مجتمع الفرجة، مسكوت الصورة، الإشاعة وحرب الأوهام المصطفى فروقي * مجتمع الفرجة ومسكوت الصّورة من مواصفات مجتمع الفرجة أنه مجتمع يقدّس الصّورة ويجعلها ركنا من أركان وجوده، كما انه مجتمع يجعل من الاستعراض شرطا ضروريا من شروط تحقيق متعة الوجود في الفضاء العمومي. سياق هذا الكلام ما أصبحت تعجّ به شبكات التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة من صور ومشاهد تبدو في ظاهرها حاملة لمعاني الفضيلة ودلالات مجتمع التّضامن والتّضحية لكنّها ، في العمق، تخفي معالم وجود مختلف لما يقوله ظاهر الرّسالة بما تحمله في طياتها من حقائق، مضمرة، تعبر عن نفسها خارج إرادة الباثّ والمتلقّي على السّواء. يمكن التّذكير في هذا السّياق بمشاهد سيل الصّور التي يروّجها بعض المحسوبين على شريحة الميسورين والمشاهيرعبر وسائل التّواصل الاجتماعي، للتّعبير عن «تضامنهم» مع الفقراء والمشرّدين من خلال التقاط صور وسيلفيات لهم وهم يمدّونهم بما جادت به عليهم «طيبوبتم» و»رقّتهم» وأخلاقهم «الفاضلة» من صدقات وأعطيات لا تعدو في حقيقتها أن تكون في كثير من الأحيان أشياء تافهة لا تسمن لا تغني من جوع . هذا، وإذا كان ظاهر الرسالة/ الصّورة أو السّيلفي يجعل من الشّخص «المتصدّق» فاعل خير لا يشقّ له غبار وإنسانا متواضعا لا يجد غضاضة في الاقتراب من الفضاءات المهملة للمشرّدين ومن الملاذات السّفلية للكادحين، وتلك هي الرّسالة التي يريد أن يبعثها لنا ولنفسه من خلال نشر الصّورة على شبكات التواصل الاجتماعي، فإن باطنها يفيد أن «الإحسان» لم يعد قناعة فرديّة تهمّ الشّخص المعني في حدّ ذاته. كما أنّ الفعل التّضامني لم يعد حدثا خالصا يهمّ بالدّرجة الأولى فاعله بل إن الأمر غدا شبه «موضة» جديدة يصبح عبرها المشرّدون والمتسّولون أداة من أدوات تزكية الذّات والنّفخ في وجودها عبر البدائل الافتراضية وعبر التّرويج، في حالتنا هاته، بواسطتها، لنزوع «خارق» لا يعرفه الناس عن المعني بالأمر والمتمثّل في الوجه المتواضع والخدوم الذي تتمتّع به الذّات فاعلة الخير التي لا تقوم في العمق سوى بممارسة متعة الوجود في الفضاء العمومي وهي مرتدية «لباس الإحسان» الذي يدرّ عليها وابلا من «اللاّيكات»، وبالتالي مزيدا من متعة الإحساس بالوجود الذي ليس في حقيقته في هذا السّياق بالذّات سوى إحساس مزيّف في ظل فقاعات مجتمع الفرجة . لكن في المقابل، يمكن ان تكون الصّورة وسيلة للتعبير عن أزمة اعتراف أو عن مطالبة به في سياق أصبح فيه هذا الاخير ، كما تقول الفيلسوفة إيلزا غودار، « يتم من خلال الصّورة والنظرة الافتراضية للآخر»، يكفي ان نتأمل ما تنقله وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات التلفزية الوطنية في الآونة الأخيرة من مشاهد الاحتفال بمغادرة الطلائع الأولى للمتعافين من وباء كوفيد 19 للمستشفيات العمومية وما آثاره ذلك من استحسان ومن انتقادات وتنبيهات في أحايين اخرى لما يمكن ان تؤول إليه مثل هاته الاحتفالات عندما تنفلت،عن غير قصد،عن التقيّد بالاحترازات الضرورية من نتائج عكسية قد تكون سببا في المزيد من انتشار الوباء خصوصا عندما تتم عملية الاستقبال للمغادرين أمام بوابات المشافي . فإذا كان المعنى المباشر الذي تودّ هاته التعابير، التي أضحت نمطيّة بفعل التكرار، تبليغه هو طمأنة المغاربة، سواء المصابين منهم أو المحتمل