1- كتابةُ الشرخ: أعتبرُ الكتابةَ عقدا نبرمهُ اختيارا مع أحلامنا. وحيث أن هذه الأحلام في ذاتها ليست سوى ذلك التاريخ المسكوت فينا، فإن الكتابة هي السردُ الممكن لقوّة هذه الصيرورة في سياق التحول، والسيرورة في سياق الحركة. فكلا الحرفين هنا دالٌّ، سواء تعلّق الأمر بصاد التجلي، أو بسين الامتداد. وفي كلٍّ خيرٌ وجمالٌ وحقٌّ ... وفي كلٍّ قلقٌ أيضا. نحن نكتب لأن رؤوسنا ليست فارغة، ولا تبين عن بدايات البياض، ولا تنطلق من عدمٍ خاوٍ. هناكَ إمكانياتٌ كبيرة من الرؤية ومن الرؤيا، بحرفيْ التاء المقيّدة، والمُطلقَة، في شرطينِ يدمغان فعل الكتابة بالقدرة على ترجمة الأحلام القريبة والبعيدة ترجمة يوهيمرية، تقبض على الحلم في طبيعته النووية، ثمّ تبني فوقه كلّ القشرات الأسطورية الممكنة. وهي القشرات التي لا علاقة لها بالواقع القاضي بسلطة التسجيل والمرآتية، وإنما هي قشرات الصوغ الهارب من قبضات التقنين، بحيث تصبح الكتابة والحلم توأمين يمارسان باقتدارٍ عرفاني لا عارف، حكاية هذا التاريخ الشخصي لكل فردٍ يمارس فعل الكتابة، ولكل جماعة أيضا... من ثمّة حصول الجمالِ في الكتابة مندمغا بمقولة القلق، لأن الكتابة لا تسجّلنا في سردٍ آلي وبليد، وإنما تؤرّخنا في توتّر قمينٍ بالحذر من تأويلنا داخل مجموعة من المقولات البشرية المنمّطة. وهكذا، فالكتابة الهادئة غير واردة في هذا السياق، لأن أحلامنا غير هادئة، وبالتالي فكلّ التخريجات الصوغية في عالم الكتابة هي تخريجاتٌ رافضة، ولا أقول مرضية بالمفهوم الفرويدي، وإنما هي متمرّدة على شبه الممكن فينا والذي تخلقه مؤسسات خارجة عن اختيارنا ولم تستشرنا البتّة في اشتغالها في ذواتنا. مثل مؤسسة التربية التي تعاملتْ معنا خارج شروطنا المتحولة والمتغايرة والتي اشتغلت فينا بمنطق الخوف. الكتابة إدانة صارخةُ لتاريخ وأد الأحلام، حيث تمّ الاشتغالُ فينا كمختبرات صغيرة لفعل النسخ ولترجمتنا إلى مشاريع مشابهة، ومتكررة، ولا أصالة فيها ولا خصوصية... من هنا نفهم مقولة التوتّر الشديدة فينا ونحن نكتب... إننا لا نكتب انطلاقا من درجة الصفر في مواجهة صافية لقدرنا الأبيض، ولكننا نكتب في توتّر دائم في صراع دائم نحاول فيه أن نزيل تاريخ السرد الآخر فينا قبل البداية في سردنا الشخصي. وهذا يأخذ منا تاريخا مهدورا من الزمن الملغي والمستهلك في هامش المقاومة. إننا في حقيقة الأمر لا نكتبنا، بل نكتب تاريخ الهدر فينا، وما زلنا في عتبات التصحيح، نحاول أن نبتعد عن سرد الآخر لأحلامنا. ما زلنا لم نسرد بعدُ أحلامنا المصلوبة على مقاصل الآخر الذي أرادنا في صورةٍ غير الصورة التي نريد، سواءٌ تعلّق الأمر بالآخر (المجتمع الذي أنجبنا) أو تعلّق الأمر بالآخر (المجتمع الذي أدهشنا). الكتابة، إذن، هي محاولاتٌ وجودية لرأبِ الشرخ الحاصل فينا والذي بناه غيرنا وشكّلهُ صرحاً ممرّدا بيننا وبين أحلامنا. وما عسانا في هذا السياق المتوتّر جدّا إلا أن نبحث عن صيغٍ جديدة تشبهنا ولا تشبه ردّ الفعل فينا. 2- كتابة المحو ونحن نكتب ذواتنا لا نفعل سوى أننا نكتب المحو، مصداقا لما قالوه بأنّ الكتابة