البارحة مرت بنا الذكرى الأولى لذلك اليوم التاريخي الذي نزل فيه عشرات الآلاف من المواطنين للمطالبة بالديمقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية. فرغم حملات التشويه التي لحقت بشباب 20 فبراير ورغم التشويش الكبير الذي طال نداء التظاهر يوم 20 فبراير من طرف عدد من وسائل الإعلام المرئية والمسموعة التي بثتت عشية يوم الأحد "أخبارا" مكثفة عن إلغاء مسيرة الرباط وباقي الوقفات الاحتجاجية، فقد نزل أزيد من ربع مليون مغربي إلى الشارع في أزيد من خمسين نقطة في المملكة بطريقة سلمية تعبر عن مستوى رائع من النضج والتحضر والقدرة على بعث رسائل واضحة لا تقبل التأويل.. الأجواء التي رافقت هذه الاحتجاجات تميزت بمستوى عالي من النضج السياسي وإدراك عميق للاختلالات التي تحول بين المغاربة وبين الديموقراطية الحقيقية.. السلطات الأمنية كانت في الموعد وحضرت بشكل رمزي وتعاملت باتزان مع هذه الحركات الاحتجاجية... لقد رفعت في تظاهرات 20 فبراير شعارات سياسية واضحة تطالب بدستور جديد في ظل ملكية برلمانية، وشعارات أخرى أخرى ذات طبيعة حقوقية واجتماعية واقتصادية تتعلق بالمطالبة بالتشغيل والصحة والكرامة وتنتقد السياسات المتبعة في هذا المجال... الذين رفعوا هذه الشعارات كانوا يمثلون الشعب المغربي بكافة ألوانه السياسية والفكرية والاجتماعية والثقافية، فقد حضر في الاحتجاجات إسلاميون وعلمانيون ويساريون وأمازيغيون وليبراليون ورجال أعمال ومثقفين وفنانين...حضر الشباب والأطفال والنساء، وانصهر الجميع في شعارات مسؤولة تعكس وعي الجميع بحجم اللحظة التاريخية التي تمر بها بلادنا... إنها مطالب قديمة لكنها ترفع في سياق جديد، وغير مسبوق في تاريخ البلاد العربية..إنه سياق موجة المطالبة بالديموقراطية الحقيقية التي انطلقت شرارتها من تونس لكي تهز الضمير العربي، وتؤشر على يقظة جديدة تبشر بكتابة تاريخ جديد في المنطقة العربية. المغاربة يدركون جيدا أين تكمن عقدة الانتقال الديموقراطي في بلدهم، ويعون جيدا حجم المطالب التي يستطيع أن يتحملها النظام السياسي في المغرب، ولذلك فإن أغلب الشعارات التي رفعت تمحورت حول مطلبين أساسيين: إسقاط الفساد والملكية البرلمانية. وهما شعاران يختزلان تصورا عميقا للإصلاحات الضرورية والمستعجلة والملحة في مغرب اليوم... إن تضخم مظاهر الفساد في الحياة العامة، وخاصة منه الفساد الذي يتحصن بالمؤسسة الملكية التي يكن لها المغاربة كل الاحترام والحب والتقدير، هو الذي دفع بالشباب إلى رفع شعار الملكية البرلمانية... الملكية البرلمانية هي النظام الذي يسمح بمساءلة ومحاسبة كل من يملك السلطة أو يتحمل مسؤولية عمومية، وهو النظام الذي لا يسمح بإمكانية استغلال البعض لقربهم من الملك لممارسة التعليمات ومباشرة اختصاصات من خارج المؤسسات التي تشتغل في النور... وهو النظام الذي يسمح بتدبير عادل لثروات البلاد بواسطة مؤسساته المنتخبة، وهو الذي يسمح بانتخابات لها معنى... إن الذين طالبوا بالملكية البرلمانية يوم 20 فبراير كانوا يريدون أن يحافظوا على هيبة المؤسسة الملكية بشكل حقيقي وأن يصونون موقعها الاعتباري عن كل امتهان، ويدافعون من أجل السمو بها عن المحاسبة والتقييم، ويناضلون من أجل جعل السلطة في يد من يمكن مراقبته ومحاسبته، بل وإيقاع العقوبة والجزاء به أيضا.... إن ممارسة السلطة في التصور الديموقراطي لا يمكن إلا أن تقترن بالمراقبة والمحاسبة والجزاء، أما السلطة التي تمارس بعيدا عن الرقابة المؤسساتية والشعبية فلا يمكن أن تكون إلا شكلا من أشكال الاستبداد والسلطوية... الرسالة كانت واضحة وجاء الجواب بشكل سريع من طرف أعلى قمة هرم الدولة يوم 9 مارس 2011 عندما أعلن الملك محمد السادس بكل شجاعة عن فتح ورش الإصلاحات الدستورية في خطاب تاريخي دشن لمرحلة جديدة في الحياة السياسية المغربية. يوم 25 نونبر استشعر الناخبون المغاربة بذكائهم الفطري أن كسب رهان الانتقال الديموقراطي الهادئ يمر عبر التصويت بكثافة لفائدة العدالة والتنمية، وهو الحزب الذي تعرض للكثير من التضييقات منذ أحداث 16 ماي الإرهابية وكان مهددا بالحل بعدما مر بظروف سياسية صعبة، ومارس معارضة معتدلة منذ الانتخابات التشريعية ل 1997 التي حصل فيها على 9 مقاعد واستمر في خط تصاعدي مضطرد ليحصل في انتخابات 2002 على 42 مقعدا نيابيا وعلى 46 مقعدا نيابيا في سنة 2007. النجاح الانتخابي لحزب العدالة والتنمية لا يندرج ضمن موجة النجاحات التي تحققها الأحزاب ذات الخلفية الإسلامية مع الربيع العربي للديمقراطية، لأن الشعب المغربي يصوت على حزب يعرفه جيدا و يملك رصيدا نضاليا معتبرا، لكن حزب العدالة والتنمية مدين اليوم بانتصاره للثورات العربية ولحركة 20 فبراير التي أطلقت دينامية سياسية غير مسبوقة في تاريخ المغرب وفرضت على الجميع أن يرضخ لإرادة التغيير التي عبر عنها الشعب المغربي بطريقة واضحة، وهي آخر ورقة دفع بها الشعب لاختبار إمكانات الإصلاح في ظل الاستقرار والاستمرارية. الناخبون المغاربة لم يوقعوا شيكا على بياض لفائدة الحكومة الجديدة، التي تنتظرها تحديات كبرى على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، فبعد معركة الانتخابات ومسلسل المشاورات المعقد الذي أثمر ائتلافا حكوميا من أربعة أحزاب سياسية ليست منسجمة بالكامل، يبرز تحدي التنزيل السليم للدستور واعتماد أقصى درجات التأويل الديموقراطي لمضامينه.. إشارات مشجعة جاءت بعد الإفراج عن شيوخ ما يسمى بالسلفية الجهادية، وإشارات أخرى تبدو غير مطمئنة من قبيل مشروع القانون التنظيمي رقم 12-02 المتعلق بتطبيق أحكام الفصلين 49 و92 من الدستور الجديد... لنا عودة إلى هذا الموضوع حتى لا ننسى رسائل يوم 20 فبراير...