يعد الموت عملية محو لكل ما يعترض سبيلها باستثناء الكتابة. إذ أن سواد حبر الميت يعيد الحياة لبياض الورقة كلما قرانا أثره. بالكتابة يسترد الميت حياته مع كل جلسة قرائية. الكتابة بهذا المعنى لعب مع الموت، سخرية من الزمن، هزء من الرحيل الأخير. الكتابة إقامة في اللغة وسباق مع الوقت الآتي. تمظهر لرغبة البقاء ،تمرد على الصمت وإعلان عن حضور الذات. وهذان الفعلان: التمرد وإعلان الرغبة فعلان عوقبا بقسوة لا نظير لها في تاريخ البشرية. بل جرما منذ إعلان آدم عن رغبته في معرفة مغزى التحريم في قصة الخلق وامتد التجريم حتى الآن. إن فعل المعرفة فعل مكلف جدا، فبسببه كان الطرد من جنة عدن وكان الموت في ما بعد. لكن لولا الموت لما استحقت الحياة أن تعاش. أحيانا يصير الموت تحريرا لنا من وجود لا يطاق. الموت بهذا المعنى جرح يجمع بين الشك واليقين وكلنا ننتصر للشك. نعرف جيدا أن الموت يقين لكننا نصر على تصديق كذبة الحياة. الكتابة والموت إذن فعلان فرديان لا ينوب أحدنا فيهما عن الآخر(1)..لذلك نخاف الموت ونتهيب الكتابة. حدان منفصلان ومتصلان بشكل غريب. بالكتابة نظل مرتبطين بالأموات والأحياء كذلك. الميت يظل موجودا بداخلنا رغم رحيله بل إن الموت نفسه نحمله في أحشائنا ويعطبنا الأمل في الحياة إلى حين. ربما كان التفكير في الموت ملهما للإنسان ومحفزا له على اكتشاف الكتابة وتأسيس الحضارة. الكتابة هنا بمعناها الأدبي، كتابة خاصة تسمعنا ذاك الآخر الموجود في دواخلنا.. إنها وسيط لحماية رغباتنا اللاواعية من القمع والكبت والمحو.. الكتابة لعبة لنسيان ذاك الألم القادم من المستقبل والمترسب في أعماق النفس ..انه الموت. 1 -الموت قبل اكتشاف الكتابة قبل أن يدفع الموت -كفعل تراجيدي- الإنسان لاكتشاف الكتابة ،حفزه على اجتراح طرق مركبة في فن العيش معتبرا إياه جزءا من الحياة وقانونا عادلا مادامت المنية توزع بشكل عادل على كل أفراد المجتمع. يتضح هذا من خلال طرق الدفن القديمة كسقي القبر بالماء وزرع النبات فوقه مع توزيع التين اليابس والخبز على زوار المقابر. (النبات والماء) في هذا السياق رمز للحياة وترجمة لاشعورية لرفض أهل الميت قبول فكرة الانفصال النهائي عن الهالك.. علما بأن هذه الممارسات ترجع لاعتقاد قديم جدا كان يتصور «أن الأشباح الشريرة تخرج من القبر من أجل الحصول على الطعام والماء»(2)وفي نفس السياق نفهم الولائم الجنائزية المرافقة لرحيل الميت حيث يعتقد أن فيها خيرا لمجتمع الأحياء ووقايتهم من الأرواح الشريرة(عشاء الميت، أربعينية الميت، ذكراه السنوية..). ويعتقد كذلك أن حرمان الميت من هذه الشعائر يؤدي إلى صعود روحه بهيئة شبح مسيء للأحياء. ويقال إن الإنسان المحتضر ينطفئ نجمه أو تسقط ورقته. ويعود هذا التمثل لزمن البدايات الأولى. جاء في مرجع المعتقدات الشعبية «أن الشجرة التي إلى يمين العرش الإلهي ذات الأغصان الكثيفة والأوراق الخضراء الزاهية تضم كل أسماء البشر، فإذا ولد المرء ظهرت ورقته على تلك الشجرة، و إن مرض مال لونها إلى الاصفرار وإذا ما شفي عادت للاخضرار.. و إن أوشك على الموت اصفرت ورقته وحين يموت.. تجف وتسقط مغادرة شجرتها الأم.»