الجيدة لم تُكتب بعد. والذات في هذا المقام شقّان: شقٌّ مندمجٌ في فعل الكتابة محكومٌ بشرط الانبهار الذاتي وشقّ مراقب يمثل الأنا الأعلى الماضي في قرار المحو، لكل ما هو جدير بالمحو، وقد يكون هذا الجدير كتابة متسرّعة، أو كتابة خضعت لضغط الطلب، أو كتابة مشروطة برد الفعل، أو كتابة مستجيبة لسواد عيون الذات نفسها، أو لغيرها، أو كتابة تروم ظهورا، أو تبغي مكسبا... أو أي كتابة لم تستجب لشرط الانبثاق المُنثال صدقاً وحقّاً، والخارج خروجاً تلقائياً استجابةً انسيابيةً لمخاض حقيقي يؤذن حقّاً بالخروج. إن أصدق دليل على كتابة المحو هو دليلٌ قديم، نمثل له بحوليات الشاعر القديم زهير بن أب سلمى، وهو شاعر لا يمثل ذاته فحسب وإنما يمثل حساسية فنيّة واسعة على مدار الزمن الإبداعي، تتبنى فعل المحو من أجل الوجود. وما تنقيحاته لقصائده، سوى قرار شخصي يحكم بلا جدوى ما يكتب، وبعبثية ما يكتب، إلا إذا خضع هذا المكتوب لعمليات المحو. من ثمّة، تكون الإضافات والمراجعات والتعديلاتُ هي صميم الكتابة لا الكتابة في أصلها، لأن المحو كتابة ذكية تستحضر العقل في تجلياته المتفاوتة بين حضور قوي وحضور ضعيف، وفي كلا الحضورين، هناك دائما ممارسة ذكية تعلو وتنخفض في عمليات شذبها لليابس من أفنان الكتابة. الكتابة في أصلها الخام هي مغامرة غير محسوبة الخلاصات والنتائج كأنها الطريق المؤديّة إلى المجهول بلا تشويرات ولا علامات، ويكون فعل المحو هو الكتابة الفعلية ذاتُها التي تلتزم بالحدّ الأدنى من هذه التشويرات وتلك العلامات. وهذا لا يعني البتّة خضوع الكتابة لنموذج جاهز ومسبق يملي عليها قراراتها الخاصة، وإنما قصدنا أن هذه العلامات هي الأقل الضروري من حضور الوعي بالكتابة حتى لا يتحول هذا الفعل إلى هذيان غير قابل للقياس في عالم التقييم والنقد والاستحسان. يذكّرني هذا السياقُ الماحي بتجربة المسيد في ثقافتنا الشعبية المغربية، عندما كان طالب القرآن يحفظ بعض القرآن. كان يمحو من اللوح ما تمّ حفظه في الذاكرة عن ظهر قلب، ولم يكن هذا المحو بتاتاً يعني في منظور الطالب ولا في منظور الشيخ (لَفْقِيهْ) إلغاءً أو مسحاً لما كان مكتوباً بقدر ما كان إثباتاً له وترسيخاً وتزكيةَ أيضا... للانتقال إلى كتابةٍ أخرى لا يتمّ تصديقُها إلا عن طريق فعل المحوِ. ومن غريبِ الصدف السيميائية أنّ هذه العملية كانت تتمّ بواسطة الماء، المرتبط في ثقافتنا الدينية بالحياة واستمرار الحياة (وجعلنا من الماء كلّ شيء حيّ – الأنبياء، 30). هكذا، فالمحو معادل موضوعي للحياة في الكتابة، في حين أن التسويد يعادل الموت، لأن رسم الحرف على صفيح القرطاس يعلن عن نهاية مشروع المؤلف ليبدأ مشروع القارئ، وما النهاية إلا شكل من أشكال الموت الرمزي لسلطة الكاتب المبدع. 