حين أعلن التاريخ عن انتمائه للبحث العلمي في القرن التاسع عشر، أعلن عن اختلافه عن علم الاجتماع لأن هذا الأخير يدرس الحاضر ويسعى إلى التوصل إلى قوانين، وعن الفلسفة لأنها تُسقط نظريات جاهزة على تصور الماضي، وعن الأدب لأنه يكتب التاريخ بطريقة تفسح المجال للخيال. وعلى عكس ذلك، أعلن رواد المدرسة الألمانية أن التاريخ يعمل على استعادة الماضي «كما وقع بالفعل». وخلال العقود الأخيرة، أصبح من قبيل البديهيات عند باحثينا أن التاريخ تصالح مع علم الاجتماع بفضل الماركسية وعلم الاجتماع التاريخي الألماني (ماكس فيبر، ونوربير إلياس) ومدرسة «الحوليات» الفرنسية، وفرض بعض المفكرين مصالحة التاريخ مع الفلسفة، مثل ميشيل فوكو الذي تناول بالدراسة مواضيع ذات سمة تاريخية مثل الجنون والإقصاء والجنسانية، أوبول ريكور الذي أخضع المعرفة التاريخية للمقاربة التأويلية، أو عبد الله العروي الذي تناول الفكر العربي والثقافة التاريخية العربيين من منظور النقد الإيديولوجي وفهم معين للتاريخانية. غير أن ما لم ينتبه إليه عدد من باحثينا، هو أن هناك إمكانيات خصبة لمصالحة التاريخ مع الأدب. ومن أجل البرهنة على ذلك، سوف ننطلق من تجربتنا الشخصية، وهي تجربة متواضعة ركزت على مساءلة بعض أنواع المصادر الأدبية والتاريخية التقليدية ، ومع ذلك فهي تجربة قد تساعد على رسم بعض آفاق الاشتغال من أجل استثمار البعد الأدبي واللغوي في علاقة المؤرخ مع مواضيعه ووثائقه. وقد ارتأينا أن نرتب أفكارنا حول ثلاثة محاور. كيف يمكن للمؤرخ أن يتعامل مع الوثيقة التاريخية باعتبارها نصا، ومع النص الأدبي باعتباره وثيقة تاريخية، ومع الظاهرة الأدبية باعتبارها موضوعا تاريخيا؟ ولا بد في البداية أن نوضح أننا نستعمل مصطلح الأدب بشكل واسع، إذ يشمل المتن الأدبي والمقاربة الأدبية واللسانية والسيميائية. الوثيقة التاريخية باعتبارها نصا المنطلقات سوف ننطلق من مرجعين محددين، وهما كتاب «النفوذ وصراعاته في مجتمع فاس» (2007)، والكتاب الجماعي «التاريخ واللسانيات. النص ومستويات التأويل» (1992)، ولاسيما مساهمتنا التي تتناول موضوع الخراب في الأدب الجغرافي الوسيط. يميز المؤرخون عادة بين وثيقة الأرشيف، وبين المصادر الأدبية ومن بينها الكتابات التاريخية ومصنفات أخرى من جغرافيا ورحلة وفقه وغيرها. ونلاحظ أن صفة الكتابة «التاريخية» كثيرا ما تُخصَّص لكتب تاريخ الدول والحوليات السلطانية، بينما كانت الثقافة العربية الإسلامية تقصد بالتاريخ كل المواضيع التي تقوم على عامل الزمن، وبالتالي فالتاريخ يهم كذلك تواريخ المدن وآداب التراجم والمناقب والأنساب. وحين يوظف المؤرخ كافة هذه الأجناس، فهو يتعامل معها كوثائق تفيده بقدر ما توفره من معطيات، وبالتالي فالمؤرخ يقرأ هذه المصادر قراءة اجتزائية يغيب فيها البعد النَّصي الذي يعتبر من قبيل الشكل لا غير. بدأت تجربتنا بأدب الأنساب، ومن سؤالين متراكبين، وهما سؤال كتابة الأنساب كجنس اسطوغرافي أي خصائص كتابة الأنساب، وسؤال آليات التراتب الاجتماعي من خلال نموذج مدينة فاس، وسلالات الشرفاء والأعيان كما تقدمها كتب الأنساب. وبالتالي لم يكن غرضنا هو البحث عن معطيات تهم هذه السلالة أو تلك، بل كان غرضنا هو تفكيك مفاهيم مثل النسب والحسب والشرف. وهكذا حاولنا أن نمسك ببنية النص النَّسبي من خلال عدد كبير من النماذج. وتبين لنا أن هناك بعض المفاتيح التي تسلط الضوء على مضامين النص من خلال شكله (رولان بارط). النص ومنطقه الداخلي نتوصل إلى المنطق الداخلي لنص الأنساب بعد التقاط عدة مكونات، مثل المعجم، وترتيب الوحدات، ووسائل الإثبات، والنموذج النسَبي. ففيما يخص معجم النسب، نكتشف مثلا أن كلمة القبيلة كانت لا تقتصر على مجتمع البادية، بل تستعمل كذلك في المدينة، ومعناه أن القرابة في المدينة تقترن هي أيضا بآليات السلطة الاجتماعية والتفاوت والتضامن. وتميز النصوص بين عامة الشرفاء وأعيان الشرفاء ذوي العصبية والجاه. وكان مصطلح «المتشرفة» يطلق خلال عصر الدولة العلوية على عائلات تدعي الانتماء للنسب الشريف دون ما يكفي من أدلة، وكانت الدولة المخزنية تمنحهم هبات تساوي ما كانت تستفيد منه عائلات عامة الشرفاء. وفيما يخص ترتيب وتسلسل فروع الشرفاء، تكشف العودة إلى جذور أشجار النسب أن تخصيص صفة «أهل البيت» لذرية الحسن والحسين بدأ مع قيام السلطة الشيعية في مصر، وأن انطلاق شجرة «أهل البيت» من فاطمة الزهراء، ومفارقة الانطلاق من امرأة في نموذج ثقافي أبيسي، أثارا نقاشا بين الفقهاء حول استمرار صحة النسب الشريف من جهة الأم. وعندما نحاول أن نصنف وسائل إثبات النسب، تقول النصوص إن نقباء الأشراف يعتمدون على وثائق مكتوبة، وفي غيابها يلجأون إلى الشهادة الشفهية والرؤيا التي يرى فيها صاحبها في المنام النبي جد الشرفاء وهو يخبره بمقدم حفيده فلان. وأخيرا نلاحظ أن ملامح الجد المؤسس لعائلات الشرفاء والأعيان تشير إلى التداخل بين النفوذ الديني والنفوذ الاجتماعي. تعبر مسارات عائلات الشرفاء والأولياء في حالات كثيرة عن الانتقال من النفوذ الديني إلى النفوذ الاجتماعي، ويحصل العكس عندما تلجأ عائلات التجار إلى إقامة علاقة المصاهرة مع الشرفاء والعلماء. النص ووظائفه الاجتماعية يؤرخ أدب الأنساب للقبائل وسلالات الشرفاء والأعيان، لكنه كان يقوم في آن واحد بوظائف ملموسة داخل سياقه الاجتماعي والسياسي. فهو على سبيل المثال أداة مراقبة بالنسبة للدولة المخزنية، وأداة دفاع وتأكيد الذات بالنسبة للشرفاء. ويمكن تعميم هذا التحليل على باقي الأجناس الاسطوغرافية. فأدب المناقب مثلا يركز على عنصر الكرامة الصوفية، لأنها تدعم السلطة الرمزية للولي، ومن شأن هذه السلطة الرمزية أن تتحول إلى سلطة اجتماعية واقتصادية وسياسية حين تنتقل شهرة الولي إلى سلالته في شكل زاوية يمتد نفوذها في مستوى جهوي أو وطني، وحين يصبح موسم الزاوية أكبر تجمع سنوي وأكبر سوق تجاري في مجتمع يعاني من بطء النقل وأخطار الطريق. وكُتب الحوليات السلطانية تمجد في الغالب حكم السلاطين، لكنها في آن واحد تعيد بناء الأحداث بشكل يرسخ مشروعية الدولة