(3) وعلى امتداد تاريخ الإنسان كان للقبور مهابة تقديسا للموت.. بل هناك اعتقاد في الأوساط الشعبية أن من عبث بها يصاب بالمس إلا إذا قدم أضحية إلى أقرب ولي صالح وفرقها على الفقراء. مع الديانات التوحيدية امتلك مفهوم البعث قيمة نفسية وعلاجا خاصا لجرح الموت،.. 2 - هل يموت الكتاب حقا؟ يقال عادة:» إن الكتاب لا يموتون لسبب بسيط أن كتاباتهم تخلدهم في ذاكرة التاريخ». الكتابة تجعل عبثية الحياة محتملة.. بها فقط نلطف من الطابع التدميري للموت. صحيح جدا أن الإنسان مخلوق متناه وعابر لكن عظمته تتمثل في تقبله لوضعه الإنساني المحدود في الزمان والمكان(4).إذ بالكتابة نشبع الموت حياة. ليس ثمة وسيلة للتجوال في ردهات الموت سوى الكتابة من خلال نفق الحلم أو الأسطورة. فإذا كان الحلم هو أسطورة الفرد، فان الأسطورة هي حلم الجماعة. ولهذا بالذات يتم الاحتفاء بالمتخيل كجسر ملكي لتأمل الموت إذ لم يحدث أن مات شخص وعاد لنعرف ماذا هناك. لكن في الأسطورة مثلا نعلم أن هرمس ابن زوس إله الحظ كان رسول الآلهة ومرافق الأرواح إلى عالم الموت البشري.. وبخلاف الأسطورة فكينونة الإنسان مميزة عن باقي الكائنات الحية على اعتباره أنه الكائن الوحيد الذي يعي أنه سيموت فالموت بالنسبة للحيوان مثلا لا معنى له. وبالعودة إلى تجربة الكتابة عن الموت نفاجأ بأن الكثير من الكتاب والشعراء يكتبون فقط عن موت الآخرين ونادرا ما يكتبون عن موتهم المحتمل. هل لأن الحديث عن الموت لا يكون إلا بصيغة الغائب كقولنا: آه لقد مات. وقبل هذا وذاك: هل كتابة الموت شيء ممكن؟ أليس الموت كانفصال لحظة تقع خارج المعنى لأنها انتفاء لكل خطاب؟ وهل حقا أن الموت وحده يقول حقيقة الحياة؟ قديما قال كونفسيوس:»إننا لا نعرف أي شيء عن الحياة فما بالك بالموت؟» إن تأمل الموت من داخل الكتابة تجعله أقل صدمة وإيلاما لأننا في عالم الأدب نستطيع رسم شخصية لا تخشى الموت وتعرف كيف تختار المنية التي تناسبها، وأخرى لا تخشى الموت ولكنها تختاره لغيرها. لكن كيف السبيل لجعل الموت راقدا بداخلنا أطول مدة ممكنة؟ أو ما الطريق لجعل حياتنا أكثر توهجا وامتدادا؟ هل تتوفق حقا الكتابة في تضميد جراحها؟ أعتقد أننا بكتابة الموت نقوي التضامن بيننا نحن الأحياء. وبكتابة الموت نقلل من صدمة رؤية جثة الميت التي تجسد اللحظات القصوى لاكتمال القسوة. فإذا كانت الإقامة البيولوجية في الموت مستحيلة لأن العقل يرتفع والجسد يتحلل، فإن الكتابة تمنحنا حظوة مصاحبة الموت باعتباره الدرجة الصفر في التلذذ.. إن كتابة شخص حي عن آخر ميت تعني أن الموت والحياة متلازمان ولا معنى لأحدهما دون الآخر. فهما يتناقضان ويتكاملان في الآن نفسه. لكن هل يتفوق حقا الحي على الميت أم العكس؟ألا نخسر نحن الأحياء ما ربحه الميت من مشاعر وهو يفارق الحياة؟ هذا الخسران الفادح لا يمكن تعويضه إلا بالكتابة. إن جرح الموت لا تشفيه سوى الكتابة إذ بها يصنع الكاتب ذاتا سرمدية نكاية بالذات البيولوجية السريعة العطب.. نحن نعلم أننا لا نموت إلا مرة واحدة.. ولأنه حدث فريد فهو يزلزل اطمئنان جل الأفراد لوهم الحياة.. بخلاف الكاتب الذي يتوفق في تليين صلابة هذا المرض الميتافيزيقي الذي يقترح نفسه بدون علاج-وذلك بمواظبته على فعل الكتابة حتى يقوي وحدته مع لحمة أحياء الراهن بل و أحياء المستقبل البعيد(3)..