هيئة المعلومات المالية تحقق في شبهات تبييض أموال بعقارات شمال المغرب    المغرب يخطط لإطلاق منتجات غذائية مبتكرة تحتوي على مستخلصات القنب الهندي: الشوكولاتة والدقيق والقهوة قريبًا في الأسواق    تشييع جثمان الفنان محمد الخلفي بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء    فريق الجيش يفوز على حسنية أكادير    شرطة بني مكادة توقف مروج مخدرات بحوزته 308 أقراص مهلوسة وكوكايين    حفيظ عبد الصادق: لاعبو الرجاء غاضبين بسبب سوء النتائج – فيديو-    دياز يساهم في تخطي الريال لإشبيلية    المغرب يحقق قفزة نوعية في تصنيف جودة الطرق.. ويرتقي للمرتبة 16 عالميًا    مقتل تسعة أشخاص في حادث تحطّم طائرة جنوب البرازيل    المغرب يوجه رسالة حاسمة لأطرف ليبية موالية للعالم الآخر.. موقفنا صارم ضد المشاريع الإقليمية المشبوهة    فرنسا تسحب التمور الجزائرية من أسواقها بسبب احتوائها على مواد كيميائية مسرطنة    وزارة الثقافة والتواصل والشباب تكشف عن حصيلة المعرض الدولي لكتاب الطفل    فاس.. تتويج الفيلم القصير "الأيام الرمادية" بالجائزة الكبرى لمهرجان أيام فاس للتواصل السينمائي    التقدم والاشتراكية يطالب الحكومة بالكشف عن مَبالغُ الدعم المباشر لتفادي انتظاراتٍ تنتهي بخيْباتِ الأمل    مسلمون ومسيحيون ويهود يلتئمون بالدر البيضاء للاحتفاء بقيم السلام والتعايش المشترك    الرجاء يطوي صفحة سابينتو والعامري يقفز من سفينة المغرب التطواني    العداء سفيان ‬البقالي ينافس في إسبانيا    جلالة الملك يستقبل الرئيس الموريتاني محمد ولد الشيخ الغزواني    بلينكن يشيد أمام مجلس الأمن بالشراكة مع المغرب في مجال الذكاء الاصطناعي    وقفة أمام البرلمان تحذر من تغلغل الصهاينة في المنظومة الصحية وتطالب بإسقاط التطبيع    الولايات المتحدة تعزز شراكتها العسكرية مع المغرب في صفقة بقيمة 170 مليون دولار!    الجزائر تسعى إلى عرقلة المصالحة الليبية بعد نجاح مشاورات بوزنيقة    انخفاض طفيف في أسعار الغازوال واستقرار البنزين بالمغرب    رسالة تهنئة من الملك محمد السادس إلى رئيس المجلس الرئاسي الليبي بمناسبة يوم الاستقلال: تأكيد على عمق العلاقات الأخوية بين المغرب وليبيا    مباراة نهضة الزمامرة والوداد بدون حضور جماهيري    رحيل الفنان محمد الخلفي بعد حياة فنية حافلة بالعطاء والغبن    لقاء مع القاص محمد اكويندي بكلية الآداب بن مسيك    لقاء بطنجة يستضيف الكاتب والناقد المسرحي رضوان احدادو    بسبب فيروسات خطيرة.. السلطات الروسية تمنع دخول شحنة طماطم مغربية    غزة تباد: استشهاد 45259 فلسطينيا في حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة منذ 7 أكتوبر 2023    مقاييس الأمطار المسجلة بالمغرب خلال ال24 ساعة الماضية    ندوة علمية بالرباط تناقش حلولا مبتكرة للتكيف مع التغيرات المناخية بمشاركة خبراء دوليين    الرباط.. مؤتمر الأممية الاشتراكية يناقش موضوع التغيرات المناخية وخطورتها على البشرية    البنك الدولي يولي اهتماما بالغا للقطاع الفلاحي بالمغرب    ألمانيا: دوافع منفذ عملية الدهس بمدينة ماجدبورغ لازالت ضبابية.    بنعبد الله: نرفض أي مساومة أو تهاون في الدفاع عن وحدة المغرب الترابية    تفاصيل المؤتمر الوطني السادس للعصبة المغربية للتربية الأساسية ومحاربة الأمية    أكادير: لقاء تحسيسي حول ترشيد استهلاك المياه لفائدة التلاميذ    استمرار الاجواء الباردة بمنطقة الريف    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    حملة توقف 40 شخصا بجهة الشرق    "اليونيسكو" تستفسر عن تأخر مشروع "جاهزية التسونامي" في الجديدة    ندوة تسائل تطورات واتجاهات الرواية والنقد الأدبي المعاصر    استيراد اللحوم الحمراء سبب زيارة وفد الاتحاد العام للمقاولات والمهن لإسبانيا    ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب في قطاع غزة إلى 45259 قتيلا    القافلة الوطنية رياضة بدون منشطات تحط الرحال بسيدي قاسم    سمية زيوزيو جميلة عارضات الأزياء تشارك ببلجيكا في تنظيم أكبر الحفلات وفي حفل كعارضة أزياء    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لنا تاريخ ولنا خصوصيات ينبغي أن نحملها وندمجها في خصوصيتنا

ألقى المؤرخ محمّد القبلي، المؤرخ المغربي ومدير «المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب» محاضرة افتتاحية بمعرض الكتاب، أوّل أمس الجمعة، تحت عنوان «تاريخ المغرب كرصيد متجدّد ومشروع مواطن».
في هذه المحاضرة القيمة، اعتبر القبلي أن تاريخ المغرب يتميز بخصوصياته الممتدة عبر الزمان والمجال? وينبغي أنْ نحملها ونبرزها وندمجها في شخصيتنا حفاظا على الهوية الوطنية.
ومن ثمّ، فإنّ كتابة التاريخ ونشْر وقائعه تُعدّ من أهمّ أدوات مقاومة اندثار الهوية المغربية وذوبانها بفعل تعرضها لمؤثرات متعددة في مقدمتها تيار العولمة? مشيرا إلى أن المجتمع المغربي في حاجة اليوم إلى الإفراج عن ذاكرته? وإدراك خصوصياته التاريخية? لمواجهة خطر الانزلاق الهويّاتي وفق طرق علمية مقنعة.
وقد شكلت المحاضرة مناسبة للقبلي للتعريف بالإصدار الهامّ الذي أشرف عليه المعهد وأخرجه تحت عنوان «تاريخ المغرب: تحيين وتركيب»? وأهم المرتكزات المنهجية والعلمية التي ميّزت الاشتغال على هذا العمل الضّخم? من حيث الشكل والمضمون? وهو العمل الذي اعتبر الأوّل من نوعه في خزانة الكتابات التاريخية بالمغرب.
تاريخ المغرب: قراءة مرتبطة
بثقافة العصْر
أودّ في البداية أنْ أضع كتاب «تاريخ المغرب: تحيين وتركيب» في إطاره الطبيعيّ. ولكي نضعه في إطاره الطبيعي، أعتقد انه يجمل بنا أن ندرجه ضمن رصيد واسع، أوْسع منه بكثير جدا، وذلك حتى نتمكّن قدْر الإمكان من إبراز أوْجه الجدّة في هذا العمل. وتمهيدا لهذا العرْض، ولهذا التوجّه، ربما كانَ من المفيد أنْ نشير إلى بعض المعطيات الأوّلية المتعلقة بالإنتاج التاريخيّ، وأوّل ما يمكن أنْ نذكّر به هو أنّ كل عمل تاريخي يقوم على قراءة، وأن هذه القراءة تكون مرتبطة باستطلاع، ببحث واستطلاع. ومن جهة أخرى، فإنّ نفس القراءة ترتبط بثقافة العصر، وبثقافة المثقفين المستقبلين للعمل التاريخيّ. ومعلوم أنّ هذه الثقافة تتطور، كما أنّ المسلّمات التي تقوم عليها هذه الثقافة، هي الأخرى تتطور. وبالتالي فإنّ الرّصيد التاريخي للمنتوج، الذي يتمّ إنتاجه في عصر ما، لنْ يكونَ شبيها تمام الشبه برصيد عصر آخر. لكلّ عصر إذن رصيده الخاصّ وخصوصيته الخاصّة. ولهذا فسوف ننطلق من هذا السؤال البسيط: ما هي خصوصية رصيدنا التاريخي؟ هذا الرصيد العام منذ أن كتب التاريخ فوق هذه الأرض وفي هذه البلاد. ما هي خصوصية هذا التاريخ؟ أظن أن الجواب يتقضي أنْ نرجع إلى ما يُعرف تقنيا ب»تاريخ التاريخ» (L›histoire de l›historiographie). ولكنْ، ونظرا لتشعّب هذا الموضوع، فإنني سوْف أقتصر على ما هو ظاهر ومعروف ومتداول ومشهور. وما هو مُتداول ومشهور يقتضي أنْ نتبيّن ثلاثة أنواع، وثلاثة أنماط في الكتابة التاريخية منذ أنْ توفّرت هذه الكتابة في المغرب.