المعنية، وتعطي دروسا في الحكم للعاهل الذي يعاصره المؤرخ (وفق مرجعية الآداب السلطانية). النص وتداخل الأجناس يقودنا فهم منطق أجناس التاريخيات التقليدية إلى مفارقة حقيقية. فبقدر ما يتميز كل جنس بخصوصية عناصره وبنائه الداخلي، بقدر ما تظهر أشكال التداخل بين مختلف الأجناس. وقد توصلنا في دراسة سابقة إلى أن هناك أجناس موضوعاتية تقوم هويتها على موضوعاتها (تاريخ الدولة، والمدينة، والفقهاء، والأولياء، والمذاهب، الخ.)، وهناك في مستوى آخر أجناس لها هويتها الموضوعاتية، لكنها إلى جانب ذلك ترتبط بمفاهيم تؤطر مجموع الكتابات التاريخية الأخرى. لقد اقترحنا بنية عامة تقوم على ثلاثة أجناس / مفاهيم مؤطرة، وهي النسب والمنقبة وقيام الساعة، ومعناه حضور مفاهيم ومعطيات هذه الأجناس خارج كتب الأنساب والمناقب وأشراط الساعة. ويظهر ذلك مثلا في أن تاريخ المدينة يتم اختزاله في مناقب مؤسسها وأنساب بيوتاتها وتراجم رجاله، وتاريخ الأسر الحاكمة يركز على تسلسل نسب الملوك، ومناقبهم، ويحكي فصول «الفتن» على أنها إيذان بقيام الساعة (انظر مساهمتنا في المؤلف الجماعي «الكتابة التاريخية في المغارب»، تنسيق عبد الرحمن المودن، عبد الرحيم بنحادة وعبد الحميد هنية، 2007). النص الأدبي باعتباره وثيقة المنطلقات إذا كنا قد حاولنا فيما قبل أن نبين فائدة إعادة الصفة الأدبية/ النصية إلى الكتابات التاريخية التقليدية، فإننا سوف نبين الآن فائدة استثمار الصفة الوثائقية للنص الأدبي الذي لا ينتمي مبدئيا لمجال التأليف التاريخي. ولا تخلو تجربتنا في كتابة تاريخ الشاي بالمغرب (بالاشتراك مع عبد الرحمان لخصاصي) من مؤشرات واعدة. لم يثرنا في موضوع الشاي جانبه الاقتصادي، بل أغرانا فيه تاريخ الحياة اليومية، وهو تاريخ الثقافة بمعناها الأنثروبولوجي، إلى جانب الأشكال التعبيرية التي تكشف عن علاقات معقدة بين الثقافة «العالمة» والثقافة «الشعبية» («من الشاي إلى الأتاي»، 1999، الطبعة الثانية: 2012). لم نحك تاريخ الشاي، بل فسحنا المجال لمختلف لخطابات التي تحكي ذلك التاريخ من خلال مصادر تاريخية وغير تاريخية. وهكذا توصلنا إلى هندسة الكتاب وفق أربعة محاور: - نصوص مشهدية تجعلنا نتتبع أطوار دخول الشاي إلى المغرب، وتبين التناقض بين نصوص الرحالة الأوربيين الحاملة لصورة نمطية تسجل الانتشار السريع لطقس لشاي عبر المجتمع المغربي، وبين نصوص مغربية مختلفة تبين البطء الكبير الذي عرفه انتشار المشروب الجديد. - نصوص فقهية / معيارية تكشف عن المقاومة التي لقيها الشاي من طرف بعض الفقهاء والدفاع عن المشروب الجديد من طرف آخرين. - نصوص طبية تقليدية تتناول المشروب من زاوية المنافع والمضار. - نصوص شعرية وغنائية تؤكد قوة حضور المشروب داخل المخيال الجماعي. لكن الأهم هنا هو أن منطلق كتابنا كان عبارة عن قصيدة شعرية مطولة بأمازيغية تاشلحيت تعود كتابتها إلى سنة 1895 ، ومؤلفها هو براهيم نايت إخلف، شاعر مغمور من آيت باعمران. تتميز القصيدة بجمالية الصورة الشعرية، وبقوة التكثيف في سياق