الذاكرة والتاريخ في تجربة هيئة الانصاف والمصالحة عرف المغرب، منذ أواسط تسعينيات القرن الماضي، فورة وزخما ملحوظا في النقاش والتأليف في الموضوعات والقضايا ذات الصلة بالذاكرة الفردية والجماعية، كثمرة من ثمرات التفاهمات السياسية التي انخرطت فيها القوى السياسية تأسيسا لانتقال سياسي سلس للحكم في المغرب. وشكلت أشغال هيئة الإنصاف والمصالحة وما واكبها من نقاش عمومي لحظة ذاكرة بامتياز غير مسبوقة في تاريخ المغرب لاسيما جلسات الاستماع العمومية لضحايا الانتهاكات الجسيمة، التي وصفها المؤرخ بنجمان سطورا ب«الحدث الأول من نوعه في العالم العربي من وجهة نظر الشفافية التاريخية» (لوفيكارو 14/11/2006)، وما رافقها من زيارات للمعتقلات السرية، وإقامة جنائز رسمية لبعض المختطفين المتوفين. وحظيت تيمة "الذاكرة والتاريخ" باهتمام وعناية كبيرين من هيئة الإنصاف والمصالحة، بحرصها على الاستعانة بخبرة نخبة من المؤرخين، وتركيزها في أشغالها على البحث في سياقات الانتهاكات، والحسم لصالح الحقيقة التاريخية بدل الحقيقة القضائية، وسعيها إلى إنضاج «قراءة مشتركة، تساعد على امتلاك مفاتيح ما جرى من انتهاكات واختلالات وخروقات تسمح ببناء ذاكرة مشتركة، كثيرا ما غيبت في فترات القمع التي شهدها المجتمع» (التقرير الختامي، الكتاب الأول، ص. 102)، واجتهادها- تأسيسا على الارتباط الوثيق للمصالحة بحفظ الذاكرة الجماعية-«في توسيع دائرة المستفيدين من برنامج جبر الضرر، عبر إدماج أحداث تاريخية معينة ارتبطت بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، أو بسبب تواجد مراكز اعتقال واحتجاز سرية» (نفس المرجع والصفحة). وأخيرا، إشرافها على تنظيم «سبع جلسات استماع عمومية بست جهات من المملكة لعينات من ضحايا الانتهاكات الجسيمة الماضية من أجل استرجاع كرامة الضحايا الذين انتهكت حقوقهم وبرد الاعتبار المعنوي لهم، وحفظ الذاكرة الجماعية، ومقاسمة الآلام والمعاناة والتخفيف من المخلفات النفسية الناتجة جراء ذلك. كما لعبت دورا تربويا وبيداغوجيا تجاه المسؤولين والرأي العام والمجتمع والأجيال الصاعدة» (المرجع نفسه، ص 104). دون نسيان ما حفل به التقرير الختامي لهيئة الإنصاف والمصالحة من تعابير ومصطلحات مستقاة من فضاء الذاكرة والتاريخ من قبيل "الذاكرة المشتركة"، "حفظ الذاكرة الجماعية"، "فهم المجتمع لأحداث الماضي"، "الحكي الوطني حول المعاناة والآلام الماضية"، "مصالحة المغاربة مع ماضيهم ومع ذواتهم"، "البحث عن الحقائق واستخلاص الدروس والعبر" وغيرها من الكلمات والتعابير. لقد أسفرت جهود هيئة الإنصاف والمصالحة عن صياغة لائحة توصيات بغاية «توطيد الإصلاح والمصالحة»، حيث نقرأ في المحور المخصص للبحث العلمي حول التاريخ الماضي والراهن للمغرب، دعوة الهيئة إلى: أولا: «تحفظ جميع الأرشيفات، وينسق تنظيمها بين كل الدوائر المعنية، كما يسن قانون ينظم شروط حفظها وآجال فتحها للعموم وشروط الاطلاع عليها والجزاءات المترتبة عن إتلافها»؛ ثانيا: «القيام بمراجعة تدريجية لمحتوى برامج مادة التاريخ ببلادنا»؛ ثالثا: «قيام المعهد الموصى بإحداثه، بالإضافة إلى المهام الموكولة إليه، بالتوثيق والبحث والنشر حول الأحداث التاريخية المتصلة بماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وبتطورات قضايا حقوق الإنسان، والإصلاح الديمقراطي». وبعد انتهاء مهام هيئة الإنصاف والمصالحة، عمل المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان على متابعة تفعيل التوصيات المدرجة في التقرير الختامي، فعقد اجتماعين بمقر الوزارة الأولى يومي 16 و23 يونيو 2006 بمشاركة أعضاء من الحكومة أسفرا عن تشكيل خمس لجان مختلطة كان من بينها "لجنة الأرشيف والتاريخ وحفظ الذاكرة". وكثمرة من ثمرات تفعيل توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة، صدر في 22 نونبر 2006 الظهير المؤسس للمعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب الذي أسندت إليه مهام نشر المعرفة التاريخية والتعريف بتاريخ المغرب وتشجيع الأبحاث حوله و«إنتاج منشورات موجهة للأطفال والشباب ومؤلفات بمختلف اللغات تخصص للجالية المغربية المقيمة بالخارج» و«استعمال مختلف الوسائل الميسرة للتعريف والتواصل، ولاسيما المتاحف التاريخية والمعارض المنقلة وتنظيم الندوات واللقاءات العلمية» وغيرها من الأهداف. وصدر في شهر دجنبر 2007 القانون المتعلق بالأرشيف الذي تم بمقتضاه إنشاء مؤسسة "أرشيف المغرب" لتنظيم الأرشيف العامة والخاصة وتدبير أمر الاطلاع عليها. وقد شرعت هذه المؤسسة في أنجاز بعض الأنشطة تمحورت حول تنظيم ندوات وتظاهرات وتوقيع اتفاقيات تعاون مع مؤسسات مثيلة وتسلم أرشيفات خاصة وعامة وغيرها من الأنشطة الهادفة إلى تحسيس الرأي العام والمسؤولين بأهمية العناية بالأرشيف وصيانته والحفاظ عليه. على أن هذه المبادرات والأنشطة لمؤسسة أرشيف المغرب على أهميتها، لا تعفي من القول بأن النتائج المحققة شابتها تعثرات حالت دون بلوغها مستوى الآمال المعقودة عليها للنهوض بواجب الحفاظ على أرشيفنا الوطني وتنظيمه وجعله رهن إشارة الباحثين لكتابة تاريخنا وتمتين ذاكرتنا الوطنية. إذ كان من الضروري انتظار أربع سنوات بعد صدور القانون المنظم لكي يعلن عن تعيين مديرها (سنة 2011)، كما لم يصدر المرسوم المحدد لشروط وإجراءات تدبير وفرز وإتلاف الأرشيف العادي والوسيط إلا في سنة 2015. أما المرسوم المحدث للمجلس الوطني للأرشيف، فتأخر صدوره إلى شهر غشت 2017. وبعبارة أخرى، رغم تصنيف مؤسسة "أرشيف المغرب" ضمن المؤسسات الإستراتيجية، كان لزاما انتظار إحدى عشرة سنة لوضع الترسانة القانونية الضرورية لحسن تنظيم الأرشيف. ويمكن أن نضيف أيضا ضمن العوامل الرئيسية المعيقة لهذه المؤسسة في أداء مهامها على الوجه المطلوب، العناصر التالية: - افتقارها إلى مقر مناسب يحترم المعايير المعتمدة في الميدان يسمح لها حاضرا ومستقبلا بتوطين الأرشيف النهائية المسلمة من المرافق المنتجة لها؛ - الضعف الكمي والنوعي للموارد البشرية قياسا بالمهام المسندة لها بحكم القانون؛ - عدم انخراط الحكومة بشكل جدي في تفعيل وأجرأة هذا الورش الهام؛ - ضعف تجاوب وتعاون المرافق المعنية، وتلكؤها في عملية تدبير وتسليم الأرشيف إلى مؤسسة "أرشيف المغرب". حصيلة المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب: ملاحظات أولية ولتنزيل المهام المسندة له، بادر المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب إلى دعوة نخبة من المؤرخين والباحثين المختصين للمساهمة في إنجاز مؤلف تركيبي حول تاريخ المغرب، ونظم سلسلة لقاءات قاربت قضايا من قبيل "المغرب والزمن الراهن"، و"منطقة الشمال بين الحماية والاستقلال"، و"الذاكرة والمقاومة". كما أعلن عن إيفاد بعثات علمية «مكنته من توفير رصيد من وثائق الأرشيفات المحلية والأجنبية التي لها اتصال بالوحدة