تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال في مطار الجزائر بعد انتقاده لنظام الكابرانات    الحكومة تُعزز حماية تراث المغرب وتَزيد استيراد الأبقار لتموين سوق اللحوم    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    بورصة البيضاء تنهي التداولات ب "انخفاض"    رسميا.. اعتماد بطاقة الملاعب كبطاقة وحيدة لولوج الصحفيين والمصورين المهنيين للملاعب    البيت الأبيض يرفض قرار الجنائية الدولية اعتقال نتنياهو وغالانت    تحطم طائرة تدريب تابعة للقوات الجوية الملكية بداخل القاعدة الجوية ببنسليمان    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    خلوة مجلس حقوق الإنسان بالرباط: اجتماع للتفكير وتبادل الآراء بشأن وضعية المجلس ومستقبله    سلطات القنيطرة تُعلن عن قرار سار لجماهير اتحاد طنجة    يخص حماية التراث.. مجلس الحكومة يصادق على مشروع قانون جديد    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    توقيف شخصين بطنجة وحجز 116 كيلوغراماً من مخدر الشيرا    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    الجديدة.. الدرك يحبط في أقل من 24 ساعة ثاني عملية للاتجار بالبشر    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    القنيطرة تحتضن ديربي "الشمال" بحضور مشجعي اتحاد طنجة فقط    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا        وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    من الحمى إلى الالتهابات .. أعراض الحصبة عند الأطفال    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أصوات بلا حدود
السّيرة الذّاتِيَة في مِعْطَف الرِّوايَة الصّعْلوكِيّة
نشر في طنجة الأدبية يوم 03 - 12 - 2009


بول باولز
محمد شكري

محمد زفزاف
لقد تناولنا بالدراسة، في الدراستين السابقتين، لكل من الرواية التاريخية والرواية السيرذاتية، ولسوف نعرض في هذه الدراسة الثالثة، لجنس روائي حديث، على المكتبة العربية، ألا وهو، ما اصطلح بعض الكتاب العرب، على نعته، بالرواية (الشطارية). وهذا الجنس الروائي الوارد علينا من الأدبيات الغربية، حسب اعتقاد بعضهم، يعود في مراجعه الغربية، إلى القرن السادس عشر. بل هنالك من يعود به، إلى القرن الثاني ميلادي، أي للتراث الإغريقي-اللاتيني. وذلك مع ظهور قصة (الحمار الذهبي)، ل(لسيوس أبوليوس). لكن، من حيث التأريخ الرسمي، للأجناس الأدبية، تعتبر إسبانيا، ميدان ظهور هذا الجنس الأدبيي الجديد. وكلمة الشطار، أو الشطاري، أدخلت إلى القاموس العربي، عبر ترجمتها عن الكلمة الإسبانية، (بيكارو)، والتي تعني البطل الرحّالة، المتشرد، والبئيس، والماكر، الداهية. والتي سيبنى عليها الأدب (البيكاريسكي). وتعد رواية (لاثاريو دي طورميس ومحاسن طوالعه ومصائبه)، لمؤلف مجهول، المرجع الأولي لهذا الجنس. بل بالإمكان أن نضيف إليها، قصة (عثمان الفرج)، ل(ماطييو أليمان)، و(حياة المغامر دون بابلوس)، ل(كيفيدو)،كنصوص مؤسسة. ثم تبعتها قصص وروايات أخرى، في كل من فرنسا، ألمانيا وإنجلترة. ونذكر منها على سبيل المثال: قصة (أسطريه)، ل(هونوري دورفي)، وقصة (فرانسيون)، ل(شارل سوريل)، و(موت المحب)، ل(غوتييه)، و(جاك ولتون) ل(طوماس ناش)، (وليام ميسطر)، ل(غوته)، و(مول فلاندرز)، ل(دانييل ديفو)، بل حتى (أوليفر تويست)، ل(شارل ديكنز)، ونصوص أخرى، بالإمكان تفقدها في المراجع. ولقد تطور هذا الجنس مؤخرا، متخذا له آفاقا أدبية متشعبة ومختلفة، خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية، في كل من فرنسا، وبريطانيا، والولايات المتحدة، مع (مذكرة لصّ) ل(جان جنيه)، (جيل بيت)، ل(جاك كرواك). فنقف بهذا الخصوص، على سلسلة من الأسماء البيكاريسكية الشهيرة، من أمثال: (بريان غيزن)، و(شارل بيكوفسكي)، (جاك كيرواك)، ألان غيمبرغ)، (وليام بورغوت)، الذين انطلقوا بهذه التجربة الفنية، في