صحيح أن الكتابة في العمق هي انفصال عن الكل لأنها توقيع بالاسم الخاص الذي يعزل الموقع عن باقي العالم، لكنها من حيث المضامين تراهن على معانقة قضايا اللحظة التاريخية الراهنة والمرتبطة بالذات الكاتبة.. ذات تتغيى في العمق الخلود وترفض هذا المصير الدرامي الأليم الذي اعتدنا على تسميته موتا. بالكتابة نفك هذا الإحراج الذي يضع الإنسان نفسه في صلبه: أقصد الرغبة في الحياة والتشبث بالخلود، علما أن كل كائن حي مآله الفناء. فبمجرد ولادتنا يكون قد حكم علينا بالموت.. لكن إذا كان الموت يقترح نفسه كمحو، فالكتابة تقدم ذاتها كأثر خالد. 3 - مفارقات الموت والكتابة يبدو الموت لأول وهلة غير عادل لأنه يأتي في الغالب بعد نضج الأفراد ذهنيا وجسديا، لكنه في العمق فعل ديمقراطي يساوي بين جميع الناس. لا يقهره سوى الكاتب الذي يعطي حياته بفعل الكتابة تحديدا عمرا إضافيا. فإذا كان الموت يجمع بين اليقين والشك حيث نعرف يقينا إننا سنموت.. فإننا لا نعرف متى ولا كيف.. بل لا نصدق في العمق أننا سنموت(5).إن وقوع الموت نفسه لا يوقف نزيف الأسئلة :ماذا بعد؟ وهل سنعود؟ وبأي شكل ومتى؟؟ أسئلة حملت الإنسان على تأمل مفهوم الزمن البيولوجي للفرد وسبب محدودية عمره. وبهذا يعد الموت مأزقا محفزا على الكتابة والتأمل الفلسفي كالبحث في سؤال: هل الإنسان مسؤول عن موته أم هو ضحية له(قصة الخلق)؟ وهل الوعي بالموت دافع لعيش الحياة بملء الانتشاء أم بانكسار وانكفاء على بؤس لحظة الفناء؟ إن إحدى مفارقات الموت هو أنه فردي وعام في ذات الآن. يعيشه كل فرد على حدة، ولكننا نكتسب خبرة الموت من خلال موت الآخرين. إننا نعرف جميعا أننا سنموت ولكننا لا نعرف زمن الفعل وشكله.. بمعنى أننا جميعا لا نعرف على وجه الدقة ماذا سيقع وكيف. فمجمل السناريوهات هي مجرد حدوس. صحيح أن الإيمان بالبعث يصور الموت حدثا عارضا ويجعل فجيعته محتملة جراء تصوره للزمن بشكل دائري.. لكن فداحة الموت نابعة من كونه محايث لكينونتنا الأمر الذي يدفع الإنسان لاجتراح أجوبة عنه من قبيل: الحب، الكتابة، المعمار، الحضارة، اللعب، الغرق في اللذة وما شابه ذلك. فإذا كانت الكتابة بشكل من الأشكال صناعة لتلك الذات الراسخة في ذاكرة التاريخ والقادمة من المستقبل، فإن الموت نفسه صدمة مخبأة في الزمن الآتي. فقط بتأمل الموت عبر الكتابة نتعلم كيف نموت ونربي أنفسنا على مواجهة ذاك المصير. لكن قبل الرحيل الأخير يحسب للكتابة حسنة حمل الإنسان على تأمل الحياة قبل الموت لأنهما معا في تكامل.. ومن ثم بحث الإنسان عن جواب لسؤال وجودي مركب: كيف للإنسان أن يقلل من صدمة الموت؟ هل بجعل حياته أكثر غنى وامتلاء أم باعتباره الموت مجرد حدث في نظام كوني يتكرر بلا معنى، وبلا هدف آلاف المرات في ذات اللحظة؟ يبدو عشق الحياة كجسر لتخفيف صدمة الموت حلا رومانسيا بخلاف الكتابة التي تعلمنا فن الموت.. إذ بدونهما(الكتابة والموت) لم تكن الحياة ستحظى بهذه الهالة والقيمة. صحيح أن شعورنا بالألم مرده كوننا نفنى لكن العالم يستمر.. لكن بمعاودة تأمل الموت نهتدي أحيانا لأنها خلاص من الألم والمعاناة.. إن إحدى رئتي الكتابة مثل الحلم والأسطورة مثلا تبدوان ذات جدوى في فتح شرفة على ذاك الهناك الذي لا يجرؤ أحد على فتحه. وسائط تجعل إمكانية معاشرة الموت شيئا ممكنا ومستساغا. والموت عموما مخيف فقط للأحياء، إذ لا معنى له بالنسبة للأموات مثلا !!