بتراث الملحون نظماً وبحثاً وإنشاداً، تم فيه تعميق الوعي بأهمية هذا التراث وضرورة توثيقه وحمايته، وخُصِّصَ فيه جناح بمكتبة الأكاديمية لوثائق وتسجيلات قصائد الملحون، وأعلن فيه رسميّا عن انطلاقة الإعداد لتسجيل تراث فن الملحون ضمن قائمة التراث غير المادي لدى اليونسكو. وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، نظمت أكاديمية المملكة المغربيّة ثلاث ورشات جهوية خلال سنة 2018، في كل من مدينة أرفود يوم 22 يونيو، ومدينة تارودانت يوم 14 شتنبر، ومدينة أزمور يوم 25 أكتوبر، شُرِحَت فيها المسطرة الإدارية والأكاديمية لتقديم هذا الملف المطلبي لمنظمة اليونسكو. وأكّد فيها المشاركون، من مختلف المناطق المغربية، على أهمية وضرورة تقديم هذا الملف لليونسكو، وهي شهادات سُجّلت في شريط وثائقي حول الأهمية الفنية والوطنية والإنسانية لتراث فن الملحون. واستنادا إلى توصيات الملتقيات التشاورية والورشات الملحونية، وغنى الوثائق المرجعية لتراث فن الملحون التي أنجزتها الأكاديمية، خاطبت الأكاديمية بتاريخ 25 مارس 2019 وزارة الثقافة والاتصال، مرفقة بالشريط الوثائقي المنجَز، وقائمة بجمعيات المجتمع المدني المتعاونة والمهتمة بالملحون، وصور الورشات والملف المطلبي، قصد تقديم كلّ هذا إلى اليونسكو؛ ل"إدراج تراث فن الملحون المغربي ضمن اللائحة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي"، وهو ما بعثت إثره المنظمة سالفة الذكر اليونسكو رسالة، يوم 12 يونيو 2019، تقول فيها إنّها قد استلمَت الملف المطلبي المرسل إليها، وأدرجته ضمن الملفات الثقافية للتراث غير المادي خلال فترة ما بين سنتَي 2020 و2021. جهود متواصلة تذكر ورقة "بيان الدّرّ المكنون حول تراث الملحون" أنّه، في إطار "المسؤولية العلمية التي اضطلعت بها الأكاديمية لتعزيز الاقتناع المغاربي والدولي بالقيمة الإنسانية لتراث فن الملحون المغربي، وتفرّد رِيادة أشياخه المغاربة فيه"، قام عبد الجليل لحجمري، أمين السر الدائم لأكاديمية المملكة المغربية، بتقديم عرض حول "تميز المغاربة في تراث الملحون، وخصوصية الملكية الفنية لمدرستهم الملحونية خلال اجتماعين". أوّل هذين الاجتماعين كان مع أودري أزولاي، المديرة العامة لمنظمة الأممالمتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو)، عرض فيه أمين السّرّ الدّائم للأكاديمية المبادرة المغربية للأكاديمية لإدراج فن الملحون المغربي ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي، "لما تتميز به مدرسة الملحون المغربية من خصوصية وقيم فنية وثقافية وإنسانية، جديرة بأن يصنَّف تراثها ضمن التراث العالمي الإنساني"؛ وهو الحوار الذي تحدثت فيه المديرة العامة عن الملحون باعتباره "فناً مغاربياً"، مما دعا لحجمري إلى "تصحيح هذا الرأي وتأكيد مغربية فن الملحون". كما قدّم عبد الجليل لحجمري عرضا عن الملحون المغربيّ خلال الاجتماع التنسيقي للجان الوطنية المغاربية لليونسكو والإيسيسكو والألكسو، حول برامج التعاون المشتركة، الذي عقد بتاريخ 5 نونبر 2018 بتونس، وترأّسته غولدا الخوري، ممثلة مكتب اليونسكو في المغرب العربي، وحضره لحجمري بصفته أمينا عاما للجنة الوطنية المغربية آنذاك، كما حضره ممثلا اللجنة الوطنية الجزائرية، واللجنة الوطنية التونسية. وفي هذا اللقاء، تحدث عبد الجليل لحجمري عن استعداده لاستضافة الاجتماع المقبل، واستعداد الأكاديمية لتنظيم حفل فني بأداءات مغربية جديدة لفن الملحون المغربي، مع ورشة دراسية ل"تجلية عبقرية أشياخ الملحون المغربي، في تجويد قضاياه وتطوير فنية أداءاته التعبيرية"، والرّقِيِ به "مبنى ومعنى إلى مستوى الأنماط الفنية العالمية، التي جعلت الأكاديمية مطمحاً لعشاق الملحون من مختلف الدول المغاربية، تُشد إليها الرحال" وإلى "ما أنجزَته من دواوين واحتفاليّات".