الأنماط الثلاثة في كتابة تاريخ المغرب
فهنالك النمط الأصليّ التقليدي الذي وُجد منذ البداية باللغة العربية لأنّ الرّصيد الذي أتحدثُ عنه مكتوب باللغة العربية. ومعلوم أنّ المصادر التاريخية التي أتحدّث عنها، هي أساسا باللغة العربية ظهرت مباشرة مع ظهور الإسْلام. وهو في البداية ينتمي إلى النمط الشّرقي، مقتبس من النّمط الشرقيّ والثقافة الشّرقية وممارسة العمل التاريخيّ به، لأنّ المغرب كانَ امتدادا تاريخيّا للشّرق بالذات. وقدْ بقي هذا النمط مستمرّا إلى أنْ أتتْ الحماية في الحقيقة، مع تنوّع لا بدّ منه وتطوّر طفيف، ولكنْ في الجملة هو نمط متشابه وموحّد يلتقي في نقطتيْن اثنتيْن أودّ أن أشير إليهما نظرا إلى أهميتهما: أوّلا هو يجْمع بين الرّحْلة والسّرْد وتاريخ الأُسر. يركّز على تاريخ الأسر أكثر مما يركّز على التاريخ الاجتماعي مثلا. ومن جهة أخرى، فهو باختصار نمط أدبيّ أكثر مما هو علمي. يجمع أنماطا أدبية ورحْلية وأُسرية، وأحيانا حتى الأرْجوزة الشّعرية، ويعكس في الوقت ذاته بعض مؤثّرات الأسطورة، وبعض مؤثرات الخرافة. يعني فهو يعكس تشرّبه بالأدبيات. ومن جهة أخرى، فإنّ هذا التاريخ من حيث المضمون، من جملة ما يميّزه أنه يبتدئ بظهور الإسْلام، وكلّ ما يسبق الإسلام ينعته بنعْت مستمرّ هو أنّ الأحداث التي وقعتْ قبل الإسلام ينعتها بكوْنها أزليّة، والآثار التي كانتْ وظهرتْ وبقيتْ بالمغرب إلى الآن ينعتها هذا النمط القديم بأنّها أزليّة. ومعنى أزليّ أنه خارج الزّمن، بمعنى أنّ ما هو قبل الإسلام، بالنسْبة لهذا النمط، يُعتبر في الحقيقة خارج التاريخ. لهذا لا يقعُ الاهتمام به بقدر ما يُهتمّ بما وقع بعد دخول الإسلام. وكما هو معلوم، فإنّ هذا النمط لمْ ينقرض بقدوم الأجانب وفرض الحماية. فقد ظلّ مستمرّا حتى مع الحماية، لأنّ الثقافة تستمرّ رغْم تغيّر الأوضاع السياسية لمدّة قد تطول وقد تقصُر، ولكنّ الثقافة لا تنتهي بانتهاء الفترة السياسية، وبانتهاء العصر السياسي. وهذا النمط في حقيقة الأمر لا يزال موجودا إلى اليوم لدى البعض.
