لم تكن جائحة كورونا نذير شؤم على المغرب أبداً، بل شكّل الوباء فرصة للتغيير الإيجابي، وتحسين أداء العديد من المؤسسات، كما شكّل فرصة للإبداع والاكتشاف والاختراع في أغلب القطاعات، وبسبب الأزمة عرف المغرب كفاءاته الوطنية، وأدرك أهمية الاكتفاء الذاتي، والاستثمار في بناء الإنسان، وهو ما سيؤثر على معالم النموذج التنموي الجديد قيد الإعداد، ليكون قادراً على نقل المغرب من دولة تقليدية إلى دولة عصرية مؤهلة لتنافس الدول الكبرى في مجالات الصناعة والفلاحة والخدمات والثقافة والفكر وغيرها من المجالات، وفي هذا المقال سوف نركّز على قطاع التعليم في المغرب، نظراً لكون الظرفية الحالية تعرف استعدادات مكثّفة لإنجاح دخول مدرسي آمن ومستقر وفعّال، بالاستفادة من رصيد العام الماضي وما حقّقه التعليم عن بعد في زمن الوباء من مكتسبات جديرة بالاهتمام. عرفت منظومة التربية والتكوين، في المملكة المغربية، منذ عام 2000 تحوّلات جديرة بالاهتمام، تمثلت في بداية تطبيق الميثاق الوطني للتربية والتكوين، وبداية عشرية إصلاح التعليم في المغرب (2000- 2010). كان ذلك الميثاق طموحاً ومُعبراً عن إرادة ملكية قوية في التغيير والرقي بالتعليم المغربي.. حيث أصدرت وزارة التربية الوطنية قرارات جديدة غير مسبوقة؛ كإحداث الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين، وإقرار التكوين المستمر لأطر الوزارة، والزيادة في الأجور، وتغيير المقررات والمناهج الدراسية.. وغيرها من القرارات الرامية إلى تطبيق أهداف الميثاق الوطني للتربية والتكوين. وعلى بُعدٍ شهور قليلة من اقتراب عشرية الإصلاح من نهايتها، ظهرت تقارير أصدرتها جهات خارج الوطن حاولت تقييم حصيلة التعليم في المغرب، أقرت فشل المدرسة المغربية وتدني مستوى التلاميذ وضعف امتلاك المهارات الأساسية.. فأعطى جلالة الملك محمد السادس نصره الله تعليماته السامية للبحث في أسباب فشل عشرية إصلاح التعليم، وإعداد خطة وطنية لإنقاذ الإصلاح وتسريع وتيرته.. فظهر المخطط الاستعجالي، حيث أصدرت وزارة التربية الوطنية قرارات جديدة انصبت جميعها على جعل المدرسة المغربية "مدرسة نجاح"، فأطلقت مبادرات تأسيس جمعيات دعم مدرسة النجاح بعدد يساوي عدد مدارس المغرب، بمعنى: جمعية لكل مدرسة، ونجاح لكل تلميذ، فلا رسوب ولا تكرار ولا انقطاع لأي تلميذ بعد الآن .. بفعل الآليات الجديدة للتدخل في الوقت المناسب وفق خطة وقائية واستباقية، تواكب التلميذ وتشخّص تعثراته وتخصّص له حصصاً للدعم، ثم تكون محطات تقويمية في نهاية كل مرحلة عبارة عن امتحانات إشهادية، وقد أنتجت وزارة التعليم جملة من الدلائل والكراسات والروائز، كما أطلقت برامج لتكوين الأساتذة وتحديث الإدارة وتوفير عدد من القوانين المؤطرة لمختلف العمليات، والتي يرتكز معظمها على الحسّ الوطني للأساتذة والأطر الإدارية ويخاطب فيهم الوعي التربوي وروح التضحية والعمل التطوعي، بحيث لم تكن هناك تعويضات مادية لمعظم موظفي التعليم جراء الأعباء الإضافية والمهام الجديدة، ومع ذلك انخرط الأساتذة والإداريين والأعوان وغيرهم من موظفي قطاع التعليم في هذا الورش الكبير، ورش إصلاح التعليم والارتقاء به. في المناطق النائية والصعبة، حيث يعمل الأساتذة الشباب الجدد والأستاذات في مقتبل العمر، كانت هناك ملحمة خالدة؛ فقد حوَّل هؤلاء الأساتذة مدارسهم إلى فضاءات جذابة ومحببة للتلميذ والزائر، فأصلحوا ورمموا الجدران وزيَّنوا الأقسام والساحات من مالهم الخاص وعلى حساب معيشة عائلاتهم وبجهد فردي ينم عن منسوب عال من الوطنية، وهناك من الأساتذة المغاربة من نقلوا