بعد مقالتي السابقة "إسماعيل عادلا"، أعرض روائيا في هذه الأخرى شذرات لعلها تظهر بعض وجوه استثنائية هذا السلطان المؤسس الفعلي للدولة العلوية وديمومتها ومنقذ المغرب من أطماع العثمانيين والإيبيريين الترابية، كما من فتن الثوار ومنافسيه على طلب السلطة والاستفراد بها، كالزاوية الدلائية وحلفائها صنهاجة الأطلس المتوسط، وكبعض إخوته وأبنائه، وقد نعود إلى هذا الشق في فرصة قادمة. ** أنا عبدُ الله جلَّ جلالُه وحبيبهُ الطَّيِّعُ المأمور. دعائي الأشوق والمستطاب: ﴿قل ربِّ أدخلني مُدخلَ صدقٍ وأخرجني مُخرج صدقٍ وٱجعل لي من لدُنكَ سلطانا نصيرا﴾. ربِّ اغللْ يديَّ ورجليَّ وشلَّني إذا أنا عن سبيلكَ حِدتُ، وغيرَ وجهكَ استقبلتُ، ودونَ نصرتكَ ورضاكِ ترجيت. بيعةُ المؤمنين والمؤمنات في عنقي أمانة، وطاعتهم لي، إن صحت عند الله وصحت طاعتي له سبحانه، فإنها عهدٌ ثابتٌ راسخٌ ووثيقُ العرى. أما النساءُ الصالحاتُ القانتات والأمينات المستحقات والحافظاتُ لفروجهن، "فلا يكرمهنّ، كما في حديث شريف، إلا كريم، ولا يهينهنَّ إلا لئيم". فالعزُّ كله لهنَّ والسؤدد. غايتي الغالية أن تحبني أمتي بقدر ما تخشاني. وحقِّ الحق، لا سعادة لي، إلا بالسعيِ الحثيث إلى إسعاد الناس المستضعفينَ والمتروكين، وإلا فلا خيرَ فيَّ ولا رضى اللهِ عني. فاللهم حرِّك همتي وقوتي إلى ما أتوقُ إليه وأصبو، حتى أجعلَ من إيالتي بلادَ النفوسِ المطْمَئنة، ترتاحُ لها الأرواح، ويفشو بين أناسها السلام، يلقونهُ بعضهم على بعض روْحا وريحانا، فيكونون رحماءَ بينهم، كادحين إلى استحقاق قول الله جلَّ وعلا ﴿كنتم خير أُمة أخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهونَ عنِ المنكر﴾. وتفسير الآية: كنتم كذلك في عهدهم السالفِ التليد، فهل على ذلك ما زلتم؟ ولهذه الأمة وجَّه الخالقُ وعده العظيم ﴿كتبَ اللهُ على نفسهِ الرحمة﴾ فكان الرحمانَ الرحيم، فكيف لا أكتبها على نفسي أنا عبدهُ وخديمهُ والفقيرُ إليه والراغبُ في عفوهِ ومرضاته. * ثُمَّ إيايَ وإياي من حُكمِ الواحدي ولو سوَّغ الاستبداد بالكدح الحسن أو بالضرورة القصوى التي لا مندوحة عنها. وقد لغا وغالى وركبَ رأسهُ طيشا ابن هانيء الأندلسي لما مدح المعزَّ لدين الله الفاطمي فقال: "ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ/ فاحكمْ فأنتَ الواحدُ القهارُ". وما هذا اللغوُ المشين إلا رجعُ صدى لطغيان فرعونَ وهامان أو لترهيب الخارجين على الحجاج بن يوسف الثقفي حتى لكأنه يصدع مهددا: والله لأحدثنَّ لكم شغلا في أجسادكم، ولن أبرحكم إلا أن تأتوني نادمين طائعين. وإني والله لا أسفك إلا دمَ من سعى جادا إلى سفك دمي بالقصدِ البينِ الصلب والاستعدادِ الحادِّ المستنفر، أو من أرادَ وأعلنَ التمردَ عليّ وعلى ركائزِ الدولة ومقوماتِ الأمة التي أرعاها وأتقلدُ واجب صونها وسلامتها أي رعايتها لا رعي أناسها، لأنهم من آدم وحواء، لا بهائم وقطعان. هذا، وحقِّ ربِّ الأرباب وعاتقِ الرقاب لن تسمعوني ما حييت أخاطبكم كفرعون القائل: "لا أريكم إلا ما أرى"، وسواه من الجبارين الطغاة ومريديه، ومنهم يزيد بن معاوية الذي كالببغاء ردَّد زعم مولاه الفاجر التياه. إني، واللهُ شاهدٌ ووكيلي، لمتَّبعٌ في حمل مأموريتي الآيةَ الكريمة ﴿وكذلك جعلناكم أمةً وسطا لتكونوا شهداءَ على الناسِ ويكونَ الرسولُ عليكم شهيدا﴾. وبالتالي فإني متَّبعٌ سياسةَ الوسطِ الأمثل المقوَّى بالدنوِّ والفعلِ الحسنِ فالأحسن. فلا عجزَ ولا طغيان، لأن الأمنَ والأمان إذا انعدما فلا عِلمَ يُحصَّل، ولا آمالَ تتفتق، ولا حاجاتٍ تُقضى وتتحقق. فلتكن البلاد لذلك منبتا خصيبا طهورا، بعون الله وعونِ الهممِ العالية والسواعدِ المشمِّرة التواقة إلى تقوى الله والعملِ الدؤوب على إنماء الخيرات وتوزيعها بالعدل والقسطاس. ولعلي هكذا أكون مقتديا بالخلفاء الراشدين وبالعمرين بنِ الخطاب وبن عبد العزيز رضي الله عنهم جميعا وأرضاهم، وألحقَنا بهم مسلمين مطهَّرين. * ذات يوم، في خزانة القصر العامرة، بُعيدَ صلاة الفجر، وقعت عيناي على كتاب استهواني عنوانه: كتاب الضعفاء والمتروكين لمحمد ابن الجوزي، وإذ اطلعتُ على صفحاته الأولى علمتُ أنه مؤلف في موضوع الأحاديث النبوية، الضعيفة منها والمتروكة. وأكد لي صحة هذا المتن وزيري الأرفع ومحافظ الخزانة السلطانية أحمد اليحمدي، مُدْرِجاً الكتاب في فقه الجرح والتعديل، ووافقه رأيُ العالم محمد عبد القادر الفاسي القائل بغلوِّ ابن الجوزي رحمه الله وغفر له في جرح رجال الحديث وتصحيف أسماءِ ونسبِ الرواة... إلا أني أبىيتُ إلا أن أتشبت بعنوان الكتاب ساحبا إياه على فئات من رعيتي تشكو من الضعفِ والتَّركِ، وأُوليها مكانة معتبرة في جدولِ فكري وانشغالاتي. * في أيام القحط والمجاعة جرتِ العادة على أن ينطلق خطباء المساجد والبرّاحون مبلغين دعوتي بهذي الكلمات الصادقة: هلمّوا فقراءَ الإيالة وكلَّ من له حاجة وخصاصة. هذي أهرائي ومخازني أفتحها لكم مشرعة، تجدون في خيراتها ما تقتاتون منه وينقذكم من آفة الجوع والعطش، ويَكشفُ عنكم الغمة بحول الله وقوته، وتسهر العيون على التوزيع العادل للمؤن والحبوب ومنحها لمستحقيها من المعوزين وذوي العاهات وحتى لجماهير الناس المتضررين بلا ميز أو محاباة. وفي صلوات الاستسقاء أتقدمُ جموعَ المتضرعين إلى الله بالأدعية المستصرِخة، وأردِّد معهم بصوتٍ عالٍ متخشع: "اللهم اسقِ عبادك وبهيمتكَ وٱحْيِ بلدك الميت". وأمشي هكذا بلُبس رثّ، حافيَ القدمين مكشوفَ الرأسِ. * أُنبئتُ بأن فقهاء وبعضَ ذوي الحيثيات من فاسَ تخصيصا تهامسوا بالإنكار عليَّ اختلاطي بالعَمَلة البنائين، أباشر بنفسي مساعدتهم في حمل الأنفاض والآجر وإعداد الجير والبرشملة وسوى ذلك مما لا يليق في نظرهم بمقام الملوك والسلاطين، فبعثت لهم من أعيان حاشيتي من يذكرهم، إن نفعت الذكرى، أن آدمَ كان حراثا ونوحا نجارا وداودَ حدادا بل وإن أنبياءَ عليهم الصلاة والسلام كانوا رعاةً، وأوصيت بتبليغ أؤلئك المنكرين أني سلطانٌ بنّاء ولا عيبَ ولا حرج في هذا ولا في مشاركتي عبد الله الأمين وبعضَ العلوج في التخطيط لقصوري ومآثري الأخرى من حصون وأسوار منيعة وأبوابٍ ومساجدَ ومدارسَ وكتاتيب وأضرحة وسقايات وحدائق... وكلها تشير إليَّ وعلى عهدي تدل. وفي هذا السياق كم راقتني قصيدة عبد الحق السحيمي في مدحي مطلعها: "يباشرُ في كلِّ الأمورِ أموره/ بقلبٍ نقيٍّ للمكارِم مينعِ. * وانفردتُ باستصدار مراسم تدل بما لا ريب فيه، كما شهد ثقاتٌ وُعاة، والعهدة عليهم، أني سلطانٌ شهمٌ مقدام واستثنائيٌّ بما شاء الله لي ويسَّر. ومنها مثلا: "أما بعد فاذكرونا في الخطب بمجرد اسمنا إسماعيل بن الشريف من غير زيادة مولانا وسيدنا. فإني أستحي أن يُذكر الخلفاء من الصحابة الأجلاء والتابعين وأتباعهم رضوان الله عليهم بأسمائهم وكناهم ونذكر بأزيد من ذلك. وإن أبدى بعض العلماء وجها وبالغ في الثناء فالحياء غلبنا ومنعنا من الالتفات إليه والسلام". ومن ذلك أيضا أني أمرت بالنداء في الأزقة والرحاب والأسواق بأن لا يُرمى على الأرض كتابٌ أو كسرةُ خبزٍ، ومن خالف يعاقب. وأتبعت ذلك من بعد بمرسومِ تحريمِ تمريغِ الخدودِ بالأعتابِ الشريفة أو بأكناف الأضرحة. ففي ذلك تنقيصٌ من قيمة عبيد الله وكرامتهم. * لمواجهة صعاب المهام والصبر على المكاره والملمات، وللثبات في ساحات الوغي وصدامِ الخيل بجسم سليم قويِّ العريكة مفتولِ العضلات، غدوتُ حريصا كلَّ الحرص على جعل أمهر الأطباء من أقرب قُرباي، أسألهم وأستنصحهم في شؤون الصحة ووسائل حفظها. وكنتُ أقدِّم من هؤلاء أبا مروان عبد الملك وأجالسه ساعاتٍ طوالا. وكم حزنت لمقتله خنقا في فاس، فأمرت بالبحث عن القاتل وإحضاره حيا أو عليلا. ثم عوّضته بطبيب ليس أقل من المتوفى مهارة وحنكة في التطبيب والجراحة، وهو لوريانو الإصباني الذي أسلم وتسمى أحمد، وكان ينفر من النصارى ولا يعالجهم لكونهم أنكروا التوحيد فثلثوا الله وجعلوا له ولدا، كما جاء في كتاب الإسلام المجيد. والطبيبان معا أجمعا على إيصائي خيرا بالمعدة لأنها بيتُ الداء وبتجنبِ البطانة والمأكلِ الضار عيَّناهُ لي بالإسم والصفات، كما كانا يحضانني على مداومة الفروسية والسباحة وتعاطي الصيد مع بعض عسكري كل سبت وتخصيص يوم الخميس للتنزه والاستجمام...