بعد هذا النمط الأوّل، التقليدي الراسخ والمتقادم، جاء نمطُ الحماية. ونمطُ الحماية، بطبيعة الحال، له سلبياته وله إيجابياته. إلا أنّ السلبيات معروفة: فهو نمط حاول أنْ يركّز، عند بعض المؤرّخين وليس عند جميع المؤرخين، على بعض الثنائيات، على التعارض بين ثنائيات معروفة: ثنائية العرب والبرْبر، ثنائية الجَبَل والسّهل، ثنائية الحاضرة والبادية الخ. هذه أشياء كوّنت الأرضية الإيديولوجية لهذا التاريخ، وهي تظهر أحيانا بجلاء عند بعض المؤرّخين. وهذا أمر معروف لنْ نطيل فيه، إنّما بالعكس يجب أن نلحّ على إيجابيات هذا النمط. وهي إيجابيات تتلخص أساسا في تنظيم الخطاب التاريخي، وفي عقلنة الخطاب التاريخي والاهتمام بالأصول وبأمّهات المصادر، والاهتمام كذلك بالأرْشيف ونشر هذا الأرشيف ربّما لأوّل مرة، مثلا الأرشيف المحفوظ في دور الأرشيف الأجنبية بالخصوص: في البرتغال وإسبانيا وفرنسا وبريطانيا وهولندا الخ. هذه من الأمور الهامة التي أتى بها النمط الذي تلى نمطنا التقليديّ. لأنه اعتنى بالأرْشيف ونحن نعلم ما يكتسيه الأرشيف من أهمية حيوية قصوى في التعرّف على الواقع التاريخي.
بعد هذا النمط، يأتي النّمط الثالث، وهو نمط فترة الاستقلال. هذا النمط الاستقلالي جاء على مراحل: ففي البداية، بدا وكأنه مجرّد ردّة فعل عاطفية، أي أنّ الناس أخذوا يكتبون لكيْ يظهروا شخْصية المغرب إزاء المحتل، وعوض ما حاول المحتلّ أنْ يفرضه، عوض الثنائية، الوحدة. أي نوع من الجدال والدفاع عن الشخصية المغربية من خلال التاريخ. لكن هذا التوجّه لم يلبثْ أنْ تراجع أمام الإنتاج الجامعيّ، وهذا الإنتاج الجامعي مرّ هو الآخر بمراحل، وأفرز تيارات متعددة لأنّ المغاربة الذين دخلوا الجامعة في الأوّل كانوا قد تكوّنوا في مدارس مختلفة وفي جامعات مختلفة، سواء في الشّرْق أو في الغرب. ولهذا، فإنّ التيارات لم تكنْ موحّدة، إنما بفضل الاحتكاك المستمر، وبفضل اللقاءات والندوات والموائد المستديرة، تكوّن شيئا فشيئا ما يمكنُ أن نسميه ب»مدرسة البحث التاريخي بالمغرب»، وهي مدرسة موجودة إلى اليوم. وهذه المدرسة أنتجت الشيء الكثير، والشيء المتنوّع، واهتمّتْ بالتاريخ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي. لكنْ يلاحَظ مع ذلك، بالنسبة لهذه المدرسة، أنها اهتمت كثيرا بالقرن التاسع عشر. لماذا القرن التاسع عشر؟ أظنّ لأن المؤرّخ حاول أنْ يفهم القرن العشرين من خلال القرن التاسع عشر. ما سبق الحماية، بالنسبة إليه، هو ما يفسّر الحماية. والحمايةُ هي التي ستتفسّر ما يليها، وهكذا. وعلى أيّة حال، هذا شيء ملاحظ، وأغلبية الباحثين اختاروا أن يهيئوا أطروحاتهم عن القرن التاسع عشر.
شيء آخر يتميز به هذا البحث. شيء آخر يتميز به هذا البحث في القرن العشرين، بعد الاستقلال، هو ظهور البحث الأنجلو ساكْسوني الذي يأتي في سياق اهتمام الإنْجليز والأمريكان، وربما إلى حدّ ما الألمان، بتاريخ المغرب، وخاصة التاريخ الحاضر، تاريخ القرن التاسع عشر والتاريخ القرن العشرين، أيْ ما نسمّيه «التاريخ المباشر».