ولنسيان حقيقته تقترح الكتابة نفسها كملاذ وعلاج لنسيان الخواء الفظيع للوجود بعد الموت. إن قوة الكتابة تتجلى في كونها تجعل الحياة هدفا للحياة لا الموت، وان كان الموت مصدر إلهام لنحيا بشكل أرقى و أعمق. وعلى حد تعبير أندري مالرو:»الحياة رخيصة ولكن في الوقت نفسه ما من شيء غال كالحياة». 4 - اختلاف تمثل الموت باختلاف السياق نخلص إلى النتيجة التالية: إذا كان هناك إجماع حول فعل الكتابة باعتباره فعلا أدخل المجتمع البشري للتاريخ، فإن تمثل الموت اختلفت حوله الثقافات والمعتقدات لدرجة التعارض سواء من حيث الطقوس المصاحبة أو فعل مفارقة الحياة في حد ذاته. صحيح جدا يمكننا القول بكثير من النسبية أن الموت جرح فوق الفهم وخارج إدراك العقل وبسبب ذلك هو محاط بالغرابة والسرية. حدث مجهول زمن الوقوع وغير قابل للتكرار والتجربة..سفر دون امتلاك تذكرة العودة.. فناء مطلق وقدر لا يمكن تجنبه وهذا ما جعله هاجسا لحوحا دفع ببعض الأنساق الفكرية والثقافية للتطليف من صدمته.. كقول الأبيقورية مثلا في هذا الباب :»إذا كنا لا تكون الموت، وإذا كان الموت لا نكون.» أما في الثقافة الهندية القديمة حيث تحتل الأسطورة(الماهابهاراتا)مكانة النص الديني المقدس. أسطورة ركزت على أن خطيئة الجسد الفاني يلزم جعله يختفي في أقرب فرصة بواسطة النار كوسيلة تطهيرية بخلاف البوذية التي تقترح التحول من البذخ للحاجة كجسر مناسب للتقليل من صدمة الموت وهو ذات المسار الذي قطعه بوذا بقتل الشهوة استعدادا لمواجهة الموت، حيث كان يعتقد أن إغناء شخص ما لا يتم بإعطائه مالا ولكن بقتل رغباته في تجاه احتواء شهوات الجسد والانتصار عليها...في الثقافة اليهودية يرافق حدث الموت قلب المرايا في جهة الحيطان وكأني بفقدان قريب يجعل الذات تنكسر في أعماق الأعماق ولا تستطيع التعايش مع الفقدان إلا بشق الأنفس. أما الفلسفة اليونانية فكانت لحظة إعدام سقراط منعطفا مواتيا لمساءلة الموت، لاسيما أنه أقدم عليه بشجاعة منقطعة النظير إلى درجة يمكن القول:» إن الفلاسفة الحقيقيين جعلوا من الموت مهنة لهم». فسقراط الذي فضل الموت في أثينا على أن يعيش حيا خارجها، بنى لنفسه مجدا وتاريخا أطول وأعمق من عمره البيولوجي..أما الثقافة الصوفية فيكاد الموت البيولوجي يكون بلا دلالة لأن الذات منشغلة تماما بلقاء الرب وهي كفرت عن الخطيئة الأولى. ومن هنا تقديس الروح وتبخيس الجسد الذي يدفن دونا عن الروح.. في السياق المسيحي قدم موت المسيح كتضحية وقربان لمحو خطايا المسيحيين وقدم موته كثمن للخطيئة إرضاء للعدالة الإلهية التي تطلبت ثمنا لجميع خطايا البشر في حق الخالق.. أما في الثقافة الإسلامية فيرافق طقس الموت إطعام مقدمي العزاء من طرف الجيران وكأن أقرباء الميت فقدوا بموته القدرة الأساسية لمواصلة الحياة وهي الطبخ وما شابه ذلك. نخلص إلى أن الموت إذا كان أكثر الأحداث ديمقراطية، بحيث أنه لا يفاضل بين البشر فإن السياقات الحضارية فرقت بين تمثله، غير أن أهم الأجوبة التي اهتدى إليها الإنسان للرد على هذا الجرح الوجودي الغائر: بالكتابة نقلل من صدمة الموت إذ نبقى بعدها دون أن نبقى فيزيقيا... 