تجارب تربوية عالمية إلى مدارسهم، فحولوا فصولهم الدراسية إلى أوراش للإبداع والتعليم الفعال.. وبعضهم اقتنى الأدوات والوسائل التربوية من ماله الخاص، مع أنه لم يتوصل بتعويضات المناطق النائية ولم يتم تلبية طلبه في الحركة الانتقالية.. إنَّ هذه النماذج الإيجابية من الأساتذة والأستاذات تمثل قمة التضحية والإيثار والبذل والعطاء في خدمة المدرسة المغربية وأجيال المستقبل، والجميل أن المجهودات التربوية لهؤلاء الأساتذة لم تنسهم متابعة كل جديد ومفيد في ميدان تخصصهم التربوي والتعليمي، بل منهم من تطلع إلى أكثر من ذلك، فأكمل دراسته الجامعية بروح عصامية وقوة عزم وإرادة، فعزَّز تكوينه بنيل أعلى الشهادات الجامعية.. حركية هذا النوع من الأساتذة خلقت نخبا تعليمية في المغرب، أقل ما يقال عنها، أنها كانت "عصامية" في دراستها؛ لم تنتظر تكوينا مستمرا تنظمه وزارة التربية الوطنية، ولم تؤجل إكمال تعليمها إلى حين الانتقال إلى المدن الكبرى؛ حيث مراكز التكوين والمكتبات في كل مكان.. بل ركبت الصّعب، وأنفقت من مالها الخاص، وسخت بوقت فراغها، وسخّرت عطلها المدرسية في الاعتكاف على طلب العلم... ولم تسافر في الصيف إلى المنتزهات السياحية أو الشواطئ مثلما يفعل معظم الناس، بل اعتكفت في المكتبات لقراءة الكتب وتدوين الأفكار والارتقاء بمعارفها، حتى إذا انقضت العطلة وحلّ الدخول المدرسي، كان عطاء هذه النخبة كبيراً ووازناً، فقد رفع مستواهم العلمي، مقدار مردوديتهم داخل الفصول الدراسية، وحَسَّنَ من طرق تدريسهم، وأغنت معارفهم ومهاراتهم وخبراتهم التربوية محيطهم في العمل.. ليشكلوا كفاءات وطنية حقيقية ينبغي الانتباه إليها وتسخيرها في تطوير التعليم والرقي بمستواه ومردوديته.. وظل أزمة جائحة كورونا، كان لهؤلاء الأساتذة الدور الطلائعي في إنجاح التعليم عن بعد. على الرغم من أن المدرسة المغربية تعيش تحديات كثيرة، إلا أن هذه النخب التعليمية من الأطر التربوية والإدارية مازالت مؤمنة بدور المدرسة العمومية في تقدم المجتمع ونهضة المغرب تحت القيادة الرشيدة لأمير المؤمنين الملك محمد السادس نصره الله، ومازالت تحمل مشعل التضحية والعمل الجاد، وتتابع اجتهادات مسؤولي قطاع التربية والتعليم بتفاؤل وأمل في المستقبل، كما تتابع باهتمام بالغ محطات إصلاح التعليم.. وتشارٍك بفعالية في كل اللقاءات التشاورية من أجل إصلاح حقيقي للتعليم والذي يروم إنجاح المدرسة المغربية وإعادة الاعتبار للتعليم العمومي بالمغرب.. ومما يؤكد تفاؤل هذه النخب في مسيرة التغيير؛ مشاركتها في الدورات التكوينية، وفي الامتحانات المهنية، ومباريات الترقية، وكل نشاطات وزارة التعليم.. وكلها أمل في قطف بعض ثمار جهدها وصبرها.. وفي أزمة جائحة كورونا، كان لرجال ونساء التعليم دور كبير في إنجاح مشروع التعليم عن بعد، والذي أطلقته وزارة التربية الوطنية منذ مارس 2020، إثر فرض حالة الطوارئ، والحجر الصحي، حيث انخرط الأساتذة عن طواعية وحس وطني وتضحية بالمال والجهد والوقت، في سبيل إنجاح هذا المشروع الرائد الذي جعل المغرب ينتقل من دول ذات تعليم تقليدي إلى دول تستثمر في تكنولوجيا الاتصال والتواصل وتوظّفها في خدمة التعليم والإدارة والاقتصاد.. وغيرها من المجالات التي عرفت إدماج التكنولوجيا الرقمية، الشيء الذي عاد بالنفع الكبير عن عموم المغاربة، وعجّل بالاندماج في هذا الورش العالمي أي رقمنة الموارد والعمل الإداري والتعليمي والتجارة الإلكترونية والخدمات وغيرهما من المجالات الحيوية. ومع بداية الدخول المدرسي الجديد 2020- 2021، لم يطرأ على الحالة الوبائية في