إصابتهم بالدّاء وكذلك ذويهم، بأنّ الوباء يمكن الانتصار عليه بفضل تضافر الجهود كما تودّ تبليغهم ان الحرب على الفيروس تتم بفضل تضحيات جيش من الأطباء والتقنيين والإداريين والعاملات والعمال في قطاعي النظافة والأمن بالمستشفيات العمومية الذين يستحقون بسبب ذلك منا الشكر والتقدير، وهم يعتصمون بالمستشفيات بعيدا عن أسرهم لأداء الواجب ويعملون في شروط صعبة ولا يلتمسون منا نحن المواطنين، كلّما منحوا الميكروفون، غير الالتزام بالمكوث بمنازلنا واحترام قواعد الحجر الصحي لإنقاذ البلد من شرورانتشار الوباء. إن الثّاوي خلف طبقات الصّورالمتراصّة في هاته الرسائل بالذات هو ما تعبر عنه مشاهد الاحتشاد والاصطفاف للعاملين بالمستشفيات لتوديع متعاف أو متعافيين من الوباء من تعبير جماعي ضمنيّ عن شعور عدم الاعتراف الذي طال هاته الشريحة الاجتماعية كما طال القطاع الصحّي برمته لمدّة طويلة من الزّمن بفعل إهمال السّياسات العموميّة للخدمة الصّحّيّة العموميّة وعدم ايلاء العاملين فيها ما يستحقونه من اهتمام واعتباراجتماعيين . وبالتالي فان الصّورة والحالة هاته لا تقول فقط ، كما تبدو في ظاهرها، وداعا للمتعافين ولا تلعب فقط دور التّطمين للتخفيف من رهاب الوباء على عموم الناس بل أيضا تقول وعبر صور المصطفّين من اطبّاء وممرضين ومسؤولين إداريين وتقنيين وعمّال،وذلك هو عمق الصورة ،.. انتبهوا: .. اننا هنا.. كنّا.. وما زلنا.. وسنبقى رغم كل الصّعاب. الإشاعة وحرب الأوهام في كلّ اللّحظات الصّعبة والحرجة التي تجتازها المجموعات البشريّة، في ظلّ الحروب أو الأوبئة أو الكوارث الطّبيعية أو في ظلّ الانتقالات السّياسيّة أو الاجتماعية أو الاقتصاديّة، تأخذ الإشاعة حيّزا مهمّا في الفضاء التّداوليّ للمجتمعات، مستعملة كلّ الوسائل الإبلاغيّة المتاحة في مرحلتها التّاريخيّة لترويج خطابها ولضمان تنامي «الخبر» فيها، وهو يتدحرج في محافل التّلقّي وفي سيرورات الإنتاج وإعادة الإنتاج والتّرويج . في سياقنا الوطني والمحلي الرّاهن ومنذ أن بدأت وسائل الإعلام الوطنيّة ومختلف الهيئات المخوّل لها تأطير مجريات الوباء والإخبار بالمستجدّات المتعلّقة بانتشاره، والتّصدّي له، مع ما رافق ذلك من إجراءات موازية وضرورية على مستويات التّشريع لمنع ترويج الأكاذيب والأخبار الزّائفة التي يمكن أن تشوّش على الحقيقة وتخلق البلبلة في أوساط المجتمع مع ما يمكن أن يستتبع ذلك من ردود أفعال جماعية عكسية،فإنّ ذلك لم يمنع الخيال الشّعبي من نسج سيل من الإشاعات والأخبار والوصفات مستعملا أسلوب التّداول الشّفهي أحيانا ووسائل التّواصل الاجتماعي أحيانا أخرى عبر التّدوينات والفيديوهات التي يتم تقاذفها في الفايسبوك والواتساب وغيرهما، وذلك في سياق التعبير الجماعي، الشعبي والمأدلج أحيانا عن أشكال تلقّي واستقبال أخبار موجة الوباء ومستجدّاته على الصّعيدين العالمي والوطني. ولأنه يصعب الإمساك بكلّ الإشاعات التي تمور في هذا الخضمّ، فإنّنا سنكتفي بالإشارة لبعضها أو على الأصحّ لنماذج منها يمكن أن تكون مثالا لأخرى يروج منها ما لا يحصى و لا يعدّ وذلك عبر تصنيفها كالتّالي: -صنف يدّعي أصحابه انّهم يمتلكون الدّواء الذي يمكن ان يجعل المرء في منأى عن هذا الدّاء مقترحين استعمال أشياء ومنتجات طبيعيّة قد تكون فريدة أو مخلوطة بموادّ أخرى عبر اقتراح تناولها أحيانا