التعبير عن دلالات الشاي في التجربة الإنسانية لسكان المناطق الجنوبية في تلك الحقبة. فالشاعر يصف جمالية جلسة الشاي جاذبيته، ونخبوية المشروب الجديد الذي لم يكن آنذاك في متناول العموم، واستخدام الشاي كأداة للتسرب الاستعماري الأوربي. ولعبت القصيدة دور النواة لمشروع كتابنا لأنها دلتنا على أسئلة أساسية تخص المفارقات التي تحيط بتاريخ الشاي، ومن بينها تبني الثقافة المغربية لمشروب دخيل تحول إلى عنوان للهوية الجماعية في الداخل والخارج. مجاز البنية الاجتماعية كتب نايت إخلف: «الفحم منار والسموفر يُعلن الآذان، والإبريق يُقيم الصلاة واصطفَّت الكؤوس، والآنية مُصلَّى، وما قول الفهيم؟» وكتب في مكان آخر: «إنما تروق الآنية لمن تأثَّل وقدر الآنية والإبريق والكأس قوامها بيد الجواد للشيوخ والقواد والقضاة وحدهم قوامة الأواني والملك يقدر عليها من كثرة ما يُهدى له أيتها الآنية حُزت حُسنا، غير أنك حكر على المالك المتموِّل» ولم يكتف المجاز بتصوير التراتب والسلطة في عصر هذا الشاعر، بل اشتغل في وقت لاحق بعد أن طرأت تحولات على البنية الاجتماعية. فبعد أن كان الشاي مشروب النخبة، أصبح مشروب العائلة. ثم بدأت صيرورة تفكك العائلة في النصف الثاني من القرن العشرين، فجاءت قصيدة الصينية لناس الغيوان لتسجل رمزية التحسر على ضياع قيمة العشيرة والتكافل: «أيا ندامتي ويا ندامتي مال السكار عكز يزول هاذ المرورا مال كل حاجا معبورا مال ذاتي هكذا مهجورا منكورا مقهورا أه يا الصينية» ثم جاء نص نثري- شعري لعبد الله زريقة ليسجل من خلال الشاي تراجع سلطة الأب: «واليد. يد البراد من يرفعها؟ لم أر سوى أبي ولم أر سوى آباء يولون أمر إعداد الشاي ورفع تلك اليد بالضبط. يد الأب، حيث كان «الشمل» قائما بكل اشكاله في الدار المغربية. لم يكن احد يجرؤ على وضع الصينية حول رجليه (...). وسنرى فيما بعد، حين انفصلت نغمة الصينية عن نغمة الأرض، كيف سقطت تلك اليد، وبدأ الكل يجرؤ على مسها. وكيف أصبحت الصينية مربعا أو مستطيلا من البلاستيك أو المعدن. ثم كيف أصبح الشاي يعد في مكان خارج الجماعة. لقد انفصلت يد البراد عن فمه بالضبط. وأصبح الكلام مستطيلا أو مربَّعا هو الآخر. ولا يجد شيئا دائريا يدور حوله». مجاز الحلال والحرام ذا كانت الصينية قد ألهمت عددا من الشعراء الذين جعلوا منها مجازا للمجتمع المغربي، فإن صور كأس الشاي تحيل بشكل معبر عن ثنائية الحلال والحرام. واللافت أن معظم النصوص التي تمكنا من رصدها، وهي تدافع عن الشاي، ترد على نصوص غائبة كانت فيما قبل تحارب انتشار المشروب الجديد. كتب المدافعون عن الشاي قصائدهم على نمط شعر الخمريات، لذلك استحق شعرهم نعته ب»أدب الشايات». وبدأ ظهور هذه الكتابة في دائرة شعراء البلاط في عصر السلطان سليمان على ما يبدو، ثم تلاهم شعراء آخرون ينتمون إلى أوساط التصوف. وقد تغنى الشعراء بجمالية جلسة الشاي، ودافعوا عن المشروب الجديد على أساس علاقته بشرب الخمر. فالشاي مشروب حلال عوض مشروبا حراما، وكأس الشاي يشبه كأس الخمر من عدة أوجه.