الترابية للمملكة» وفق ما ورد في نشرة المعهد. كان من نتائج هذا الجهد صدور مؤلف من 821 صفحة في سنة 2011 تحت عنوان: "تاريخ المغرب تحيين وتركيب"، عمل المعهد على ترجمته إلى اللغات الفرنسية والاسبانية والانجليزية. وصدرت أيضا مؤلفات أخرى نذكر من بينها "كرونولوجيا تاريخ المغرب" و"شمال المغرب إبان فترة الحماية وبداية الاستقلال" و"الذاكرة والمقاومة فيما بين سنتي 1944 و1961" و"موجز تاريخ المغرب". على أنه إذا كانت هيئة الإنصاف والمصالحة، في إطار سعيها للكشف عن الحقيقة، قد بلورت آليات للبحث والتقصي بإجراء تحريات والاستعانة بخبرة مؤرخين مختصين وتنظيم جلسات استماع لضحايا الانتهاكات والاستئناس بشهادات شهود عايشوا الأحداث، والقيام بزيارات للمناطق المعنية بالانتهاكات ودراسة مكنونات بعض الأرشيفات، فإن عملها هذا على أهميته لا يعد عملا مطابقا لعمل المؤرخ الذي له مناهجه وأدواته الإجرائية ومصادر معلوماته. وبالتالي، لا يعفي مؤرخينا من مقاربة القضايا التي اشتغلت حولها هيئة الإنصاف والمصالحة، بل إن تدخلهم مطلوب في دراسة الموضوعات التي لم تنل حظها من الاهتمام، وفي المقدمة منها البحث ليس فقط في ظروف وملابسات الاختفاء القسري والاعتقال التعسفي، بل أيضا تفاصيل أحداث هذه المرحلة الهامة من تاريخ المغرب وتوضيح مسؤوليات ومواقف كل الأطراف، لا التركيز على الدولة وأجهزتها فقط؛ أي دراسة ديناميكية العلاقات بين الدولة والمجتمع من جهة، والعلاقة بين مكونات هذا الأخير، وعوامل التأثير والتأثر لا من أجل جبر الضرر وتحديد مسؤولية الدولة على أهميتها، ولكن أيضا لمعرفة حقيقة ما جرى بتفصيل. إن ما توصلت إليه فرق هيئة الإنصاف والمصالحة من نتائج وخلاصات هو في نهاية الأمر محكوم بالقيود التي وضعها الإطار القانوني المحدث والمنظم لهذه الهيئة، ويعبر في المحصلة عن توازنات وتوافقات وموازين قوى، في حين أن عمل المؤرخ بشكل عام غير معني بهذه الخطوط الحمراء، لاسيما وقد كان من الممكن الاستفادة من الديناميكية التي أطلقتها الهيئة، خصوصا بعدما تبين لجميع الأطراف بما فيها الدولة المغربية أن الحقيقة كما كشف عنها لم تشكل تهديدا ولا مسا بسلامة أمن وطمأنينة المجتمع والدولة على حد سواء. كان من المأمول مثلا أن يبادر المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب إلى إطلاق مبادرات لتحفيز الباحثين والمؤرخين بدون استثناء وعن طريق طلبات عمومية لإنجاز أبحاث بمواصفات أكاديمية محددة سلفا، حول تاريخ فترة الحماية ومغرب الاستقلال، ومقاربة القضايا التاريخية المرتبطة بها والتي لا زالت لم تدرس بعد، قضايا وموضوعات هناك حاجة مجتمعية لمعرفة تفاصيلها نذكر من بينها على سبيل المثال لا الحصر: دراسة مقارنة للمقاومات القبلية الأولى، طبيعة العلاقة بين المؤسسة الملكية والحركة الوطنية، طبيعة وخصوصيات التجربة الحزبية للحركة الوطنية، تمثل الحركة الوطنية لنظام الحماية، تصور الحركة الوطنية لمغرب الاستقلال، الحركة الوطنية وتدبير الاختلاف، وقائع وأحداث المقاومة المسلحة السرية، جيش التحرير بشمال وشرق وجنوب المغرب، تجربة محمد بن عبد الكريم الخطابي بمصر وعلاقته بالأحزاب الوطنية، أحداث الريف لسنة 1958، حرب الرمال، العلاقات المغربية الجزائرية، الحركات السياسية والمسلحة في مغرب الاستقلال.. فالمؤلف الذي أشرف المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب على إصداره تحت عنوان: "تاريخ المغرب تحين وتركيب" قد ضرب صفحا عن محطات وقضايا هامة من تاريخ المغرب في القرن العشرين ومنها ما أشرنا إليه آنفا، واكتفى في أحسن الأحوال بسطر أو سطرين مع أن ظلال هذه الأحداث لا زالت تتفاعل في مجتمعنا. فموضوع المقاومة المسلحة السرية مثلا اختصر في فقرة واحدة تخللتها بعض الهفوات في ضبط المعلومات (انفجار قنبلة مرس السلطان بالدار البيضاء في 14 يوليوز 1954 بدل 1955، حصر عدد ضحايا قنبلة السوق المركزي بالدار البيضاء في 18 قتيلا بدل 19 قتيلا و34 جريحا، الإشارة إلى فشل محاولة اغتيال محمد ابن عرفة بمراكش دون توضيح أن قنبلتين انفجرتا وأصابتا بعض المصلين ومنهم ابن عرفة)، علاوة على إغفال عمليات وأحداث من تاريخ المقاومة كاغتيال الدكتور ايرو (20 يونيو 1954)، ومحاولة اغتيال الباشا الكلاوي بتفجير قنبلتين بمسجد الكتبية، وإطلاق النار على الجنرال دوهتفيل بمراكش (20 يونيو 1954)، واستهداف الباشا بنحيون بتفجير قنابل في ميدان سباق الخيل بأكادير، ومحاولة اغتيال بونيفاس بالدار البيضاء بإطلاق النار على سيارته، والأحداث الدامية بوجدة في 16 غشت 1953، الأحداث الدامية بخريبكة ووادي زم وخنيفرة (19 -21 غشت 1955)... ولم يكن تاريخ جيش التحرير بأحسن حال، حيث خصصت له فقرة من تسعة سطور ليس بها معلومة دقيقة واحدة عدا جمل عامة لن تفيد القارئ في تكوين فكرة عن هذه الحركة المسلحة الفاعلة في تاريخ المغرب، والتي أقر مؤلفو الكتاب في سطرين بهذا حين كتبوا: «ومن المؤكد أن حجم هذا المشروع، محليا وجهويا، قد عجل بانخراط الدبلوماسية الفرنسية في البحث عن إيجاد حل سريع للقضية المغربية». فلا شيء عن كيف تأسس هذا الجيش؟ ولا عن أسماء وسير مؤسسيه؟ ولا تعريف بأهم المعارك التي خاضها؟ وكيف نسج علاقات مع جيش التحرير الجزائري؟ وأي دور لمحمد بن عبد الكريم الخطابي في تأسيسه؟ وكيف تمدد باتجاه الأطلس المتوسط والشرق المغربي قبل أن تشمل عملياته العسكرية الصحراء المغربية وشمال موريطانيا؟ وما حقيقة المؤامرات والصراعات إلى أن انتهت به إلى الحل. كما لن يجد القارئ لهذا المؤلف ما يسعفه في تكوين فكرة عن دور الحزب الشيوعي المغربي في النضال إبان فترة الحماية وبعدها... قد كان من الممكن أن تشير الكرونولوجيا التي وضعت في خاتمة الكتاب إلى الأحداث التي لم تتم معالجتها، غير أنها هي نفسها قفزت على العديد منها، نذكر من بينها على سبيل المثال: 1936: - بداية الحرب الأهلية الاسبانية - تأسيس حزب الإصلاح الوطني بتطوان 1937: - أحداث وادي بوفكران بمكناس - انقسام كتلة العمل الوطني بالمنطقة السلطانية إلى شطرين 1946:- تأسيس الحزب الشيوعي المغربي 1947: - الأحداث الدموية المعروفة ب"ضربة سليغان" بالدار البيضاء - تأسيس مكتب المغرب العربي بالقاهرة - لجوء محمد بن عبد الكريم الخطابي إلى مصر 1948: - تأسيس "لجنة تحرير المغرب العربي" برئاسة محمد بن عبد الكريم الخطابي 1953: - أحداث 15 غشت بالمشور بمراكش - أحداث 16 غشت بوجدة و17 غشت ببركان 1955: - انطلاق عمليات جيش التحرير بمنطقة الريف يوم 2 أكتوبر وليس فاتح اكتوبر 1956: - تأسيس الجيش المغربي - قرصنة طائرة قادة المقاومة الجزائرية... وفي الوقت الذي تم الحرص على تضمين هذه الكرونولوجيا تاريخ تأسيس جبهة البوليساريو وتاريخ الإعلان عن تأسيس "الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية"، غابت أية إشارة إلى أي محطة من محطات تاريخ جيش