مستهل الخمسينات، ممهدين الطريق، للثورات الجنسية التحررية في منتصف الستينات. بل حتى للذين لحقوا بهم من أمثال، (هينري ميلر) و(كارلوس فوينطس). وتتفق المراجع، على أن هذا الجنس الأدبي الجديد، يستمد آفاق جغرافيته، من طبيعة المدن الحديثة، كما ذاكرته التاريخية، من الواقع، أو الوقائع الاجتماعية للطبقة الكادحة والمهمشة، ويعتمد خصوصا، على السرد، (السّيرَذاتي). لهذا السبب، تعتبر هذه الرواية البيكاريسكية، جزءا من الرواية السّيرَذاتِيَة، ومعطفا واقيا لها. ويكون البطل الروائي، في هذه الأثناء، هو الراوي، الحامل لراية المنبوذين، الذين ينتسب إليهم، من حيث انتمائه الطبقي هو الأخر. ومن مواصفات هذا البطل (بيكارو- الشاطر)، كونه مخلوق بئيس، شرير قذر، سكير، شحاذ، مخادع، انتهازي، لئيم، لا ضمير أخلاقي له. وإذا شئنا، فبإمكاننا أن نوسع القائمة، لتضم بين ثناياها، كل الأوصاف والنعوت الشنيئة والبذيئة، فيما يتعلق، بمواصفات هذا البطل. ولسوف نتوقف، عند هذا الحد من التعريف، لنعيد قراءة هذه المقدمة التعريفية، من وجهة نظرنا الخاصة بنا. وذلك باعتمادنا، على المنهجية التحليلية التي استخدمناها، في دراساتنا السابقة، كما في دراستنا هذه.
لقد سبق وعرّفنا هذا الجنس الروائي، في المقدمة التي سقناها أعلاه، ونذكر، بأن من بين الاصطلاحات، التي اختيرت له، من قبل بعض الكتاب و الباحثين العرب، نسوق ما يلي: الرواية البيكاريسيكية، للدكتور جميل حمداوي، الرواية الشطارية، لكل من محمد غنيمي هلال، وإسماعيل عثماني، والرواية الاحتيالية، للدكتور علي الراعي، والأدب التشردي، للباحث محمد طرشونة. ومن جهتنا، فلقد وقع اختيارنا على تسمية جديدة، نطلقها على هذا الجنس الأدبي الحديث، ألا و هي، (الرواية الصّعلوكية). مع الإشارة، إلى أن كلمة صعلوك، قد وردت في بعض الأبحاث، دونما تخصيص، أو تحديد لها، داخل إطار دراسي منهجي منسق. لقد وقع اختيارنا على هذه التسمية، واخترنا هذا اللفظ، لأننا نعتبره من جهة، مطابقا للمضمون الروائي الذي يرويه، ومن جهة أخرى، مطابقا، ومتمما للمصطلح العربي، المتوفر، والمتواجد في قواميسنا العربية. فلا جدوى إذن، من نحت مصطلح جديد، إذا كانت مكتبتنا العربية في غناء عنه. ثم إن اختيارنا للفظة (الصعاليك)، من حيث مضمونها وإمكانية ربطها بأفقها التراثي، له معنى عميق. فإن مصطلح الصعاليك، في أدبياتنا الشعرية الجاهلية، كان يطلق على كل، من الشعراء أبناء الحبشيات السود، وقطاع الطرق، والرافضين لمجتمعاتهم القبلية، وأولئك الذين تبرأت منهم قبائلهم، لأسباب إجرامية. ونذكر منهم على سبيل المثال، كل من الشنفرة، وتأبط شرا، وعروة ابن الورد. فنحن نرى والحالة هذه، ربط هذه اللفظة بأفقنا الاجتماعي الحالي. ونرى شحنها بدلالات، تجدد من معانيها وتغنيها. فإطلاق تسمية الصعلوك على الفرد، ونعني به الفرد المنبوذ، والمهشم اجتماعيا، في مدننا الحديثة، يوافق المعنى المطلوب، بخلاف اصطلاح (الشاطر) الذي لا يعني شيئا، ولا يدل على صورة معينة، في ذهن الجماهير، كما القراء، غير المتعودين على هذه التسمية. ثم إن اختيار اللفظ العربي الصعلوك، عوضا من (البيكارو) أو غيره، وربطه بذاكرته الأدبية، يقربنا من الظروف التاريخية، لظهور هذا الجنس الأدبي، وارتباطه به. ويقربنا، في الوقت نفسه، من الجنس الأدبي الأم، الذي تطور ونشأ عنه، ونقصد به المقامة العربية. فلا غرابة، أن تكون المقامة العربية، هي المصدر، والمنبع الأساسي، لظهور وتطور هذا الفن الأدبي الصّعلوكي. فالمقامة في نشأتها وتطوراتها، مع كل من الحريري، في (حياة أبي زيد السروجي)، و(مقامات)، بديع الزمان الهمذاني، مرورا برسائل (التوابع والزوابع)، ل(ابن شهيد)، و(رسالة الغفران)، ل(أبي العلاء المعري)، و(ألف ليلة وليلة)،قد أنتجت بأساليبها، القصصية السّيرَذاتِيَة، المتداخلة، الأجواء الناضجة، والأرضية الأساسية،لكل الأجناس الروائية اللاحقة.