المغرب أي تحسّن واضح، على الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلتها السلطات الحكومية والمؤسسات الصحية والمجتمع المدني ومختلف المبادرات والفعاليات الوطنية، نظراً لكون الوباء كوفيد 19 يعرف تحوّلات وطفرات سريعة تزيد من صعوبة احتوائه، ومع ذلك تجنّد المغاربة وراء ملك المغرب أمير المؤمنين محمد السادس نصره الله، وخاصة بعد خطاب العرش الذي أكد فيه جلالته ضرورة التزام الحَذر في التعامل مع الوباء بأخذ كل الاحتياطات الضرورية من أجل تجنيب المغرب العودة إلى الحجر الصحي الذي له تبعات نفسية واجتماعية واقتصادية قاسية. أعلنت وزارة التربية الوطنية والتكوين المهني والتعليم العالي والبحث العلمي، عن قرار حول نموذج التعليم المرتقب خلال هذه الفترة الحرجة من تطور الوباء في المغرب، وهو قرار يخضع لما يستجد في الأيام القادمة، من حيث تطور أعداد المصابين ووضعية المغرب الصحية، وتبعاً لذلك سيتم اتخاذ الإجراءات المناسبة في إبانها، حيث عبّر وزير التعليم عن مرونة نموذج التدريس المرتقب، وخضوعه للتغييرات تبعاً لتطورات الحالة الوبائية في المغرب، مؤكداً أنَّ سلامة صحة التلاميذ والأطر التربوية والإدارية هي أولوية الأولويات، وقد عبّر الأساتذة، وأباء وأولياء أمور التلاميذ عن تخوفاتهم بشأن التعليم الحضوري، وتحديات التعليم عن بعد، ومع ذلك تقتضي المرحلة تكاثف جهود الجميع من أجل تجاوز الأزمة الصحية، التي أرخت بآثارها على المدرسة المغربية، وهو القطاع الأكثر أهمية ويشكل الأولوية الوطنية الثانية بعد الوحدة الترابية للمملكة المغربية، ويحظى بعناية سامية من لدن صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده. إن التعليم في زمن كورونا، يمثل منعطفاً تاريخياً مهماً جداً في تاريخ المغرب المعاصر، لأنه أتاح فرصة إدماج التكنولوجيا في التعليم، وتحفيز التلاميذ والأساتذة على تجريب التقنيات الجديدة في ممارسة التدريس وتعلّم التعلم، كما أتاح الفرصة للآباء قصد الجلوس مع أبنائهم خلال فترة الحجر الصحي، لمتابعة دروسهم والسهر على مواكبتهم، فاستعادت الأسر ذلك الجو العائلي والتربوي الأصيل، عندما يتحول البيت إلى مدرسة، ويشارك في التعليم كل مَن في البيت، فيصبح التعليم متعة، ويكتسب التلاميذ القدرة على تعلّم التعلم، والاكتشاف والإبداع، وهي مهارات يعود الفضل في ترسيخها إلى عامل الأزمة الوبائية، التي لم تؤثر على تحسين جودة التعليم فقط، ولكن أيضاً إبراز العديد من الكفاءات المغربية في الإعلام والصحة والإدارة والتعليم والأمن وغير ذلك من مجالات العمل، فحقّق المغرب في الأزمة مكتسبات مهمة جداً، حرّكت قطاعات كاملة من أجل التطوير والتغيير الإيجابي، وقد لمس المغاربة هذه الإيجابيات، فكان انخراطهم في مختلف المحطات طوعيا وتلقائيا، وبشكل عفوي، عبّر عن الروح الجماعية وقيم الوطنية وتعزيز الشعور بالانتماء إلى الوطن ووحدة المصير، ولذلك ينبغي توثيق ما حدث بمداد من الفخر والاعتزاز، في تاريخ مغرب حافل بالعطاء والصبر والتضحية والنبل. ولم يكن التعليم في المغرب إلا أحد القطاعات الكبرى التي عجَّل الوباء بتطويرها، وكشف عن طاقات أهلها وكفاءات العديد من الموظفين، الذين أبلوا البلاء الحسن، واستحقوا كل معاني الشكر والتقدير، على ما بذلوه من روح المواطنة، والشعور بالمسؤولية، وأداء الواجب في أصعب الظروف، ولن يضيع جهد هؤلاء، وبعضهم قد أصيب بالوباء، ومنهم من استشهد، وغادر الحياة، ولكن بقيت ذكراهم في النفوس أبطالاً لا ينساهم الوطن. *أستاذ باحث ورئيس المركز المغربي للاستثمار الثقافي [email protected]