تقديم إن فاس، منذ فترتي الأميرين محَمد والرشيد، وخصوصا طوال عهد السلطان المولى إسماعيل، مؤسس الدولة العلوية، ظلت العقبةَ الكأداء والشوكة في الحلقوم، تأوي أعداءه ومحاربيه والساعين إلى حتفه، بل إن مترفيها بتواطؤ مع بعض علمائها، كانوا يمدون أعتاهم بالعتاد والأجناد والأموال... وهذا بيانه روائيا في هذا النص، يليه من بعدُ في الموضوع نفسه آخر أو إثنان. باعتراف ذوي الاستقامة والألباب، داومتُ على توقير العلماء، عملا بالآية الكريمة ﴿وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون﴾، فلا آنف من مجالستهم على المطارف والزرابي، وصبِّ الماء على أيديهم كلما دعوتهم إلى ولائمي أو إلى مجالس الخواتم. وظللت أجلُّهم مخلصا وأستفتيهم عند الحاجة ومتى توجب عليَّ ذلك. وهل على غير هذا النهج السويّ سار أيُّ سلطانٍ عادلٍ أمين. إنما مع فقهاء التحفظ مني ومعاكستي في أعز مطالبي وغاياتي العملية صرتُ أرسل إليهم من يبث لهم للتذكير قول السلف الصالح: "لا يؤخذُ العلمُ ممن لا يعملُ به"، فلا تكونوا، رعاكم الله، من أمثالهم، واستشهِدوا بالحديث النبوي الشريف كاملا غير مبتور: "العلماء ورثة الأنبياء، لم يرثوا دينارا ولا درهماً ووَّرثوا العلم، فمن أخذه أخذه بحظ وافر". ثم إياكم أن تعرِّفوني بما لستُ عليه، وإلا اتخذتم النفرة والجفوة ديدنا، فظلمتم وضللتم. يا علماء أمتنا، لنتلُ دوما قوله تعالى في كتابه العزيز ﴿كلُّ نفسٍ بما كسبت رهينة﴾ و﴿رفيعُ الدرجات ذو العرش يُلقي الروحَ من أمره على من يشاء من عباده﴾. واذكروا أيضا حديث نبينا الأمجد "أعملوا فكلٌّ ميسَّرٌ لما خُلق له". وبناءً عليه، فالعهدُ بيننا والوفاق ألا تمنوا علينا بعلمكم وبما في صدوركم كنزتموه، ومن طرفي ألا أستعظم عليكم بسلطاني وجاهي. وكلنا ملزمون شرعا بالتواضع الجسيم لله العليِّ المهيمنِ القدير، لعلنا ننالُ رضاه ونغنمُ من عطاياه. وما عليَّ تجاهكم أؤدية، رحيبَ الصدر مستبشرا: أن أستنصحكم وبأنواركم أسترشد في أمور الدنيا والدين، فنبِّهوني وقوِّموني إذا أنا زهدتُ فيكم أو دونكم حكمتُ وقررت. فإني لا أنسى قولَ عليٍّ كرّم اللهُ وجهه: «المتقون سادة والفقهاء قادة والجلوس إليهم عبادة». فلنتحيز جميعا إلى فيئة الله ورسوله، جادين غير هازلين، مستمسكين بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها. وإذ طرق سمعي أن لفيفا من الفقهاء تذاكروا همسا وبعضهم جهرا في دأب فرق من جيشي على دفن أعداد من الجثث في بناءاتي الضخمة، وانكروا عليَّ ذلك، واعتبروه بدعة لا أصلَ لها في الشرع ولا في السنة، فما كان من اليحمدي إلا أن استأذنني في دعوة أولئك الفقهاء إلى ديوانه وإرجاعهم إلى جادة الفهم والصواب. وكذلك كان، إذ أحسن استقبالهم وقال بعد الحمدلة والتصلية، كما أبلغني: إن مولانا السلطان يقرئكم السلام ويدعو لكم بالنجح والهداية وحسن المآب. أما بعد، فبلسان سيدنا الهمام أنبِّؤكم أن ما عبتموه عليه قائم على سوء إدراك وتقدير، إذ أن دفن جثثِ موتى لا يهم إلا الثوار الفتانين الباغين وقطاع الطرق ومجترحي الجرائم الخطيرة والمندحرين في ساحة الوغى من نصارى مقاتلين معتدين. وتلكم الجثث المدفونة بعد أن لا تترك الديدانُ منها إلا العظام تسهم في تمتين ما يأمر مولانا ببنائه من أسوار عظيمة العمقِ والعرضِ والعلو، تحفظ الأمن لمدننا وساكنتها، وإن ذلك الصنف من الدفن يخفف من وطأة الضغوط على مقابرنا ويحسِّن طاقاتها الإيوائية في الأيام العادية، كما أثناء ملمات الجائحات والأوبئة فالموتان. وأما من يتوفاهم الله مسلمين على صراط مستقيم فيدفنون مطهرين مجهزين، تصحبهم أدعية الرحمة والغفران وحسنِ الإنتقالِ إلى دار البقاء، كما يحض عليه شرعنا الحنيف. فيا فقهاءنا الأماجد، إن منكم من ادعى أن ذلك الدفن، كما وصفته لكم روايةً عن سيدنا السلطان، بدعة سيئة، ومعكم الفقيه الجليل عبد السلام جسوس سامحه الله، فلتدركوا أن الحديث الشريف "كل بدعة ضلالة" إلى آخره إنما يُقصد به البدعة الشرعية التي تمس أركان الدين ومحارمه المعلنة المعروفة، لكن هل غاب عن علمكم وذاكراتكم كونُ الإمام تقي الدين بن تيمية، رضيَ الله عنه، قال بجواز البدعة الحسنة، كالاحتفال بالمولد النبوي والعبادات في المزارات والأضرحة. وهل عدمتم حديث الرسول الأكرم: "من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده"، كما ورد في جامع العلوم والحِكم للحافظ ابن رجب الحنبلي. وهل تقولون ويقول معكم الفقيه جسوس أن المهاريس والبارود والمكاحل بدع لمجرد أنها أسلحة لم توجد في صدر الإسلام الأول، بيد أن العِدى يستعملونها اليوم في قتالنا ونسخِّرها نحن للدفاع عن إيالتنا وأنفسنا. فاتقوا الحق ولا تغلوا أنتم أيضا في دينكم، وعليكم بالتبصر والتمييز في الأمور حتى لا يتشابه عليكم البقر، فتَضلوا وتُضلوا. وعليكم برفع عقائركم بالأدعية الصالحة لسلطاننا أبي النصر ولأمتنا جمعاء، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته. انتهى. ولما كان من الغد لقيني مبعوثي فأبلغني بالمستفاد من جلسته مع فقهاء إنكار دفن الجثث في الأسوار وأن تعليماتي في هذا الشأن قد ألقى هو عليها السبك المستحق والبيان الوضاء، فطرقت أسماعَ الفقهاء كما يجب، فما تغامزوا أو شغَّبوا بل أبدوا الإنصات والإستيعاب، وعنهم لم تصدر اعتراضات، ومنهم من هتفوا: ما يراه سلطاننا حسنا فهو عندنا كذلك. وأضاف المبلِّغ: ومن بعد قصدوا الباب يتقدمهم كبيرهم جسوس مهرولا متعثرا، ملقيا عليّ نظرات شزراء تتجهمني من طرف خفي. وما أظنهم إجمالا، يا مولاي، إلا نادمين عن موقفهم وراغبين معرصين، وبالله التوفيق. سألته عن الفقيه جسوس هل شاكس كعادته وتبرم، فأجاب بل استكانَ وتعرّم، لا حسَّ ولا حسيس. وعقّبت: كدأبك يا أحمد تُلْقم المتعنتين والمهووسين الحجر، فلا فُضَّ فوك ولا خابت مساعيك. أما ذلك الفقيه البليدُ الطبع، المتاجر ببضاعة بائرة فسيكون لنا معه حساب عسير، ولا يهمني درسه الأخير في القرويين عنوانه: بُعث النبيُّ داعيا ولم يُبعث جابيا، فأنا، كما تعلم برييء من قصده ولمزه، والعاقبة للمتقين. وقال جليسي: إن جسوس، كما يُعرف عنه، مغتابٌ لمّاز ومن الحشويين المتزمتين، سماهم حجة الإسلام الإمام الغزالي رضوان الله عليه بفقهاء العسر والسوء. وأردفت: لقد بعثت له مراتٍ رسلا، وكنتَ منهم وآخرين، لنهيه عن اللج والعناد في معاكستي وتخصيصي بالنفرة والجفاء، فلم ينتهِ ويرعوِ، حتى إن العالم