3- كتابة النسيان كتابة النسيان هي كتابة الذاكرة ذاتها، فلا تاريخ ينتقص بعضه بعضا، ولا تاريخ يتنكر فيه حاضره لماضيه، أو يتبجح فيه غابره على جديده. النسيان والتذكر وجهان لعملة واحدة هي عملة الوجود الذي لا يقبل التجزيء أو التقسيط. وقد يكون هذا رؤية فنية تختزن منظورا فلسفيا يترجم حالةً غير عابرة من الوجود المحدد لشكل أو لأشكال ممارسة هذا الوجود. إن حدثا معيّنا، يقع للذات في تاريخها الشخصي، ويتمّ تأطيره مباشرةً داخل فعل الكتابة، يعني خوفاً وجوديا من انفلات الحدث من قبضة الذاكرة. ومعناه أيضا أن اللعبةَ جدلٌ عجيبٌ تمارسه هذه الأطرافُ في غير تواطؤ، بل في تبادل أدوار النسيان والتذكر بعيداً عن الطمس النهائي للحقيقة، وبعيداً أيضاً عن الاستحضار القطعي لهذه الحقيقة. من ثمّة تمارس اللعبة الجدلية بين هذين الطرفين فسحة الإبداع لخلق هالات تتراوح بين العادةِ والإدهاش وهي تستدعي الحدث لا في نواته الجينية/الأصلية، وإنما في تكوينه المستبدل والكثير الاستبدال، والذي يكون غزيراً جدّا... في تراشقٍ مدهش لحالات الاستحضار التي تختلف بين المؤرّخ والمبدع: الأوّل يحمل عصا الرقابة في حين أن الثاني يحمل جزرة الاستدراج. الأول يدرس الحدث في ضيق الصدق التاريخي، في حين أن الثاني يعيد ممارسة الحدث في فسحاتٍ واسعة من الكذب بصيغة البحتري العذبة. وتختلف درجات الصفر في الكتابة باختلاف الأنواع، وتجدر الإشارة هنا إلى أن السيرة الذاتية هي الأكثر مخاطرة باللعبة الجدلية، لأن كُتّاب السيرة الذاتية يتعاملون في خططهم الكتابية مع النسيان لا باعتباره عائقا معرفيا، ولكن باعتباره لذّة استكشافية تستدعي المدفون وتستحثّ المكنون تشعل أرمدة الفينيق في أرشيفها الغابر، بدرجات تتفاوت – طبعا – بحجم المسافات بينهم وبين أشكال ماضيهم المختلفة، وبتعبير أدقّ: بينهم وبين مصادر حفرياتهم المتآكلة جدّا أو المتآكلة قليلا... ورغم أن للنسيان مذاقَ الهامش، إلا أنّ في تشظيه ممكناتٍ عجيبةً لممارسة الخلق لمادّة الأحداث، مدثَّرَة في لبوس المخيال، الثرّ والغنيّ، عبر آليات فنيّة، تُنظّمُ النسيان بطريقة شاعرية يتبادل فيها الحاضر والماضي عمليات الفحص والعزل والفرز والقبول، ما دامت تفاصيل أحداثهما غير مقبولة كليّاً. 4 - كتابة الوهم دلّت مفردة الوهم في لسان العرب على خطرات القلب، من (توهم الشيء: تخيله وتمثله، كان في الوجود أو لم يكن، وتوهمت الشيء وتفرسته وتوسمته وتبينته بمعنى واحد) ومن ثمّةَ دلّتْ الكلمة على كلّ تصوّر مشوّه للواقع الموضوعي، أو كلّ اعتقاد مغلوطٍ ينحرف فيه التفكير عن الموضوع. لحدّ الآن تتبدى لنا الصورةُ قدحيةً، تضع الوهم في قفص الإدانة التي تشجب كل رؤيةٍ تبنّت الوهم أداةً للإدراك. إلّا أن الأمر ليس كذلك دائما، لأن الوهم في تحديدٍ آخر هو آليةٌ تصويريةٌ مرنةٌ تمتلك القدرة على حمايتنا من الفراغ. وبالتالي فالوهم لعبة تُنسينا الواقع بصرامته المعهودة، وتستغرقنا في بناء واقع آخر نستعذبه ونستلذه ونعيشه أحيانا بكل قوانا الممكنة. والغريب في الأمر أن المفردة في اللغة اللاتينية تأتي من أصل (illusorius)، ومنها نسلتْ كلمة (illudere) المرتبطة باللعب. أحيانا كثيرة نكتب الوهم، لا في تجلياته الكاذبة المقابلة للواقع الموضوعي، ولكن في تجلياته الكاذبة المؤسسة على المخيال المجنّح، كلعبة نُهرِّب عبْرَها كل الضغط المثقِل لإنسانيتنا، وفي هذا التهريب نروم أن نثبت لأنفسنا ولغيرنا أنّ سؤال الوهم ليس دائما سؤالَ الهامش الملغي من ثقافاتنا العالمة، بحكم توجّهه العائم والمتنصل من علامات الصرامة وشروطها. فقد يكون الوهم/ اللعبةُ، سؤالاً فلسفيا أو على الأقل سؤالاً مبطناً بشيءٍ من الفلسفة ما دام يقوم على عنصر الخديعة والمواربة في مفهومها المشاكس والمستفز للبداهة الصامتة، والقابعة فينا أركيولوجيا، تحفر فينا قوانينها المسطّحَة حفراً دؤوبا لا يكلّ ولا يملّ من تقديمنا على موائد الواقع أطباقاً نمطية تشبه إلى حدّ كبير أطباق الهامبرغر في تركيبها البائن. والخديعة التي تقوم عليها لعبة الوهم لا نستحضرها في معناها البسيط المرتبط بالمخاتلة، ولكن نستحضرها في بعدها الفاتك بالرتابة والشبه والتكرار والتسليم العادي بالحقيقة. الوهم يفتح لنا آفاقا مشرعة الأبواب على إمكان معارضة ما هو بادٍ لنا تسليما وتقليدا ووراثة أنه الحق والحقيقة. الوهم يعطينا، على الأقل، فرصة غير مسبوقة لإعادة بناء النمطي الرتيب بناء جديدا، يُفلسِف رؤيتنا للماحول، أو على الأقل يلاعبها ويداعبها في صرامتها الجادّة وفي جدّها الصارم، ويعطيها أبعاداً وجودية غير تلك التي تقيسها الأقانيم الأربعة. نكتب الوهم لا هروبا مجانيا، من سطوة الواقع وسلطانه، ولكن نكتب الوهم تهريبا لأحلامنا من أن يئدها تغوّل هذا الواقع. نكتب الوهم لا في قشرته السطحية التي ترتبط بتمثلات الدهماء للوهم باعتباره ضدّاً للحقيقة، وباعتباره عيشاً رخيصاً في السراب... نكتب الوهم باعتباره طريقة جديدة وخاصّة وذاتية بامتياز، في تمثل الموجودات خارج المساطر التي أوجدتها وقنّنت لها المسير داخل معاييرها. نكتب الوهم باسم الإبداع، فكل موهومٍ يُعتبر خلقاً جديدا، وخرقاً لنواميس الظاهرة في تجلياتها الطبيعية والعلمية المسيّجة بالرؤية الدقيقة لكل عناصر هذه الظاهرة ولكل تفاصيلها الممكنة. تتحول الظاهرة الموضوعية في عرف كاتب الوهم إلى ظواهر متناسلة خارج شرط الحقيقة، أي داخل شرط الخيال. أنظر مثلا كيف تعامل الشعراء مع سقوط التفّاحة وكيف أوّلها إسحق نيوتن، تجد لأسئلةِ الوهم أجوبة كافية شافية. لا نستطيع أن نستغني عن الوهم في عملية الكتابة إذا كان شكلا من أشكال الفن، لأننا نحتاج إلى إشراطاته وإملاءاته من أجل الاستمرار في الكتابة/ الوجود. من هنا نفهم طبيعة استقبال نيتشه لمقولة الوهم باعتبارهِ معارفَ أنتجها الإنسان انسياباً مع رغبته اللاشعورية في البقاء، أو باعتباره شكلاً من أشكالِ الفن التي تحول دون موتنا: (لقد اخترعنا الفن كي لا نموت من الحقيقة – نيتشه). 5- كتابة الموت ونحن نكتب رغبتنا في الحياة إنما نكتب موتنا باستمرار. هذه مفارقة عجيبة لكنها كائنة شئنا أم أبينا، ولا أحد ينفلت من عضويته فيها بصورة أو بأخرى. وهي عضوية لا تشريف فيها ولا تسييد ولا تنقيص، فالموت هو أعدل مخلوق خلقه الله على وجه البسيطة. لكن الحديث هنا لن يكون واعظا حكيما يمتلك الوصايا الكفيلة بالانتصار القيمي على الموت، وإنما غرضنا بيان كيف تتورّط الكتابة في فعل الموت وهي لا تدرك ذاتها المورَّطَة. ما معنى الكتابة إن لم تكن حرصا على تسويد الوجود الشخصي والجمعي معاً والتأريخ لهما؟ ما معنى الكتابة إن لم تكن حرصا شديدا على تبويب الحياة الشخصية داخل خانات إبداعية مفتوحة على الآخر كي يقرأ وشمها الغابر والظاهر وبالتالي يقرأ خوفها وأمانها معاً. أن أكتب الحياة معناهُ أنني أكتب بدايات كوني المصغّر، سواء نثرتُ أم شعرتُ أم مسرحتُ أم رويتُ أم شكّلتُ أم رقصتُ أم مثّلتُ أم نحتتُ أم، أم، أم... إنني في كل هذا أكتبني بدءاً وأكتبني نهايةً، ومعنى ذلك أنني عندما أكتب البداية فحتما يسكنني شرط النهاية، ويؤرّقني حدّها المسلّط على رقبتي مثل سيف ديمقليطس، ويعنّفني حضورها المتواري خلف جُدُر البدايات المختلفة والمتعددة والراقصة احتفالاً بهذه الحياة. إنني وأنا أكتبني بدايةً أمارسُ طقوسي منذ الولادة إلى الموت، منذ الصرخة الأولى المغادرة للرحم، إلى الصرخة الأخيرة التي تمارسها قريبةٌ من أقاربي. هذه الطقوس التي أبنيها كتابةً عبر النوع الأدبي الذي يختارني، هي أشبه بالرقص على نارٍ، بحيث وأنا أرقص/ أكتب، تتبدى لي تلك الظلالُ المتحركة المنعكسة لأجسادي المكتوبة. ولكنها ليست كذلك، إنها ظلالٌ لا للأجساد الحاضرة فيّ، وإنما هي ظلالُ التأويلاتِ الممكنة لكتاباتي الموحَّدة في المعنى، المتعددة في التأويل. إن كل ظلٍّ هو جسد، وكلّ جسد هو نصّ كُتبَ لينتهي، ليلفظ أنفاسه الأخيرة في اللحظة التي انبثق فيها مولودا جديداً، والجديدُ هنا أضعه بين قوسين، إذ ما إن يخرج من قناعتك باحتضانه عن عيون القراء إلا ويصبح قديماً حتى ولو كان عمره دقيقة أو دقيقتين بعد الخروج أو النشر. مثله في ذلك مثل الزمن، فلا حق لنا في وصف الحاضر بالحاضر المطلق، إذ ما إن تمر الدقيقة الأولى على قولنا بالحاضر إلا ويدخل هذا الأخير في عرف الماضي قياساً للحظة الحاضرة المتجددة التي أنا فيها الآن. هنا نستطيع القول إن الجسد/ النص يموت حال خروجه من رحم المبدع، وبالتالي فهو يكتب موته أثناء كتابة الحياة ذاتها. وكلّ إبداعٍ خرج من قبضة المؤلف إلى قبضات القرّاء يصبح إبداعا قديما، أي ميّتاً وهو في قمّة الحياة، لأن صاحبه يفكّر مباشرة في العمل الثاني الذي يُنسيه العمل الأول، وفي الرابع الذي يلهيه عن الثالث... وهكذا دواليك... تتمّ العملية في لعبة وجودية تستلذّ قبضتي الحياة والموت معاً. وحتى لا نكون مقاربين جزئيين في غير إنصاف، نقول، إن العمل الإبداعي الذي وسمناه بالموت حال خروجه من عرين صاحبه، يملك القدرة الزئبقية على الحياة والانبعاث، وعلى التجدد الدائم وعلى التواري والتخفي أيضا، وذلك تبعا لطبيعة قارئه لا لطبيعةٍ فيه، إن القارئ هو من يضخ أسباب الحياة في الكتابة المشَرّحة أمام ناظريه، وهو من ينفخ فيها روح الحركة، وهو أيضا من يبثّ فيها سموم الجمود والسكون، إذا ما تعامل مع الكتابة الغيرية بالإهمال والترك، وهو تركٌ لا يقتل الكتابةَ بقدر ما يقتل وضعها العابر بين يدي هذا القارئ المهمل. أما هي فحيّةٌ بطبيعتها ميّتةٌ بطبيعته، حيّة بالقوّة في ذاتها، ميّتةٌ بالفعل في ذاته. 6- كتابة الهمس حدد الفيلسوف الإنجليزي (توماس هوبز) ماهية الصراخ أو الصخب في غياب اللغة، وما هذا الغياب إلّا