نقْد الدراسات القطاعية
والتجزيئية عن المغرب
هذه هي الأنماط الكبرى التي نتبيّنها في رصيدنا التاريخيّ. وأمام هذا التنوّع، وهذه المادّة، وأمام هذه الدراسات القطاعية المتعددة، التي قام بها المغاربة وقام بها غيرهم، نلاحظ أنه في الجملة عندنا دراسات مجزّأة، وهناك دراسات قليلة تركيبية معروفة: شارل أندْري جوليان، طيراس، برينيون، دراسات تركيبية معدودة. ولكنْ ما يُلاحظ بالنسبة لهذه الدراسات أنها كلها باللغة الأجنبية، وأنها لا تغطّي جميع الفترات بنفس القوة وبنفس الوضوح، وأنها ثالثا، باستثناء مؤلف برينيون، هي مؤلفات فردية، أي أنّ كاتبها شخص واحد. وحتى عند برينيون فإنّ عدد المؤلفين فيه محصور جدا. فعندما تأسس المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، كان عليه أن ينطلق من هذا الواقع. كان عليه أن يقوّم الواقع لكيْ يتعامل مع هذا الواقع. بعبارة أخرى، كان عليه أن يتعرّف على هذا الرصيد، ويدرسه بدقّة، فتمت هذه الدراسة، وانطلاقا من هذه الإشارات التي حاولتُ أنْ أشير إليها بسرعة، نظرا لوفرة المادة وضيْق الوقت، انطلاقا من كل هذا اختار هذا المعهد الملكي، الذي تأسس في نهاية 2005، أنْ يبدأ بوضع تاريخ تركيبيّ شامل، وأنْ يضعه ولأوّل مرة، في شموليته باللغة العربية، وأنْ لا يكتفي بالعربية نظرا للإشعاع خارج المغرب، ارتاينا أنْ نكتب كتابين، أحدهما باللغة العربية والثاني بالفرنسية، على أنْ يشمل هذا التاريخ مجموع الفترات، بلْ إنه ينطلق من العصور الجيولوجية، ينطلق من تاريخ تكوّن الأرض، تكوّن المجال، تكوّن التضاريس. قبل أنْ يدرس الأحداث التي وقعت فوق هذه الأرض. هناك فصل خاص بتارخ المجال، وهذا شيء في حدّ ذاته جديد بالقياس إلى الدراسات السابقة. والأمر الآخر الجديد هو أنّه مؤلَّف جماعيّ، بل إن عدد المشاركين فيه لا يكاد يُصدّق. لماذا؟ لأننا اخترنا أنْ نتعامل مع التاريخ لا منْ خلال البحث التاريخي وحده، ولكنْ بالاعتماد على البحوث الاجتماعية بوجه عامّ. من هنا دعونا زملاءَ لنا في الجغرافيا، وزملاء في علم الاجتماع، وزملاءَ في الاقتصاد وفي الأنثروبولوجيا والهندسة المعمارية وفي اللسانيات. وهي تجربة جديدة في حدّ ذاتها، لا في المغرب فقط، بل حتى بالنسبة لشمال المغرب والمشرق العربيّ. وبعد عمل اللجان، كونّا لجنة تحرير مصغّرة، تكلفتْ بإنتاج هذا العمل في لغتيه. والكتابان معا ليس أحدهما ترجمة للآخر، وإنما كلّ واحد مكتوب بروح لغته، ولكن المادّة هي نفسها. هذه التجرية كذلك هي قراءة مغربية، بحيث أنّ الذين ساهموا في تأليف الكتاب جميعهم مغاربة، وهي قراءة من الدّاخل تتحقق للمرّة الأولى. كنا نعتمد على قراءة من الخارج، أو قراءة مشتركة بين الداخل والخارج، وهي قراءة جلّ الباحثين المغاربة، كما تعرفون يكتبون باللغة العربية، ورغْم أن البعض يتحدث الفرنسية ويناقش بها، لكنه لا يكتب إلا بالعربية. هذه الدراسات التي كُتبت خلال فترة الاستقلال غير موظفة في الدراسات الفرنسية ولا الإنجليزية، من طرف الإنجليز أو الأمريكان. فقليل منهم من يقرأ العربية. وبالتالي فإنّ الدراسات المكتوبة باللغة العربية غير موظّفة في التصوّر التاريخي للمغرب. بالنسبة لدراستنا، فإنّ هذه الدراسات موظفة في اللغتين، العربية والفرنسية، في التصوّر التركيبي. معنى هذا أنّ إنتاجنا سيُعرف خارج المغرب، أوّلا، وثانيا حتى لا تبقى تلك الدراسات العربية على الهامش، وبالتالي هذه خطوة للاعتماد على الداخل أكثر.