أو استنشاق بخارها أحيانا أخرى أثناء غليها على النار . – صنف يروّج لأخبار تفيد أنّ وباء كورونا لا يصيب المسحوقين من الشّعب لأنّه وضع على مقاس الأغنياء ، وبالتالي ف « لا خوف علينا نحن الفقراء « يروّجون . – صنف ثالث يروّج أخبار وجود « دواء « لمجابهة هذا « المرض « لكنه غير متاح للجميع فهو فقط من نصيب الأغنياء أمّا الفقراء فسيكونون عرضة للاندثار أمام جبروت الوباء . ثم هناك كتلة أخرى من الإشاعات التي يمكن أن نعتبرها حصيلة أدلجة ساذجة لحدث انتشار الوباء وخصوصا منها تلك التي تدّعي أن المتديّنين وآهل « الورع « من الناس لن ينال منهم الوباء ، وأخرى تروج أنّ الصّيام سيكون هو الشّوط النّهائي في القضاء على الوباء وبالتالي فرمضان سيكون إعلانا على خاتمته ومنتهاه ، وغير هذا وذاك كثير من الإشاعات التي تستهلك في الأحياء الشّعبية والأسواق والدّروب وعلى أسطح المنازل وظلمات الأزقّة المتوارية، وأمام الفضاءات المستحدثة في زمن الحجر الصحي في الأحياء البعيدة في إطار سياسة القرب لبيع الخضر وحاجات غذائية أخرى . فكيف يمكن تفسير هذا الأمر؟ وما هي دواعي هذا « الهروب « الجماعي إلى مرافئ الوهم؟ رغم ما أصبح متداولا حول حقائق هذا الدّاء التي تتجدد في كل لحظة بتقدم الأبحاث حوله في العالم كفيروس مستجد، وما السرّ إذن في استمرار خطاب الإشاعة في السّيران وما ينتج عنه من تصرّفات وسلوكات منافية لقواعد الحجر الصّحي رغم التعبئة اليومية لوسائل الأعلام ولجان اليقظة المحلّية حول سبل الوقاية وضرورة تطبيق إجراءات التباعد الاجتماعي للخروج من النفق؟. هل يتعلق الأمر فقط بترجمة عفويّة للإحساس بالخوف من المجهول، أم أن الآمر لا يقف عند هذا الحد؟ قد تكون دوافع الإحساس المذكور هامة جدّا في هذا السياق لكن الأمر يبدو على علاقة أيضا بطبيعة المخيال الشّعبي الذي لا تقنعه «الحقائق» بحكم اندراجها في سياق»المعروف» و»المتداول»، فالحقيقة الحافية لا تثير فضول كلّ النَاس، بل ان ما يشدّ انتباههم واهتمامهم هو «ما فوق الحقيقة» أو ما يمكن إدراجه في سياق «الغريب» و»الخارق» من الأحداث والأخبار وأشكال الحلول للمعضلات، وهذا هو سرّ انجذاب وسائل التواصل الاجتماعي اليوم إلى اختلاق الأخبار المزيّفة حول الأشخاص والهيئات بدافع إرضاء النّزوع الدّاخلي لأصحابها للعنف، منتهزين فرصة تعطّش الناس وميولهم للانزياح عن المعيار والتهام غريب الأخبار دون تمحيص ومراجعة . إنّ رواج الإشاعة واستفحالها في الأوساط الاجتماعية الهشّة راجع بالأساس لتوفيرها لشروط لذّة الحكي موفّرة بذلك، لهاته الأوساط ، شروط الهروب الجماعي إلى مرافئ مزيفة بعيدا عن واقع البؤس والفاقة الذي تعيشه، وبالتالي فالإشاعة ليست فقط تعبيرا ضمنيا عن الخوف من المجهول في ظل الانتقالات والطوارئ التي قد نعيشها، بل إنها أيضا وجه ثقافي ضحل يكشف عن هشاشة البنيان الذهني لفئات عريضة من مجتمعنا التي تصرّ على اعتبار مصادر «الخبر الصّحيح» المتاحة غير ذات جدوى وهو ما يعكس أزمة تواصل حقيقيّة مع وبين مكونات عريضة من شرائح اجتماعية واسعة في مجتمعنا لا تزال للأسف تتغذى على الشّفهي والحسّي والمتوهم في حياتها اليومية مع ما يستتبع هذا العطب الاجتماعي من فقر على مستوى الإدراك العقلاني لمستلزمات الخروج من نفق التخلف والبؤس الذي طال الواقع كما طال إدراكه . * باحث في التراث الثقافي