اختفاء للمعنى، لأن الصوت عندما يمتد في صائت طويل يستدعي توقّف انسياب الجملة وتوقّف موسيقاها في آن واحد، لأن الصوت الصاخب يعطّل الكلام ويلغيه مؤقّتا حتى يتوقف الصراخ. نحتاج في هذا السياق إلى الصراخ لأنه يعبّر عن بعض المعنى أكثر من تعبير اللغة. ولكننا لا نتصوّر متناً مصُوغاً بالصراخ أو بالصخب وحده، إذ لا بد للغة أن تتجلّى، وفي تجلّيها قد تكون صاخبة وقد تكون هامسة. نكاد نُجمعُ على أن الصخب حدد كثيراً من مقولاتنا ومن سلوكاتنا، وحتى كتاباتنا التي ينطوي بعضها على نزوع غير مفهوم لممارسة الصخب. لقد وُلدنا في الصخب، وكان أول تحاور لنا مع الوجود صوتا صارِخا، واحتُفِل بعقيقتنا في الصّخب، وكان ختاننا بالصخب، وتمّ تزويجُنا في الصخب، وفي موتنا يكون الصخب سيد الموقف... بل كل طقوسنا الاحتفالية صاخبة. فكيف لا تتأسى كتاباتنا بهذا الصخب، سواء في ظاهرها أو في باطنها...؟ وكيف لا تستبطنه، وعياً وفي لا وعيٍ منها؟ وكيف لا يخالط شغاف قلبها فيحتل منها السويداء وأكثر؟ وكيف لها ولو حاولت أن تعيَ ذاتها خارج شرطه أن تتخلّص منه الخلاص المبين؟ وهل هو النسغُ يجري في عروقها أم هو القدر الغابر في تكوينها؟... أسئلة شتّى، تطرح ذاتها بإلحاح شديد ولا تهمنا الإجابات مادامت متعددة ومختلفة من منظورات أكثر تعددا وأشد اختلافا وهي القمينة بتقديم الإجابات الشافية الكافية مادامت تصدر من تجارب جواينة لا من اطّلاعات برّانية. والمهم في هذا هو السؤال عن بديل الصخب، وهو بديل الهمس، الذي ينقص كتاباتنا بشكل ملفت. ويغيب عنها وهو القمين بتحويل مجرى ماء الكتابة تحويلات جذرية نافعة واعدة بالريّ والسقيا الحسنة. قريباً من اجتهادات الناقد محمد مندور حول نظرية الهمس في الأدب، والتي تقوم على التعبير الصادق عن دواخل النفس البشرية عبر آليات الطبيعة والأساطير وأحداث التاريخ... نقول إن كتابة الهمس – في منظورنا المتواضع – هي الكتابة التي تسعى باستمرار إلى التوغل في وجدان الآخر دون ضجيج. -عنف التفوق: كتابة الهمس تلغي من اعتبارها الآخر كمنافس ينبغي التفوق عليه، إذ لا توجد في الإبداع كتابةٌ أولمبية تروم اعتلاء قمم المنصات، ومن ثمّة فكتابة التفوق هي كتابة مشروطة، وكل كتابة مشروطة يكون رصيدها من الحرية ناقصا، والحرية هي شرط الهمس كما هي شرط الصخب. إن أقوى منافس يمكن أن أتفوق عليه في الكتابة هو ذاتي نفسها، فالعدّاء الذي يريد تحطيم الرقم القياسي الموضوعي لا يريد في الحقيقة إلا تحطيم قياس قوّته ذاتها في ذاته هو... فينا دائما شخص يركض أمامنا حتى ولو كنّا مصنّفين في العدو أوّلين. أما أن أقيس كتاباتي بتفوّق غيري وأضعه نصب عينيّ معيارا للإبداع، فهذا ما اسميه عنف التفوّق الذي قد يؤدي بالكتابة إلى مزالق أخرى لا ترتبط بالإبداع البتّة. الهمس هو أن أكتب خارج أي شرط من شروط العنف كيفما كان هذا العنف. وقد يقول قائل إن شرط الصراع مسألة إيجابية، أقول نعم، لكنّها نسبية. وهي لا تُفهم في سياق الصخب، فقد يكون هذا الصراع كامنا وهادئا وهامسا أيضا. وقد يكون مع الغير وقد يكون مع الآخر، وفي كلٍّ، هو صراع يقوم