هذا ما يتعلق بالسّمات الخارجية إذا شئنا، غير أنّ لمضمون هذا الكتاب مضامينَ من الجدة أكثر من الجوانب الشكلية. ومن بين هذه الجوانب أنّ هذه الدراسة حاولتْ أنْ لا تقتصر على تاريخ الأُسر. لماذا؟ لا يتعلق الأمر بأسباب إيديولوجية أو غيرها، ولكن لأننا، كما هو الشأن عند غيرنا، نعتبر أنّ الدولة إنتاج، الدولة جزء من المجتمع. ولهذا ينبغي أن تدرس من خلال قضايا المجتمع. وهذا ما تبنّيناه، وأساس العمل عندنا ليس هو الأسر وإنما هو المجال: ما هو المجال؟ ما هي خصوصياته؟ ولماذا هذه الخصوصيات؟ وبالتالي، فإننا سنوظّف هذا المجال في جميع الأحداث، خصوصا وأنّ المجال في المغرب معروف ومتضامن مع المجالات المتجاورة: مع المجالات المغاربية، ومع مجالات إفريقيا الشمالية، دائما كنّا في أخذ وردّ، ومدّ وجزر، وفي تفاعل مع هذا المجال الأوسع. كلما احتُلت منطقة من هذه البلاد الواسعة، بلاد المغارب بالخصوص، إلا وانتشرت الآثار في جميع بلدان شمال إفريقيا. هذا صحيح لما قبْل الإسلام ولما بعده، كالدّولة الفاطمية أو الدولة المُرابطية أو الدولة الموحّدية أو المرينية، فدائما كان هنالك انجداب، لأنّ لهذا المجال مغناطيسيته، له منطقه وله جدليّته.
المجال المغربي متفتّح على مجالات أخرى، وبالجنوب ما وراء الصحراء. وهذا من الأمور الجديدة التي لا نجدها الكتابات السابقة التي لا تتعامل مع المجال بهذه الطريقة. هذا الاعتماد كانتْ له تداعيات على مستوى فهم عدد من الأمور: على فهْم العلاقة بين القطيعة والاستمرارية، مثلا. حاولنا انطلاقا من المجال أنْ نفهم وننسّب علاقات الدول المغربية المتعاقبة فيما بينها. فالقطيعة مُنسّبة: هناك امتدادات بين المرابطين والموحّدين والمرينيين والسعديين والعلويّين. هناك خيوط ناظمة تجعل مسألة المرور من دوْلة إلى دولة غيْر عبثية، وتأتي بصفة لا معنى لها. كذلك أبرزنا أنّ القطيعة بين الدولة المغربية والدولة العثمانية قطيعة نسبية. وهي نسبية بحكم علاقة المجال المغربي بالمجال المجاور في الشرق المتوسط وحضور العثمانيين بالمتوسّط وصراعهم مع الإسبّان. هذه الأشياء معروفة. وهذه أشياء حاولنا أن نراجعها من خلال الأهمية التي أوليناها للعنصر المجاليّ.
مسألةُ التنسيب استتحضرْناها كذلك بالنسبة لمغْرب الاستقلال مع مغرب الحماية. فهناك خيوط واصلة بين المغربيْن. فالحاضر ينبغي أنْ يُفهم في ضوْء الامتدادات، وفي ضوء الأبعاد التاريخية البعيدة جدا. وفي هذا الإطار ينْبغي أنْ أشير إلى مقاربة استحدثناها، فيما يخصّ الامتداد بين تاريخ الحماية وبين تاريخ الاستقلال، أيْ ما يُسمى بالتاريخ المباشر. ولنْ أخفيََ عليكم أنّ هذا الشّقّ من تاريخ المغرب استوقفنا طويلا لأنه قريب منّا، والمؤرّخ يكره القرب من الأحداث. المؤرّخ يحاول دائما أنْ يضع مسافة بينه وبين الحدث. فكيف نضعُ مسافة بيننا وبين أحداث وقعتْ في منتصف القرن العشرين، أو ما بعد منتصف القرن العشرين.