فالرواية الصّعلوكية، ظهرت بالتحديد، في منتصف القرن السادس عشر، وبداية القرن السابع عشر. أي مرحلة انتهاء حكم (فيليب الثاني)، وبداية حكم (فيليب الثالث) بإسبانيا. وباختصار، مرحلة انتصار الصليبية الكاثوليكية، على الأمة الأندلسية الإسلامية، بعد سقوط غرناطة سنة 1492م. فانطلاقا من هذه المرحلة، ستنشط محاكم التفتيش الدينية، والتطهير العرقي، في مطاردة، وملاحقة المواطن العربي الأندلسي. ومن هنا، ستأتي الرواية الصّعلوكية أو الصّعالِكِيّة، المجهولة المؤلف، في بداية الأمر، كرد فعل إيديولوجي، للمؤسسات الكاثوليكية العرقية. ونسوق بهذا الخصوص، الملاحظة الدقيقة، للأستاذ (جان لوي برو)، الباحث، والمتخصص في العصر الذهبي، للأدبيات الإسبانية، خلال القرنين: (السادس والسابع عشر)،حيث يقول: "لقد جاءت الرواية البيكاريسيكية، كمعيار، بين ما هو وهمي، وما هو إيديولوجي".
لقد كان جنس المقامة، كموروث ثقافي عربي، فنا رائجا في الأندلس، قبل سقوطها. وكان هذا الفن، الذي كان يدور في أجواء فكاهية، ينطلق من راوية، يحكي عن مغامراته، بأسلوب شيق، قريب جدا من أجواء السيرة الذاتية. ولئن كانت المقامة، تشبه إلى حد بعيد، التطور الروائي المعروف، الذي سيمنحها الكاتب الإسباني (سرفانطيس)، في روايته (دون كيخوطه). هذا الكاتب، الذي يعترف في مقدمة كتابه، بأنه استوحى روايته، نقلا عن كاتب عربي. لا يهمنا هنا، إن كان استوحاها أم لا، بل الشيء الأساسي، من كل هذا، وهو أن مضمون رواية سرفانطيس الفكهة، التي تروي لنا، حكاية فارس نبيل، من طبقة (الهيدالغو)، يحارب المراوح، ويتخذ من أحلامه حقائق واقعية. فهي إذن رواية ساخرة، وهي أيضا، سيرة ذاتية (لهيدالغو)، يسخر ضمنا، من مجتمعه، وخصوصا من طبقة الأشراف، والنبلاء، ورجال الدين، الذين كانوا فخر إسبانيا المنتصرة على أعدائها. ويرى المختصون في جنس الرواية، بأن تطور هذا الجنس، في حلته الواقعية، يعود فضله إلى الكاتب سرفانطيس، الذي مهد الطريق، لكل الروائيين الذين جاؤوا من بعده، من أمثال الكاتب الإنجليزي، (لورانس ستيرن)، في روايته، (تريستام شاندي)، و(جاك الحتمي)،للكاتب الفرنسي، (دنيس ديدرو).