على الجدل الباني لفعل الكتابة لا المثبّط لانطلاقاتها الهامسة. -حتمية الإقلاع: كتابة الهمس هي إقلاعٌ بمفهومين، الأول ديني يفيد الإقلاع عن عاداتٍ تشدّ الكتابة إلى الأرض والحضيض والتكرار والشبه. وهذا لعمري ينتشر في أوساطنا المثقفة التي تحب أن تكرر ذواتٍ أخرى غير ذواتها الأصيلة، وأدلّ نموذج على هذا النوع هو الكتابات السارقةُ لا الكتابات المتناصّة... من هنا يفيدنا الهمس توبةً نصوحا من هذا المألوف الذي ليس لنا... والثاني إقلاع بمعنى الانطلاق والارتفاع معاً، في اتجاه سماوات الإدهاش. فكل كتابة هامسة هي ارتقاء بالمفردة وبالتركيب وبالمعنى وبالدلالة وبالبعد وبالرمز وغير ذلك من مكونات الإبداع، إلى الأجود والأحسن والأدهش... القارئ اليوم مزورٌّ كثيرا عن قراءة المتشابه والمتكرر، لأنه يريد من المبدع أن يهمس في أذنه شيئا جديداً قادرا على زوبعة كيانه المريض بالفراغ والخواء، قادرا على أن يحدث بهمسه فيه تلك الرجّات المرجوّة والتي تعيد في المرء سؤال المساءلة وتعيد فيه رفض الماء الراكد. الهمسُ هو ذلك الحجر الصغير الذي تلقيه على صفحة النهر الراكدة فتحدث فيه دوائر صغرى تكبر وتكبر حتى نهاية مديات النهر. الكتابات الهامسة هي تلكم الحجرات الصغيرة التي في أيدينا والتي لا نعرف كيف نرمي بها، وأين نرمي بها، مع العلم أنها على ضآلة حجمها قادرة على تغيير وجه النهر. -حتمية التغيير: من هنا تكون الكتابة الهامسة مشروع تغيير كبير، تستبطن قدرة على التأثير، وهنا أستحضر مثلا شعبيا يقول (دوز على الواد الهرهوري لا ادّوز على الواد السكّوتي) وهو مثل يفيد قوة الصمت وقوة الهمس المبطنة بالمغامرة واختزان الخطورة. لم تكن كتابة الهمس في منظورنا بتاتا تفيد ضعفا أو تسليما أو خضوعا، إنها عكس ذلك تماما. وما دام عالم الكتابة يشبه ذلك السلم العالي والطويل فإن الركض فيه لبلوغ الأعالي وقمم الدرجات يكون فعلاً متهوّراً لا فعلاً سالكا، لكن التريث عبر الخطو الذكي والهامس يكون حريا بتقليب المدارج تبعا لإرادة الذات ورغبتها في الوصول. إن عمليات التغيير في مدارج السالكين في مجال الكتابة يبدأ من اعتبار المدرج الأول على بساطته وتفاهته، لأنه يعلمنا أن البدايات دروس قيّمة، وكل من يحرق البدايات بغية الوصول السريع يكون تغييره في حساسيات وجوده تغييرا مشوبا بالخطل والعطب في منهج التدرج. وما دام هذا الماحول متناقضا ومفارقا وصادما وشرسا في الآن نفسه فإن الكتابة الصاخبة لا تفيد في مقاومته، أو في تغييره، لأننا جربناها عبر أجيال وأجيال، وسواء تعلّق الأمر بالهمس في الكتابات الحالمة أو الهاربة أو المنزوية أو الرافضة أو المتمرّدة أو أي نوع آخر، ينبغي أن يكون رصيد الهمس فيها حاضرا لأنه أكثر تجذرا في نسغ الموضوع وأكثر تأثيرا فيه وأكثر إحراجا له. وأخيرا: الكتابة الهامسة ليست هي الضوء الذي نراه، إنه نتيجة لها فقط، الكتابة الهامسة هي تلكم الأسلاك الكهربائية الخفية التي لا نراها ولكن نرى أثرها. من هنا أقول لك يا صديقي الكاتب، ويا صديقتي الكاتبة: اهمس في أذني ولا تصرخ، فلن أسمع صخبك وسأكون سامعا شديدا لهمسك.