5 - بعض تجليات الموت في الشعري العربي إن الوقوف على الأطلال في الشعر العربي مثلا يمكن اعتباره نوعا من صلاة الجنازة الشعرية على الماضي الميت. فالطلل يهز إحساس الشاعر بفعل الموت المستمر في حياته .موت يأخذ عدة تجليات ومنها تساقط المطر الذي ينبث بعض الكلأ ولكنه في نفس الوقت يعفو عنه الرسم، الريح تهب بقوة و الطبيعة تقف في موقف غريب. موقف مضاد للإنسان.. فالوقوف على الأطلال في الأصل فعل تذكر. والتذكر نفسيا يعلمنا كيف نعيش قلق الموت. التذكر في العمق يجعل المرء يحس انه حي وميت في نفس الوقت: كائن حي لأن نشاطه الذهني يتوفق في استحضار أحداث هامة في حياته.. ولكنها وقائع مضت وبالتالي فماضيه في أحد الأبعاد ميت بالقياس إلى أنه يعيش واقع جديد غير الماضي. ليس فقط الوقوف على الأطلال كعتبة شعرية تذكر الشاعر والمتلقي بجرح الموت بل موضوعة الرحلة كذلك، حيث السفر إلى وجهة مجهولة.. سفر يرافقه عادة مشاعر غريبة جدا.. فعندما نكون على وشك السفر نقضي اللحظات القبلية للرحلة في أسى وحزن كاسح، وكأننا نشعر أننا لن نعود إلى مكاننا الأصل مجددا.. إن أقوى الآلام هي تلك التي تفصلنا عن أمكنتنا الأليفة والمعتادة.. إن هذين الملمحين وغيرهما كثير، يصوغان لنا القول بأن العقل الإبداعي العربي كان منشغلا بسؤال الموت، وبالتالي يمكن اعتبار هذا التمفصل بعدا تراجيديا في الشعر العربي القديم بخلاف ما ذهب إليه بعض مؤرخي الشعر العربي بأنه كليا غنائي. يقول في هذا السياق أبو العتاهية»: بين عيني كل حي***علم الموت يلوح لتموتن ولو عمرت***ما عمر نوح وفي ذات السياق يقول أبو العلاء المعري عن الموت باعتباره الحقيقة الوحيدة في هذا العالم الزائف، ولذلك فهو يعري الحياة ويكشف سرابها صاح هذه قبورنا تملأ الرحب فأين القبور من عهد عاد رب لحد قد صار لحدا مرارا ضاحكا من تزاحم الأضداد أما سؤال الموت في قصيدة النثر العربية، فقد تأثر بتأملات فلاسفة عصر الأنوار وفلاسفة الاختلاف وقبل هؤلاء جميعا الرومانسيين الألمان.. حيث نصادف محمود درويش مثلا يعطينا الانطباع وكأنه مات مرارا قبل موته الفيزيقي ثم عاد ليحكي لنا قصته مع الموت. فهو يرفض نسيان هذه الحقيقة أو تناسيها.. بل يعانقها ويسبغ عليها معنى جماليا.. والمثير للانتباه أنه في ديوانه «احبك أو لا أحبك» يقترح علينا الحب كأحد الأجوبة الممكنة لسؤال الموت...وهو في ذلك يسير عكس البوذية الذي ترى أن العالم ألم.. محتفيا باللذة الزائلة نكاية بغدر الموت.. يقول في قصيدة» تقاسيم على الماء»(ص51)» أحبك يوما وأعرف تاريخ موتي احبك يوما بدون انتحار وراء الخريف البعيد أمشط شعرك أرسم خصرك في الريح نجما وعيد» إن محمود درويش في هذا الديوان يحتفي بالموت لدرجة يلتبس الأمر على المتلقي، حيث يتساءل كيف للشعر أن يكون ممتعا وهو يمجد الموت؟ ويكفي مراجعة معجمه الحدادي ليتمثل القارئ معجمه الجنائزي والذي يستحضر الفقدان والحذف والانتحار والمحو والغياب وما شابه ذلك.. الشاعر إذن يمارس موته الافتراضي في هذه التجربة الشعرية بشبقية، متمثلا الحكمة الاغريقية القديمة «من ارتضى الكتابة هوية لكينونته، فقد قرر ضمنيا معاقبة الموت بأقسى العقوبات» يقول محمود درويش في نفس الديوان (ص102) أضمك ،حتى أعود إلى عدمي زائرا زائلا. لا حياة ولا موت أحس به طائرا عابرا مت وراء الطبيعة حين أضمك..» في هذه القصيدة توفق الشاعر في توحيد الموت بالحياة وجعل الأضداد في تعانق مدهش، الأمر الذي يدفعنا لطرح السؤال التالي :هل هذا يعني أننا لا يمكن أن نحب دون أن نتمنى الخلود لمن نحب؟ وهل هذا يعني أن مأساوية الموت تكمن في موت من نحب لا موتنا نحن؟ لكن على مستوى ثان هل يمكن اعتبار كتابة الشعر فعلا تعويضيا عن الفقدان؟ وهل حقا أن الكتابة ما هي إلا كذبة صادقة نتلهى بها لمراوغة جرح الموت المحتوم؟ في الواقع علاقة الموت بالكتابة ليست دائما مأساوية تماما. فموت سقراط مثلا كان ملهما لأفلاطون، حيث دعاه لإعادة صياغة قولته الأثيرة: التفلسف في العمق ما هو إلا فن تعلم الموت. ذات الشيء يقال عن موت أم هيكل المبكر وموت ابنته الوحيدة. موت تصوره كخلاص من بؤس الحياة وتصالح الروح مع ذاتها. صحيح جدا أن هذا التصور ينتسب للمثالية المطلقة التي اتصف بها هيكل لكنه تصور يرصد بكثير من الجدة جرح الموت، باعتباره حافزا للتأمل الفلسفي وهو تقريبا نفس أفق الشعراء الرومانسيين الألمان وعلى رأسهم الشاعر نوفاليس في ديوانه الشهير «أناشيد الليل «حيث كان يردد مرارا السؤال التالي: «لماذا نخاف من الموت ومجرد تأمل بؤس الحياة يجعلنا نسر بحلوله». الموت عند الرومانسيين الألمان خلاص من ألم الحياة.. تبقى الكتابة كممارسة فعلا إراديا له ثمنه الخاص.. فعل فردي لا يقبل النيابة أو الوكالة.. فعل قادر على وضع الموت نفسه موضع تأمل وسؤال، الأمر الذي يجعل من حرفة الكتابة غير مهنة الطب مثلا أو الجندية حيث يصادف صاحبيها يوميا الجثث بشكل عيني.. وهذا يعني أن صورة الموت تختلف من فرد لآخر حسب المهنة كذلك. صحيح أن الموت يظل سرا غامضا يطرح تحديا حقيقيا على الإنسان بشكل عام.. لكن لكل فرد تجربته الخاصة مع الموت. فقط مع الكتابة نتوقف عند حربائية اللغة ومكر الخطاب: فالقول مثلا بموت قبل الأوان لا معنى له، إذ ليس ثمة موت بأوان. الموت لا زمن له. بل و لا حاجة له لمبرر كي يحضر بيننا. إن زاوية النظر محددة بشكل دقيق لماهية الموت. فثقافة الفرد ومعتقده وخبرته الحياتية خليط من الروافد ينتج تصورا مخصوصا للموت.. فقد أنظر للموت من شرفتي الخاصة كملهم للإبداع في ذات الآن الذي ينظر له آخر كقوة مدمرة. صحيح أننا سنموت إن كتبنا أو لم نكتب، لكن أثر الكاتب يجعل حضوره ممتدا في الذاكرة والتاريخ. وعلى حد قول الشاعر: الخط يبقى زمانا بعد كاتبه***وكاتب الخط تحت الأرض مدفون. إحالات: 1 - فلسفة الموت. د.أمل مبروك. التنوير للطباعة والنشر والتوزيع.2011. ص112. 2 - أنظر الكتابة والموت. دراسات في حديث الجثة لمحمد أسليم مؤلف جماعي. سندي للطباعة والنشر.1986. 3 - عقائد ما بعد الموت في حضارة بلاد واد الرافدين القديمة. وزارة الثقافة.بغداد.ط2.1986.ص274. 4 - المعتقدات الشعبية في التراث العربي .محمد توفيق السهلي. حسن الباش.دار الخليل. سوريا(بلا تاريخ). ص139. 5 - سيغموند فرويد .الحرب والحضارة والحب والموت. ترجمة الدكتور عبد المنعم الحنفي.القاهرة. مكتبة مدبولي. ص35. 6 - د.أحمد محمد عبد الخالق. قلق الموت. الكويت. عالم المعرفة.عدد111.مارس1987.ص15.