هي في آن واحد علاقة تعويض وتشابه. كتب سليمان الحوات: شربنا من الأتاي كل معتق شرابا حلال لا نبيذا ولا خمرا على أنه أحلى وأعذب منهما ولا يُذهب العقل النفيس به سُكرا فلَوْ كان في عصر الرشيد أو ابنه لما اكتسبا بالشرب إثما ولا وزرا وقد وجدنا صعوبة في البحث عن أشعار تدعو إلى تجنب شُرب الشاي، ووجدنا عوض ذلك نص فتوى فقهية من منطقة شنكيط (موريتانيا الحالية). تقول الفتوى إن الشاي حرام، وتذكر من بين أدلتها: «وذكر أنهم يجتمعون عليها ويدورونها كما يدورون الخمر، ويصفقون وينشدون الأشعار من كلام القوم، فيه الغزل وذكر المحبة وذكر الخمر وشربها، فيسري إلى النفس التشبه بأصحاب الخمر، خصوصا ممن كان يتعاطى ذلك، فيُحرَّم حينئذ شربها مع ما ينضم إلى ذلك من المحرمات. ولا شك أن كثيرا من أهل الأتاي يفعل ذلك في بعض الأحيان لأني رايتهم يشربونها في كأس واحد، ويدورونها عليهم كما يدورون الخمر إن لم يجدوا غيرها، ويتجمعون عليها ويذكرون أشعار القوم عليها ويُنشدون أشياء من شعر الجاهلية، فيها ذكر الخمر وشربها». الظاهرة الأدبية باعتبارها موضوعا المنطلقات عوض أن نعتبر الإنتاج الأدبي كسلسلة من المؤلفين والأعمال والأجناس والمضامين، سوف نقترح الآن عددا من الأسئلة التي تنطلق من تصور آخر يتصل بالقضايا الجديدة التي طرحها تاريخ الكتاب. لم يعد الإنتاج الأدبي موضوع قراءات تقتصر على مضامينه المعلنة، بل تم إدماج الكتابة والقراءة داخل حقل التاريخ الاجتماعي، وبالتالي أصبح الكتاب جزءا مما يسمى أحيانا ب»تاريخ الممارسات الثقافية». ما هي إمكانيات محاورة هذا الاتجاه الجديد؟ النسق التقليدي ينبغي أن نعود إلى سؤال أول يعيد النظر في بعض المسلمات. ماذا يعني الأدب في النسق الثقافي التقليدي الذي ظل سائدا إلى حدود مرحلة الحماية؟ وما هي خصوصيات المغرب بالنسبة لبعض الفرضيات التي تم اقتراحها في مجال الدراسات العربية- الإسلامية؟ أولا- هناك مفهوم الأدب. هل عكست وظيفة الأدب المغربي في وقت معين التعريف الذي أعطاه أندري ميكال للأدب العربي في المرحلة الكلاسيكية، على أنه كتابة تشبه ما يسمى حاليا ب»الثقافة العامة»، وتسعى إلى توفير ثقافة موسوعية لكتاب الدواوين ؟ إلى أي حد تأثر الأدب المغربي بهيمنة الثقافة الفقهية ؟ ثانيا- فيما يخص العلاقة بين الشفهي والمكتوب، إلى أي حد ارتبط المكتوب بما هو مقدَّس وما هو معياري ؟ وإلى أي حد عرف المغرب الاشتغال الشفهي للمكتوب؟ فمعلوم أن هذه الظاهرة تتضح على ضوء العلاقة البنيوية بين عدة عوامل، وهي غياب الطباعة، وندرة الكتاب المخطوط، وقيام التعليم والسلطة العلمية على الرواية والانتقال الشفهي للمعرفة. الاستعمار وصدمة المثاقفة يبدو لنا أن مرحلة الحماية عرفت عددا من التحولات الحاسمة التي تستحق التعميق من خلال دراسة نماذج معبِّرة. أولا- حين نتأمل العلاقة بين الكتابة الأدبية والكتابة التاريخية خلال المرحلة الاستعمارية، يظهر أن الحقل الأدبي هو الذي ساهم بشكل أقوى في تحديث الوعي التاريخي. ثانيا- عرفت هذه المرحلة