إذا كان إيقاع داء (كوفيد 19) سريعا وذكيا وماكرا أيضا من خلال قدرته على التحول التلقائي وإخفاء أعراضه، فإنه لا يعدو أن يكون فيروسا كسائر الفيروسات القابلة للتطويق والمحاصرة. وحديثنا هنا لن يكون حديث تخصص علمي، فالأمر متروك لأهله يبثّون فيه ما شاؤوا ويقطعون ويحسمون. ولكن حديثنا مسيّج برؤيتنا المتواضعة للداء في سياق اجتماعي يفرض علينا أن نتعلم درس المكر والتحول من هذا الداء. وإلّا، فالمسألة ستكون عبثا قاهرا في المزيد من أشكال الموت الرخيص والمجاني، في سيرورة أشد عبثا، تتناقض مع منظورنا المغربي الشعبي المؤمن بالأخذ بالأسباب بمرجعية دينية قرآنية لا تتّكل ولا تُلقي باللائمة على الطبيعة. من هنا وجبَ... وهذه ال (وجبَ) لا تمتّ إلى الفاعل المتستِّر في ثقافة سلبية تقول: (سيتمّ كذا وكذا) وهو الفعل الاتّكالي الذي يُترجمه ترجمة ساخرة سوداء الاستعمالُ اللغوي الفرنسي (On)... قلنا: إن فعل (وجب) هنا إجرائي ومحدد وهادف في غير تعويم أو تمويه، وحتى نكون أقرب إلى الوضوح، نترجمه إلى فعل المواطنة. ما المواطنة؟ إن لم تكن انشغالاً حقيقيا بشأن الآخر، واندماجا تعايشيا في هموم الآخر وانخراطا إيجابيا في حياة الآخر، بشكل غير مشروط. وقد يطفو على السطح في هذا المقام صراخُ الحق في سياق الوباء، مثل الحق في رفع الحجر والحق في التجول والحق في السفر والحق في الاجتماع... لكنها صرخاتٌ على مشروعيتها تبقى قوة احتجاجية، لها مصداقيتها إذا تمّ استيعاب اللحظة التاريخية في موضوعيتها وفي تداعياتها على الفرد وعلى الجماعة... لكن المواطنة عكس ذلك، إنها ترتبط بقوة الاقتراح، وهي تمثل الوجه الثاني لمقولة الحق. والقوة الاقتراحية في فعل المواطنة تستدعي منّا شرطاً أساسيا في التعامل مع الوباء في نسخته الثانية الماكرة. وهو شرط اليقظة المواطنة لا اليقظة الفردية القاضية بثقافة (رأسي رأسي ومن بعدي الطوفانُ). المواطنة الحقيقية تُملي علينا أن نكون أشدّ تماسكا عبر ثقافة التباعد الاجتماعي، وأن نمارس دور المؤسسات الإعلامية في تعبئة الماحول تعبئة فعلية لا تقف عند مقولة (قل كلمتك واذهب) بقدر ما تتجاوز ذلك إلى نوعٍ من المتابعة الحريصة على استكمال دورات الفعل المواطن، داخل البيت على الأقل، وخارجه عبر مجموعة من الدوائر الصغرى كالجوار والدرب والحي والحي والقريب والحي البعيد المدينة والمدينة القريبة والأخرى البعيدة وهكذا... حتى تتسع دوائر هذه اليقظة البانية لفعل التباعد الاجتماعي الإيجابي. تقتضي منّا المواطنة لمحاصرة الداء في اكتساحه المشؤوم أن نوقف هذا الاكتساح داخل حيّز سلبي قابل للإحصاء وبالتالي قابل للحصار... فيصبح الأمر أقل سوءاً ونحن نتعامل مع مجموعة من الإصابات المعروفِ رقمُها، لا أن نتعامل مع مسلسل مجهول من الإصابات، يتّسِمُ بالمباغتة والصدامية والتناسل المذهل والخطير. ولن يتأتّى لنا هذا إلا إذا خرجنا من ثقافة التجريم للجهات التي لم تقم بأدوارها... الأمر في هذا السياق يستدعي فينا ثقافة المشاركة لا ثقافة الشتيمة والسباب وإلقاء اللوم على الآخر. فهذا لن يقدّمنا في شيء ونحن نتأخر يوما بعد يوم عن مراقبة قدرة هذا الوباء على الاكتساح. المواطنة الحقّة إذن، هي أن نكون جديرين بهذا الداء لا في استقباله في حالات العجز المقيت، ولكن في استقباله داخل شرطين: الأول يستدعي منّا الالتزام الشديد والمجتهد بالإجراءات الوقائية المعروفة مثل وضع الكمامة وعمليات التعقيم وغير ذلك من الإجراءات التي اكتسبناها بفعل هذا الداء ونسيناها مباشرة بعد التخفيف من وضعيات الحجر الصحي. الثاني وهو الأجدر، يتطلب منّا أن نخرج من هذه النرجسيات الضيقة إلى أفق التعاون ولعب الأدوار التي تبدو لنا غير أدوارنا، أو أنها من اختصاص هيئات تتمتع بشرعية الفعل المؤسسي. مع العلم أن هذه الهيئات تختزن في ترساناتها القانونية مجموعة من أدبيات المواطنة القاضية بإقحام المواطن في فعل التغيير المشارك والمسؤول. وقد يقول قائل: ما هذه الأدوار التي ينبغي أن نقوم بها من موقعنا كمواطنين؟ أقول: أنا لا أملك أجوبة موسى على فعل السَّحَرة، وأملك القدرة على التفكير وإبداع الحلول في سياق فردي لن يعطي أكله إلا بتضافره مع مواطَنات فردية أخرى لنشكل هذا الفسيفساء المواطِنة العامرة بالغيرة على الوطن وصحة هذا الوطن من منظور المواطنة الإيجابية. إن إيقاع (كوفيد 19) سريع جدا وماكر جدا والأسرُع منه: وعينا بسرعته وإيقاعاته المجنونة، في تؤدةٍ مواطِنة تزن الأوضاع بميزان العقل داخل أفق تشاركي، يقضي بالقطع مع ثقافة الأنا النرجسية واستبدالها بثقافة الوطن. فكل ما هو مهدد للآخر مهدّد لي، وكل ما هو نافع للآخر نافع لي. خارج هذا الحس المواطن، لن نفعل سوى التفرج على مكر هذا الوباء وهو يحصد الأرواح حصدا ويفت في عضدنا فتّاً...