لقد تحدثنا عن المصطلح، وتحدثنا أيضا عن المراجع المؤسسة لهذا الجنس، ونعود من جديد لتعميق هذه الدراسة، رابطين ظواهرها، بعضها ببعض. قلنا بأن هذا الجنس الصّعلوكي، قد ظهر في القرن السادس عشر في أجواء عدائية، وصفناها لكم. وسوف نقدم الآن، نموذجا من صميم الموروث الروائي الإسباني. ولقد اتخذنا بهذا الخصوص، النصوص الإسبانية التأسيسية، ونعني كل من (عثمان الفرج)، و(لاثاريو دي طورميس، وسعده ومحنه)، كمراجع أساسية، بالإضافة إلى (دون كيخوطه). فالرواية الصّعلوكية، هي رواية متمردة، تبني مضمون سردها، على حظوظ ومحن بطل(صعلوك)، يسعى إلى الالتحاق بطبقة المجتمع النبيلة. ويسعى أيضا، إلى اقتناء الثروات والمجد، لتغيير نمط حياته ووضعيته، من حالة سيئة وبئيسة، إلى حالة أحسن، يحمد عليها، ويعترف له فيها، بمقامه وشرف مولده. لكن سعيه، وحلمه، وأوهامه، محكوم عليها كلها، سلفا، بالخيبة والفشل. فهذا البطل، أو الفارس الصعلوك، ويقصد به ضمنا، المواطن الأندلسي المشرد، لا يمكن أن يفر من قدره، الذي رسمته له الطبقة الجديدة، الحاكمة للوطن. نذكر بهذا الخصوص، بأن محاكم التصفية العرقية، في مطاردتها، لأبناء الأمة الأندلسية المهزومة على أمرها، قد وضعت قوانين عنصرية تقول ب(طهارة الدم وخلاصته) لتطرد من سلك حكومتها، كل من لا ينتمي، إلى طبقة النبلاء، أو طبقة المسيحيين القدامى، من سكان البلد، [ أنظر بهذا الخصوص دراستنا عن الرواية التاريخية]. فالفارس الصعلوك، والحالة هذه، يتواجد في مجتمع مرتب ترتيبا طبقيا، توجد على رأسه طبقة (الهيدالغوس)، أي الفرسان النبلاء، أبناء البلد الأصليين، بحكم صفاء دمهم، وطهارته، من أي دم أجنبي دخيل عليهم، من جهة العرب،(المورسكيين) أو اليهود. ف(الهيدالغو)، المنتمي بحكم ولادته، إلى طبقة النبلاء، لا يشتغل بالفلاحة، أو التجارة والصناعة، لأن مقامه الشريف، لا يسمح له بعمل منحط كهذا، قد خصص للمهزومين، أي للعبيد الجدد، من مسلمي الأندلس، سادة البلد أمس، وعبيده اليوم. وهكذا، يصبح بإمكاننا أن نتفهم، ظاهرة تمرد الصعلوك، على (الهيدالغو) النبيل، ومؤسساته العنصرية. ونتفهم بعمق، هدف الصعلوك في ظاهرة التمرد هذه. فهدف الصعلوك، هو محاربة النبلاء العنصريين، الانتصار عليهم ،ودوس شرفهم المزيف، تحت قدميه، للتخلص من المأزق العبودي، الذي خصص له، وحبس فيه. لقد كان هذا هو مضمون الرواية الصّعلوكية، التي جاءت كرد فعل لمجتمع النبلاء العنصري. وجاءت رواية (سرفانطيس)، في نفس الفترة [الرواية نشرت سنة 1605م، الجزء الأول و1615 الجزء الثاني] هي الأخرى، ولكن من موقع واقعي داخلي، تمثيلا وسخرية، لطبقة (الهيدالغو) النبلاء، التي كان الروائي ينتمي إليها، والتي كان يسخر ضمنا من ادعاءاتها.
فالرواية الصّعلوكية إذن، تتخذ السرد السّيرذاتي، كمحور أساسي لتعبيرها. لهذا السبب بالذات، نجد هذا التداخل، والتزاوج السردي في ثناياها. وتتخذ هذه الرواية، البطل الصعلوك في مقابل الفارس النبيل. وتتخذ الوهم ،والحلم، والخيال، في مقابل واقع نبيل مغشوش، واقع مأسوي قاس، وبشع. وتنتهي بانتصار وانتقام وهمي، للفارس الصعلوك، بفعل وفضل امتلاكه لسلطة الكتابة، ولئن كانت بعض النهايات، تقوده في بعض الأحيان، إلى طلب الغفران. فالمحصلة إذن، هي أن الرواية الصّعلوكية، هي رواية مضادة للرواية الرعوية، والفُرْسانيِةّ، (القروسْطِيّة) العتيقة. وهي ظاهرة تمرد، لفئة مهمشة من المجتمع، على أخلاقيات الفئة السائدة، من النبلاء. وبطلها هو الآخر، بطل مضاد، للبطل التقليدي، في القصص القديمة، هذا فيما يتعلق بالأسس، والتطور لهذا الجنس الأدبي الصّعلوكي. ولننتقل الآن، لتطبيق هذا النموذج، على هذه الظاهرة في أدبياتنا الحديثة، لدى كل من محمد زفزاف، ومحمد شكري.