إعادة الاعتبار للأدب الشفهي. فكثيرا ما نعتبر أن هذه الصيرورة مجرد جزء من معرفة مرتبطة بالإدارة الاستعمارية ، ونُغفل أن عددا من الباحثين الفرنسيين شغفوا بالأدب العربي العامي والأمازيغي في إطار تيار أكاديمي كان يسعى إلى دراسة المتن الشفهي في علاقة مع الإثنوغرافيا ودراسة الفولكلور، سواء في أوربا أو في المستعمرات، من أجل إنقاذ تراث محكوم بالاندثار في سياق التصنيع والتحديث الاقتصادي بشكل أعم. ونغفل كذلك أن كبار المؤرخين المغاربة حذوا حذو الباحثين الفرنسيين والإسبان، دون أن يتوفروا على ما يتطلبه التكوين الجامعي الملائم، ولذلك عكفوا على جمع معطيات ثمينة في مجال العوائد والأمثال الشعبية وشعر الزجل. ولن تكتسب الثقافة الشفهية مكانتها الاعتبارية الكاملة إلا في سياق الاهتمام الجديد ب»الثقافة الشعبية» مع إعادة النظر في ثقافة الحركة الوطنية خلال النصف الثاني من ستينيات القرن الفارط (انظر مجلة أنفاس). ثالثا- ألهمت ذاكرة مرحلة الحماية جزءا هاما من الإنتاج الروائي المغربي الجديد. نلاحظ مثلا أن المجتمع المغربي خلال الأربعينيات حاضر بشكل قوي في أعمال سجلت التحولات التي عاشها مجتمع المدن في فاس (عبد الكريم غلاب، ومحمد برادة، وفاطمة المرنيسي، وأحمد المديني، وعبد اللطيف اللعبي)، أو الدارالبيضاء (إدريس الشرايبي، مبارك ربيع)، أو عاشتها البادية كما هو الشأن في أعمال محمد شكري. ذاكرة مقاومة الاستبداد وننتقل الآن من الكتابة الأدبية التي تسترجع مرحلة الحماية إلى كتابة تسترجع التوترات السياسية التي عرفها المغرب بعد الاستقلال، وعلى الأخص في سياق ما سمي ب»سنوات الرصاص». لقد أصبح أدب الاعتقال يشكل متنا أدبيا هاما. وتطرح دراسته بعض الأسئلة الأساسية. أولا- سياق التحفيز والتلقي. استفاد تراكم أدب الاعتقال من سياق الانفتاح السياسي التدريجي الذي عرفه المغرب ابتداءا من تسعينيات القرن الفارط، من تأسيس «المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان» إلى حكومة «التناوب التوافقي» وتجربة «هيئة الإنصاف والمصالحة». وأتاح هذا السياق تداول كتب ممنوعة سبق نشرها خارج المغرب، ونشر كتب جديدة أصدرتها دور مغربية. ولعبت الصحافة دورا هاما في التعريف بذلك الإبداع وتشجيع مبدعيه بواسطة الاستجواب ونشر الكتب عبر حلقات. وساهمت الحركة الحقوقية وجمعيات المجتمع المدني في الاحتفاء به، بل وفي نقل الطاقات الإبداعية إلى مستوى الفعل عن طريق تنشيط ورشات الكتابة. ثانيا- ثنائية الفعل والكتابة. هناك الفاعل الذي عبر عن تجربة الاعتقال والتعذيب والمنفى بشكل إبداعي (عبد اللطيف اللعبي، وعبد القادر الشاوي)، والفاعل الذي أنتج نصا تقريريا تطغى فيه القيمة التوثيقية (شهادة أحمد المرزوقي حول تزممارت)، والكاتب الذي يحول التجربة الجماعية أو تجربة فاعلين آخرين إلى نصوص إبداعية (عبد الحق سرحان، وعبد الحي مودن، والطاهر بنجلون). ثالثا- ثنائية الذاكرة والتاريخ. فهذه الكتابات تعبر عن تجربة أفراد ومجموعات، وتريد أن تشهد على العنف الذي تميز به