التحرير بالصحراء المغربية. نعم تمت الإشارة في أكثر من مناسبة من طرف القيمين على هذا الورش إلى عقدهم لثلاث حلقات دراسية سنة 2007- أي قبل صدور المؤلف التركيبي- لمقاربة موضوعات ذات صلة بتاريخ المغرب في القرن العشرين، إلا أن الخلاصات والنتائج لم تجد طريقها إلى المؤلف التركيبي بالإجابة على الأسئلة العالقة وتم الاكتفاء بنشرها في مؤلفات منفصلة كمداخلات. ختاما، بقي أن نشير على المستوى العام، إلى أن النزوع إلى "التركيب" في هذا المؤلف ربما يخفي، من وجهة نظرنا، نقصا في الإلمام بالتفاصيل؛ في حين لوحظ في المقابل أن بعض مكونات المؤلف التركيبي عوضت التركيب باستعراض المعطيات والمعلومات بإسهاب. فهل مرد هذا إلى صعوبات في دمج المساهمات التي أنجزها الباحثون؟ ليست الغاية هنا تبخيس ما تم إنجازه من أعمال ومؤلفات، لكن مسعانا هو التنبيه إلى أوجه القصور لتجاوزها لاسيما إذا ما أقدم المعهد الملكي على إصدار طبعة منقحة. ثم لا يجب أن يغيب عن بالنا أن تأسيس هذا المعهد جاء استجابة لحاجة مجتمعية ونضالات القوى الفاعلة في المجتمع المغربي، وفي المقدمة منها هيئة الإنصاف والمصالحة. وحسبنا أن نستحضر هنا ما قاله الأستاذ أحمد التوفيق وزير الأوقاف باعتباره يمثل سلطة الوصاية على هذه المؤسسة، وهو على اطلاع بدون شك على ما يعتمل في المجتمع من تيارات متناقضة واحتياجات ضاغطة، وعلى بينة من التحديات المطروحة على الدولة المغربية. ففي معرض حديثه في اليوم التعريفي بمؤلف "تاريخ المغرب: تحيين وتركيب" نبه إلى «أن من يقرأ هذا الكتاب الذي صدر يشعر أنه لن يستفيد منه حق الاستفادة إلا نخبة معينة من القارئين»، فدعا إلى «تنويع صيغ إخراجه مع مراعاة تنوع الجمهور» وإلى إعادة طبع الكتاب «بعشرات الآلاف من النسخ في القريب العاجل». «ولأن مسألة تدريس تاريخ المغرب في المؤسسات الثانوية والابتدائية تدخل في اهتمامات المعهد»، فإنه اقترح تنظيم ندوة ل «مناقشة الطريقة التي يدرس بها التاريخ في المدرسة المغربية وتبادل الرأي بخصوص مضامين هذه المادة في الكتاب المدرسي»، ونبه إلى الحاجة إلى أن يعمل المعهد «على التعريف بتاريخ المملكة من خلال موائد مستديرة في التلفزيون مثلا أو عبر موقعه على شبكة الانترنيت». وختم تدخله بالتذكير بأن «تأسيس المعهد [تم] بفعل الحاجة المجتمعية الشديدة إلى التاريخ. وهي حاجة ما انفكت تتزايد في الآونة الأخيرة[..] ولا يخفى أن حاجة المجتمع إلى التاريخ تتجاوب مع ضرورة معرفة المجتمع وصيرورة تفاعله واندماجه، ومع حاجة الأمة إلى التعرف على جذور الإحساس بالانتماء وأطوار النضال الذي صنع كيانها وقواها. ثم هناك أخيرا حاجة السياسة إلى التاريخ، لأن من شأن الاهتمام بما جرى في الماضي أن يكشف عن الأسس التي بنيت عليها الدولة وعلى طبيعة تطورها وعلاقتها بالمجتمع، وأن يسلط الضوء على الأمور الغامضة ويبدد الكثير من الالتباسات الناتجة كلها عن فقر ثقافي تاريخي [..] لهذه الأسباب كلها فإن المعهد مدعو بحكم تموضعه في بؤرة الاحتياج المذكورة- إلى إطعام كل من الثقافة التاريخية- المجتمعية المواطنة بأسرع ما يمكن، وأن ينجز ذلك بهدوء المؤرخين مع الأخذ بعين الاعتبار للمستعجلات التي تمليها الانتظارات المشار إليها أعلاه». إنه برنامج طموح نأمل أن يشرع المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب في تفعيله وأجرأته خدمة للوطن والمواطنين. يتبع * باحث في تاريخ المغرب المعاصر