مقاربة جديدة لتاريخ المغرب
من هنا اضطُررنا إلى استحداث مقاربة جديدة ألخصها فيما يلي: أننا نظمنا عدة حلقات موسمية، جمعنا فيها، للمرة الأولى أعتقد، بين المقاوم والمؤرّخ، جمعْنا بين بعض الوطنيّين وبعض المقاومين، ولنْ أذكر هنا أيّ اسْم، وبين بعض المؤرخين المختصين في هذه الفترة. تمّ تحديد الأسئلة المتعلقة بالنقط الغامضة، وبنقط الظلّ بكل دقة. تمّ تسجيل الشهادات المعيشية بالصوت، وأحيانا بالصوت والصورة، وسوف ننشر عما قريب مختلف المسائل التي استخرجناها من هذه الشهادات والتسْجيلات. لكنْ في انتظار أن تُنشر، قمنا بتوظيفها في هذا المؤلّف. ولعلّ القارئ الذي سيعود إلى الفصل العاشر من الكتاب سوف يُلاحظ تعاملا هادئا ومريحا ومحايدا مع أحداث هذه الفترة. ومن بين الأصداء التي بدأت تصلنا أن هذا الفصل هو أهمّ ما في الكتاب. وأعتقد أنها مقاربة مُجْدية جدا. فالمقاوم والشاهد يشارك في تفسير الأحداث؛ والمؤرّخ يستعين بهذه الشهادة، لكنْ بطرق معيّنة، مع أخذ الاحتياطات والاعْتماد على المقارنة بالخصوص وتقاطع الشهادات واستنتاج ما هو متّفق عليه وإبعاد ما هو قابل للمناقشة. هذه من بين الأمور الجديدة في هذا العمل.
تحدثتُ بإيجاز عن كيفية تعاملنا مع المجال، أيْ مع المكان إذا شئنا، أما الآن فسوف أشير إلى كيفية تعاملنا مع الزّمان، كيف تعاملنا مع الزمان المغربيّ منذ أنْ كان؟ وقد حاولنا هنا أنْ نُخْضع الزّمان إلى الوقائع والخصوصيّات المغربية. سأعطي بعض الأمثلة: جميع الدّراسات التي سبقتنا، مثلا، تتحدث في الغالب عن طريق الدول، تعاقبت الدول، وتقف عند نهاية المرينيين، وتتحدث عن بداية الأزمات. نحن لمْ نتعامل مع الزّمان المغربي بهذه الطريقة. تعاملنا معه من خلال قرون. وقفنا عند القرن الخامس عشر، لأنّ الخامس عشر ابتدأ باحتلال نقطة أساسية في التراب المغربي، لأول مرّة، هي مدينة سبتة، وهي إلى اليوم لا زالتْ محتلة، منذ سنة 1415، أي في بداية القرن 15 للميلاد. وقد اعتبرنا هذا القرْن بمثابة بداية التحوّل، بداية النهاية إذا شئنا. وهو القرنُ الذي سيهيّئ من بعيد لمرحلة الحماية. هو قرن الأزمات، قرن التحجّر، وقرن الصراعات والانشقاقات، وقرن احتلال الشواطئ المغربية كلها تقريبا، سواء الأطلسي أو المتوسطي، من طرف البرتغال بالدرجة الأولى. هذا القرن عزلناه بخلاف ما هو معمول به في الدّراسات الأخرى، واعتبرناه بالأساس قرْنا تحوّليا. وهو الذي سيفسر ما يلي. نفسُ الشيء كذلك بالنسبة للقرن التاسع عشر، تعاملنا معه بالطريقة نفسها، لأنه هو آخر مرْحلة قبل أنْ يُحتل المغرب لأول مرّة. وهو قرْن اعتبرنا أنه يبتدئ في نهاية القرن الثامن عشر، وينتهي في بداية القرن العشرين، وبالضّبط في سنة 1912. هو الذي هيّأ للاحْتلال. هذه من بيْن المستجدّات. وهذا التعامل مع الزّمان المغربيّ جعلنا نغيّر المحددات، أيْ المعالم التي تحدّد الفترات التاريخيّة، انطلاقا من واقعنا نحن لا من واقع غيرنا. أنتمْ تعلمون أنّ نهاية العصْر الوسيط تنتهي عند الأوروبيّين باحتلال العثمانيّين مدينة قسْطنطينية وسقوط بيزنطة، أي سنة 1453. نحنُ اعتبرنا أنّ نهاية العصْر الوسيط تتلاقى وتصادف احتلالَ مدينة سبتة قبل هذا التاريخ بما يفوق أربعين سنة، 1415، هو نهاية العصْر الوسيط بالنسبة إلينا. ونفس العصر الوسيط عندنا لا يبتدئ بنهاية القرن الخامس، كما هو الحال عند الأوروبيين، بل إنه يبتدئ بدخول الإسلام في نهاية القرن السابع للميلاد.