أسلوب الحكم في عصر معين، في اتجاه الإدانة و/ أو المصالحة. وإذا كانت هذه الكتابات تختلف عن كتابة المؤرخ الذي يتخذ المسافة الضرورية من أجل فهم منطق الأحداث والأنساق السياسية العامة، فإنها ساهمت في تراجع «الخطوط الحمراء» التي كانت ترسم الحدود الفاصلة بين التاريخ المباح والتاريخ المحظور. رابعا- كتابة الشهادة من داخل فضاء الاستبداد. من الطبيعي أن يثير سياق الانفتاح صراعات الذواكر، وتظهر بذلك كتابات عاشت المرحلة السابقة في الضفة الأخرى من المشهد السياسي. وقد لفت انتباهنا نموذج كتاب الهادي بوطالب، «نصف قرن في السياسة». كتب محمد سبيلا مقدمة تعد القارئ بنص يرسخ ثقافة التواصل بين الأجيال، والمؤلف يعلن عن التعريف ب»حقيقة ذاته» ب»وضوح وشفافية». بينما يتبع الكتاب استراتيجية تلميع صورة الذات وصورة الملك الحسن الثاني، من خلال اعتماد الإسهاب في بعض الجوانب والاقتضاب في جوانب أخرى. يُثني بوطالب على مهاراته في الكتابة والدبلوماسية، وهو بذلك استمرار لنموذج الكتاب الأندلسيين الذين لازموا الدولة المخزنية منذ زمن المرابطين. ثم يظهر هذا الامتداد بشكل جلي حين يذكرنا بوطالب بأنه نشر كتابه وزير غرناطة حول سيرة الوزير الأندلسي ابن الخطيب سنة 1952 في القاهرة، وكان ينوي تخصيص كتاب آخر لابن خلدون. ويوضح أنه أقام مع ابن الخطيب علاقة إعجاب وتماهي، «ومن حياته كونت لنفسي رؤية عن اتجاه الحكم المشخَّص الفردي كيف يتصرف وكيف يعامل الناس». وهكذا نفهم لماذا كشف بوطالب عن بعض التناقضات التي عاشها مع بعض الرجال الأقوياء في عهد الحسن الثاني على منوال دسائس القصور، ولماذا أبرز الفرق بين الوزير الأندلسي الذي عرف نهاية مأساوية وبين الوزير المغربي بوطالب الذي «دخل سالما وخرج سالما». امتدادات في الختام، نود أن نذكر ببعض القضايا النظرية التي طرحت حول العلاقة بين التاريخ والأدب، والتي تعبر عن التوتر بين مستوى النص ومستوى الشهادة والتأريخ: - قال البعض إن الرواية تؤرخ للمجتمعات بطريقة تتجاوز تاريخ المؤرخين (بلزاك، وزولا، وتولستوي، ونجيب محفوظ)، وقال البعض الآخر إن الرواية كانت من بين أصول علم الاجتماع، إلى جانب علوم الطيبعة). - اعتبرت بعض الدراسات الأدبية أن نشأة الرواية الحديثة مرتبطة بسياق تاريخي قوامه الفرد والتعدد. - استبعد البعض إمكانية تطبيق التحليل التاريخي على الأدب، لأن الأعمال الأدبية القوية تتحدى سياقها التاريخي. - أكدت بعض المقاربات الإبستيمولوجية أن كافة أشكال الكتابة التاريخية، وإن اعتمدت أحيانا لغة البحث العلمي ومنهجية إثبات الوقائع، فإنها لا تنتج سوى نصوص وسرديات. قد لا نساير بعض هذه الأطروحات حين تنفي الخلفية الاجتماعية للنصوص والوثائق، وتنحو منحى شكلانيا صرفا. لكن الاستئناس بها لا يخلو مع ذلك من ثمار، كأن يوسع المؤرخ مجال التاريخ الاجتماعي كي يشمل التعبيرات والتمثلات الجماعية، أو يوسع مجال التاريخ الثقافي كي يشمل الممارسات الاجتماعية. فمن شأن مثل هذه الجسور أن تفتح أوراشا واعدة خارج الدروب المألوفة.