المرجع عبد القادر الفاسي يئس منه ورغب عن ملاقاته، متعللا بكبر سنه وزهده في شؤون الدنيا والسياسة، ولستُ أريدُ إرهاقه في ما لم يعد ينفعُ ويجدي. ووافقني اليحمدي الرأي واستأذن في الذهاب إلى ديوانه لتحرير كتابات والنظر إلى ما ضمّنه من سرود وإضافات في كناشاته. ولم تمض مدة حتى علمتُ أن الفقيه المبجل الحسن اليوسي اشتكى من إذاية أهل فاس وازدرائهم له أيام إقامته بين ظهرانهم. فاغتضت لذلك ومنه نفرت، وكذلك سيرتهم مع كل فقيه براني سيما إذا كان ذا باع واقتدار؛ وكتبت للشيخ البركة عبد القادر الفاسي أبلغه استنكاري، وأنبئه قائلا: [وأظن أن العلم تراخت مسائله عندكم وعُطلت معاطاتُه في بلادكم]. أرى الجهل تتسع تتعدد بؤره وتتناسل وتطغى عواصفه وتنتشر. فهل يا علماء فاس وإيالتنا حاربتموه كما يلزم ونفّرتمُ الناسَ منه نفّورَهم من الفواحش والأوبئة الفتاكة. وهل بالحجة وضرب الأمثال بصّرتموهم بأن الجهل إذا تفشى وتفاقم قزَّمهم وأرداهم إربا إربا وأشلاءَ متلاشية. لا وحقِّ الحق، لقد قصرتم في أداء رسالتكم وتلهيتم عنها بما لا يخدم العلم النافع ولا التعليم الجيد. والأمور بقطوفها وثمراتها، وهي كما عند خرِّيجيكم الطلبة أميلُ ما تكون إلى الاهتراء البين والعقمِ المبرم. وهل أتتكم أخبارهم في القرى والبوادي وأحواز المدن حيث يجولون ويصولون ببضاعتهم النخرة، بل ويفتون في ما لا يعقلون، ويهرفون بما لا يعرفون، كأنْ لم يقرأوا تنبيه الإمام سفيان الثوري، رحمه الله: "من أفتى قبل أن يتعلم كمن تزبّبَ قبل أن يتحصرم"، والعياذ بالله. ولا أرى خميرتكم إلا كالتي وصفها العلامة ابن خلدون بل هي أفسد، إذ سجل في كتابه العظيم المقدمة، كما أخبرني به العالم النحرير أحمد اليحمدي: "فنجد طلبة العلم، بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية، سكوتا لا ينطقون ولا يفاوضون، عنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة". فهؤلاء وأولئك يصح عليهم قوله تعالى ﴿ذلك بأنهم قوم لا يفقهون﴾ وبالتالي لا يعقلون ولا يشعرون، وللتعليم من بَعْدُ لا يصلحون إلا لتكوين أجهلَ منهم وأعتم، ولله عاقبة الأمور. وختاما: [أُخبرنا أنكم، يا علماء فاس، اشتغلتم باللذات واتَّبعتم الشهوات واتَّبعتِ العامة والخاصة طريقكم وسلكوا سبيلكم، وبلغني أنه حصل منكم تقصير في التعليم حتى كاد أن يضيع العلم من فاس وهي أمُّ مدن المغرب، فيكون في غيرها أضيعَ. ولذا نأمركم أن ترجعوا لما كنتم عليه من الاجتهاد ونفع الحاضر. واعملوا بما ينفعكم يوم المعاد، وستعُمُّكم منا عطايا تعُمُّ المعلم والمتعلم متبوعة بغيرها من غير ألم الإنتظار والإبعاد ولا تسويف ولا تخصيص]. والسلام على من اتبع الهدى وآب إلى ربه وتاب، خالعا عنه أسباب التخاذل وتجاوزِ الحدود والمدى. يا أهل فاس ممن شُغلكم الشاغل التجارة والتصدير والاستيراد والسمسرة وجنيُ الفوائد والعائدات الوفيرة، حتى أبطركم الثراء الفاحش والبذخ الشعشاع. فكأننا بكم لا تقيمون وزنا ولا تستجيبون للأمر الإلهي ﴿وليُنفق ذو سعةٍ من سعته﴾، ولا لهذه الآية الكريمة الأخرى ﴿والذين في أموالهم حقٌّ معلوم للسائل والمحروم﴾. ونرى الواحد منكم يبذِّر المال تبذيرا، ويقتِّر على أهل