علاقة التاريخ بالمواطن
عندنا خصوصيّات ينبغي أنْ تظهر وأن تتجلى حتى في تعاملنا مع الحاضر. لنا تاريخ ولنا خصوصيات ينبغي أن نحملها وندمجها في خصوصيتنا. وهنا أودّ أن أقول كلمة حول علاقة التاريخ بالمواطن. إنّ كتابة التاريخ، كما قلت في البداية، تتأثر بثقافة العصْر، بالفترة التي يُكتب فيها. هذا أمر مفروغ منه، فهذا الكتاب، مثلا، لم يكن لنكْتبه قبل خمسين سنة، لأنّ الظروف الثقافية للمثقف المغربيّ لمْ تكنْ متوفرة لكتابة مثل هذه الأمور. فثقافة العصر توجّه الخطاب التاريخي أحببنا أمْ كرهنا. لكنها توجّهه مع أخْذ المسافة. هو خاضع لتيارات معينة، لكنه واع بخضوعه إذا صحّ التعبير. فخلال فترة هذا العصر، نهاية القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، تمّ الإفراج عن الذاكرة المغربية. وأصبح الناس يتكلمون عن الحاضر والماضي، ويربطون بيْن الحاضر والماضي: صحف، إذاعات، رجُل الشارع، المثقفون الخ. هذه ثقافة تجلّت، من بين ما تجلت فيه، في تأسيس «المجْلس الوطني لحقوق الإنسان»، في تكوين «هيئة الإنصاف والمصالحة»، في تأسيس «المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية»، ولمَ لا في تأسيس «المعْهد الملكيّ للبحث في تاريخ المغرب». هذه مؤشرات تدلّ على أننا أمام ثقافة جديدة، ثقافة البوْح، ثقافة الكشْف والاكتشاف. لذلك حاولنا الربط بين العمل التاريخي وبيْن توعية المواطن. مثلا في هذا الكتاب، وبخاصّة في النّسْخة الفرنسية، نكتُب كلمة سبتة باللاتينية Sebta في كلّ الكتاب، باسْتثناء في البداية كتبنا مقابلها Ceuta حتى يفهم القارئ الغربيّ، وبعد ذلك كتبنا «سبتة». نفس الشيء مع كلمة Melilia. لأننا نعتبر أنّ هذا مباح وجائز بالنسبة لإنسان يطالب بحقّه في استرجاع مدينة من مدنه. نحتفظ لهذه المدينة بهوّيتها. هذه اختيارات لا تمسّ عمْق البحْث التاريخيّ ولا الحقيقة التاريخية. بلْ بالعكس إنها تردّ الحقيقة التاريخيّة إلى نصابها.
ينبغي في ظلّ العولمة الجارفة والقويّة أن ننشر تاريخنا بطرق علميّة، وبطرق مقنعة، وأن يصبح النشء واعيا بخصوصياته. هناك خطر كبير نلاحظه جميعا على جميعا المستويات، أمام الشباب وغير الشباب، خطر الانزلاق وذوبان الشخصية المغربية. ومن جملة وسائل مقاومة هذا التيار هنالك التاريخ.
ملحوظة: التقديم والعناوين من وضْع «هيئة التحرير».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.