كأنه شخص أجرب مطرود من حياتنا اليومية. لا مكان له بيننا، ولا نجرؤ على النطق باسمه. "كانبغيك" : هذا ما يقوله المغاربة للتعبير عن الحبّ. يتحرّجون من مرافقته لأنه مشبوه وأخلاقه فاسدة، ولا يمثّل ثقافتنا العريقة وخصوصيتنا التاريخية في دفن مشاعرنا. الكثيرون منا يجهلونه أصلا، ولم يروه أبدا في حياتهم، رغم ذلك، يكرهونه كرها ويتمنّون أن يصادفوه في الشارع للامساك بخناقه، وجرجرته أمام الملأ، وربما رجمه كما يرجم الشيطان بالأحجار السبعة. كم من الآثام سنرتكبها ونحن نحتفي بعيد الحبّ اليوم، كأننا نقتفي أثر القديس المسيحي الكافر فالنتاين، وكأن تراثنا العربي لم يعرف فقهاء محرّضين على الحبّ: أمثال النفزاوي والتيفاشي وابن حزم الذين كانوا أكثر جرأة منا اليوم، في الحديث عن فنّ الحبّ وآداب النكاح والباه، هؤلاء الشيوخ كانوا معلّمين كبار لثقافة الجسد وكشف أسراره، ولا يستحون من أعضائهم الحميمة وإعطائها أسماء شتى، حتى أننا نشكّ اليوم في هذا الخطاب الإسلاموي التراجعي الفظيع السائد، في كونه قرأ فعلا تراثه العربي المتحرّر بفلسفته المتعوية والأبيقورية. قد يرتعب هؤلاء حينما سيسمعون رأي عالم الاجتماع عبد الصمد الديالمي الذي يتحدّث عن "انفجار جنسي" في المغرب، نفس الخلاصة يؤكدها عالم الاجتماع باسكال لاردوليي الذي وصف ما يحدث على شبكة الأنترنت "بثورة حبّ كوبرنيكية"، فالعصر يتغيّر بسرعة، وجيل الأمس الذي كانت القبلة في المدرسة بين عاشقين تعدّ إنجازا تاريخيا، هي عند جيل اليوم تدخل في ممهّدات فنّ الحبّ الكلاسيكية، يتلوها ارتماء من العلوّ المرتفع للذّة إلى اكتشاف العمق السحيق للجسد الذي تشعله المغامرة الإنسانية وحبّ اكتشاف الآخر. الجيل الجديد من المغاربة بدأ شيئا فشيئا، يكتشف ذاته، ساهم في ذلك انفتاحه على العالم عبر ثورة شبكات التواصل الجديدة. بنات كثيرات، خصوصا في المدن الكبرى، لم يعد غشاء البكارة يغشّي عيونهن، وبدأن يتخلّصن من عقدة الشرف التي تتّهم النساء دون الرجال، وتختزل وجودهن في عضو جنسي، وتحوّل حياتهن الجنسية الطبيعية إلى إحساس جحيمي بالذنب. ماذا يمكن أن يفعل كائن بشري لم تنصفه الحياة ليتزوج ويقترن بشريك يحبّه؟ الحياة مكلّفة، والعزوف عن الزواج في تصاعد، والكثيرون تجاوز عمرهم الثلاثين، فهل سيحرمون إلى الأبد من متعة الجسد؟ هل سينتظرون حتى تنطفئ أجسادهم وتذبل إذا لم يوفّقوا في الاقتران بمن يحبّون بطريقة شرعية؟ ما يحدث في مجتمعاتنا العربية المحافظة ظاهريا، أنها تتحوّل إلى مجتمعات سرّية. مجتمعات تمارس كل المحرّمات ليلا، وتنفي ارتكابها نهارا. شيزوفرينيا تقتل فينا الصّدق مع الذات ومع الآخر. تصل درجة النفاق الاجتماعي والديني إلى أن يفتي الفقيه بجواز تركيب غشاء بكارة اصطناعي. هكذا يمكن للمرأة أن تقدّم نفسها كسيدة شريفة وطاهرة لرجل قضى كل حياته في الاستمتاع بجسده كاملا، في حين هي تدفع ضريبة الخطيئة الأصلية لوحدها، وتضمن طهرانيتنا الزائفة التي نقدّمها قربانا للتكفير عن إحساسنا الطبيعي بالحبّ. كم كانت فعلا عميقة حركة بعض الشباب المغاربة، عندما أطلقوا صفحة على الفايسبوك، لكل "البرتوشيين" المغاربة، وكلمة "برتوش" تعني غرفة أو أستوديو صغير لممارسة الحبّ، ويذكر جيل كامل من المغاربة كيف أن أزمة الحصول على "برتوش" أقسى وأعقد من أزمات السكن والبطالة. فالشاب كي يحصل على مكان يأويه مع شريكته، تلزمه ميزانية مكلّفة، مما يجعله يرجئ مغامرته إلى أن يحصل على عمل، أو على منحته الجامعية، أو يتشارك مع أصدقائه لكراء خمّ للدجاج، أو ينتهي به المطاف ليتكوّم في بيته كشيخ هرم يجلد عُميرة وذاته والآخرين، دون أن تكون له سوابق جنسية. أما بعض المغامرين فيفضّلون المخاطرة والذهاب إلى "الأوطيل العريان" أي الخلاء، والانفراد بالعشيقة تحت تهديد أن تقف عليه دورية شرطة أو أحد الصعاليك الطامعين في التناوب على شريكته. يوم واحد في السنة، اعتبره العالم عيدا للحبّ، يريد البعض أن يحرمنا منه بعد أن صارت كل أيامنا كراهية. هذا اليوم اللذيذ، والشهواني سنقوم فيه بتمرينات في الحبّ، وسنكتب رسائل غرامية لمجهول نحبّه، ونوزعّ الهدايا والشوكولاتة الذائبة على البنات في الشوارع، ونلتهم ورد الجمال الأحمر. يوم واحد للذائذ الحياة، سنكون فيه صادقين مع ذواتنا، سنحبّ ولو مرة ولنمت بعدها من الحرمان، سنكشف فيه عن مشاعرنا المدفونة ولو تحت الأغطية.