الفاقة وفي دفع الجباية والزكوات المستحقة والنائبات عند الحاجة القصوى والضرورة الفادحة. فيا طلاب الدنيا دون الآخرة، إنما أنتم عبيد الشهوات والترف وناشرو الفقر بين الناس والتلف. يا مترفي فاس: قال تعالى ﴿كتبَ اللهُ على نفسه الرحمة﴾، وأنتم ماذا كتبتم على أنفسكم سوى قساوة القلب والإحساس وسوءِ معاملة سواد الناس، حتى صحَّ عليكم قوله عزَّ وعلا ﴿كلاّ بل لا تكرمون اليتيمَ ولا تحاضونَ على طعام المسكينِ وتأكلون التراث أكلا لما وتحبون المالَ حبًّا جما﴾. يا مترفي فاس: الثراء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، فيصير مطية للزهو والاستعلاء والرخاء الوسيع والخيلاء، فتفيض الصناديق عندكم والودائع والمخابئ، وتصرفون منها في تملك الضياع والعقار، ونراكم في كل ذلك لاتأبهون لتحذير الله عزّ وجل: ﴿والذين يكنزونَ الذهبَ والفضةَ ولا ينفقونها في سبيلِ الله فبشرهم بعذابٍ أليم﴾. إنكم في فاس وسواها أشعتم قيلتكم إن البغاثَ في أرضنا يستنسرُ، وتسرون أو تجهرون أني الفاعل لهذا الإستنسار والمحرض عليه. فويل لكم من ذاك التشبيه الموغل في تحقير آدميين أوصى الله ورسوله بهم خيرا. قيل فاقد الشيء لا يعطيه. وأنا أكذِّب هذا المثال الشائع من حيث إني آخذ هذا الشيء من فائض أموال الأغنياء وأعطيه للفقراء على سنة الشرع الحكيم وركن العدل المبين، عملا بأمر الله المطاعِ المستجاب ﴿خُذْ من أموالهم صدقةً تطهِّرهم وتزكيهم بها وصلِّ عليهم إن صلاتك سكنٌ لهم﴾. وإذا لم أطع هذا الأمر الإلهي أكونُ عصيتُ فاطري عصيانا جسيما أنال عنه في الدنيا والآخرة عقاب أليما. نصحني أحمد اليحمدي بنقل رفات أخي الرشيد من مدفنه بمراكش إلى فاس وعيّن له ضريح الشيخ ابن حرزهم، وذلك حتى يصير مزارا للمتبركين من عامة الناس وخاصتهم من كل المدائن والجهات. وأبلغني الناصح أن القاضيين بردلة والتجموعتي وأبرز علماء فاس وشيخهم عبد القادر الفاسي يرحبون بذلك النقل، إلا من الفقيه عبد السلام جسوس تجهَّم وبالصمت اعتصم. ونوّهتُ بصواب النصيحة وجدارتها سيما وأنها طابقت نيتي في هذا الشأن، فأمرت بالإنجاز دون إبطاء. ليس هذا وحسب، بل إني أمرت أيضا بإنشاء الزاوية الفاسية بالقلقليين في محيط جامعة القرويين. فكاتبني الشيخ عبد القادر الفاسي يثني على قراري ويدعو لي بالنجح والفوز برضى الله ومحبته. فما كان مني إلا أن زدت في تقريبه مني لما له من جاه ديني وباعٍ في تهدئة بعض الجهات ورؤوس ذوي التأثير والحيثيات. لكن هؤلاء سرعان ما رأوا في كرمي وإحساني أمارات ضعف وهوان، فأقدموا على قتل عاملي على فاس عبد الله الروسي، فبادرت إلى تعيين خلفه حمدون الروسي وكلفته بجباية ذوي اليسار الفاسيين وتحصيل الأعشار والزكوات من أموالهم كما أنا مأمورٌ به من ربّي. ولما هربوا لاجئين إلى تلمسان، تحت حماية الأتراك، أمرت بمصادرة أملاكهم وبيعها في المزاد العلني، إسهاما منهم في إنعاش خزينة الدولة ودعما للمجهود الجهادي والحربي. أعلم أن أثرياء فاس يتهمونني بالتشدد في استخلاص الجبايات، لكن الحقّ َ أن تقديرها الذي أوكله إلى خبراء وعدول لا يتم إلا بالموازين لضبط نِسبها حسب مبالغ المداخيل والأرباح، والله رقيبنا وهو نِعم الرقيب. أردنا لرماة فاس أن يكونوا عونا لنا لا علينا، فعرضنا على قادتهم ومنهم عمر الطويري الفاسي الأندلسي أن يُلحَقوا بجيشنا ونعوضهم بضِعفهم من البواخر ليقوموا حُراسا للفاسيين ورعاةً لأمنهم وراحتهم، إلا أنهم رفضوا العرض واستبعدوه كارهين، وقال بعضهم، يتقدمهم الفقيهان جسوس والمجاصي هذا الفخ مكشوف الحبك وحيلة لا تنطلي على الأغبياء، فكيف بأهل العلم والنهي... ولما وجهت ابني زيدان إلى شرق الإيالة لمحاربة ثوار يحرضهم أتراك الجزائر طالبت بإشراك سرية من جيش فاس، فتمت الاستجابة، فحالَفَنا جميعا النصر على الفتانين الخونة بعون الله، وأسكنت ابني ذاك في فاس الجديد كعربون وئام ووفاء. لكن ما إن ناشدت صدورها وأكابرها بتسجيل مجاهديهم في ديوان جيش البواخر والودايا حتى تلكؤوا وأجفلوا، ولله الحكم والمشتكى. وكذلك تمادى المتنفذون من أهل فاس في عِدائي ومقاومة الدولة العلوية الشريفة بكل ما أوتوا به من أسلحة ثقيلة وخفيفة وبحماية منافسي ومناوئي الكثر. ولما استفحل أمر بن محرز أوفدت نفرا من بعض رجالي ينذرون أرباب جيش فاس أني لا أطيق وجود الثائر بين ظهرانهم، ولا تصح شرعا أي بيعة له، فلا بد من حبسه أو نفيه، سيما وأنه حرم أشراف فاس من مستحقاتهم، فاجترح إثما وأيَّ أثم. وحذرتهم، إن هم لم يستجيبوا، من فشو بؤر من القلاقل والفتن شتى. وقد أعذر من أنذر. وأما الخضر غيلان فآثرتُ قطع دابره بدءا قبل العودة إلى أهل فاس المحتمين به عليَّ زورا وغيّاً. وفرضت على أجنادي أن يرأفوا بأناس تطاون وأصيلا وحتى القصر الكبير مكمن الثائر، فلا يخصوهم إلا بالأمان والصفح الجميل. وأما أولاد النقسيس الذين أودعتهم سجنيْ تطاون وفاس الجديد فقد أمرت بإعدامهم حسب فتوى فقهاء ونصيحة قياد الهبط والشمال يتقدمهم الباشا عبد الله الحمامي، وذلك لأن تركهم أحياء قد يشجعهم على محاولة الفرار فالعودة إلى ما كانوا عليه من تمرد وتشغيب عليّ عوض مقاتلة مهجريهم عنوةً وقهرا من ديارهم وبلادهم، وهم عبدة الصليب وجاعلو لله ولدا هو المسيح ابن مريم، تعالى عن ذلك المولى الذي لم يلد ولم يولد علوا كبيرا. ودأب أخصامي من أهل فاس على ما استماتوا فيه من عناد ومعاكسة حتى أنهم ناصروا أبنائي الثائرين عليّ، وهم، علاوة على محمد العالم، الحران وهاشم وأحمد وهؤلاء الثلاثة تحالفوا مع بربر آيت عطّا، وكلهم أرادوا الإيقاع بي وهزمي. فلم يفلحوا بل خسِئوا وخسِروا وحبطت أعمالهم وارتد كيدهم إلى نحورهم وسلمتُ منهم بعون الله وقوته. هذا وإني، رغم ذلك كله، لم أقطع رجائي في علماء فاس، والدليل عليه أني استرسلت في استفتائهم، كما حصل لي منذ مدة مع محمد بن عبد القادر الفاسي الذي سألته عن حكم الشرع في قبيلة بني عامر الأعراب من شمال شرق إيالتنا، إذ باعوا روحهم لنصارى الإصبان وتمالأوا معهم وخفضوا لهم جناح الذل والطاعة، والعياذ بالله. فرجَّحنا معاً أن يُقاتل المرتدون إلى أن يؤوبوا إلى صفوف المسلمين وينشدوا الغفران والتوبة عسى الله يستجيب لهم وهو العفوُّ الرحيم. ولا استجابة منه تعالى إلا أن يراهم يكفّرون عن مساءاتهم وذنوبهم متصدرين فلول المجاهدين، مضاعفين جهودهم في البذل والإباء واسترخاص الموت حتى النصر المبين، إن شاء الله. يتبع