(المرأة والوردة) لمحمد زفزاف (1945-2001)
سنسعى إلى وضع ملخص، لرواية محمد زفزاف (المرأة والوردة)، التي نعتبرها، نموذجا أدبيا، وعربيا خالصا، للسيرة الذاتية الصعلوكية. وملخص الرواية، دونما خوض في التفاصيل الجزئية، نجمله ههنا، تاركين الجانب التقني، للمشتغلين بالنقد الروائي. تستهل الرواية، بالراوي، الذي هو بصدد تعليل مسألة الرحيل، رحيله إلى الغرب. وبالتحديد، رحيله من الجنوب العربي، إلى الشمال الغربي. وهكذا وقف بمدينة طنجة المطلة على الحدود الإسبانية المتاخمة لها، ومنها انتقل إلى مدينة (طري مولينوس) الإسبانية، الواقعة على الساحل الشهير (كوستا دِلْ صول)، الذي يعد، من بين أكثر السواحل الشمسية، استقطابا للسياح الأوربيين الأثرياء. وفي هذا المناخ السردي، تظهر عبر ضمير الغائب، شخصية ثانية نعتبرها، ازوادجية لأنا، الراوي. جاءت كصورة ناطقة وشاهدة، لتجربة سابقة، لهذا النوع من التجوال، في بلدان الغرب. وبطريقة غير مباشرة، مؤيدة ومشجعة للرحلة، التي يزعم البطل الراوي، القيام بها. ثم يعرض علينا، صورا سلبية لمدينة الدار البيضاء، التي خرج هاربا منها. فيقول عن المدينة، بأنها ملك للأجانب البيض، الذين يعيشون في ثراء، وأبهة، وفساد مالي، على حساب بقية طبقة الشعب المهمشة، خصوصا، تلك التي لا تنطق باللغة الفرنسية، لغة سادة البلاد. ثم تأتي مدينة طَنْجَة، في سياق الرحلة، كآخر محطة قبل العبور لإسبانيا. وهذه المدينة، تمثل لديه، الفرق الحدودي الواضح بين عالمين: عالم منبوذ لأنه عربي، وعالم مرغوب فيه لأنه أجنبي غربي. وفي هذا السياق الحلمي، يذكر تلك السنوات الأربع التي قضاها من قبل، في الغرب كأحد الأباطرة، منعما بحسن المأكل والمشرب، والثياب الفاخرة، ونكاح أجمل النساء. ثم يتطور السرد الروائي، ليحملنا إلى مشاهد لقاء، على ضفاف المصطاف، بين الراوي محمد، و(آلان)، و(جورج) القادمين من فرنسا، في اتجاه الجنوب، لاقتناء العُشْبَة المخدرة (الحشيشة). وفي هذه الأجواء السردية، تدخل (روز) الدانماركية، في صورة المرأة الجنس. المرأة الأوربية، المتحررة من كل القيود الأخلاقية، المرأة التي تهب جسدها مجانا، للمتعة الجنسية، والتي ترمز لدى الكاتب، حسب ما ورد في نصه الروائي:" تعرف كيف تمنح العالم، الحنان والحب." وفي رحلته الذاتية الداخلية، يرجع محمد بذاكرته إلى الوراء، حيث فتح عينيه، ونشأ في أسرة فقيرة بئيسة. ثم يعود الحديث من جديد، لعشيقته، (سوز) في أجواء (هِبِّيّة) من الإنسياح، وتعاطي بلا حدود، للحشيش، والخمور، والجنس. ويختم الراوي رواته، أو سيرته الصعلوكية، متسائلا عن هويته قائلا:" أنا .. ! من أي جنس أنا؟".
فعبر هذه السيرة الصّعلوكية، يكون محمد زفزاف هو المؤسس، والرابط بالفعل، لهذا الجنس الروائي الحديث، بآفاقه التراثية الماضية. فكل العوامل والشروط، لهذا الجنس الأدبي، متوفرة في نصه الروائي. ونحن لا نزعم، بأننا المبتكرين لهذا الجنس، وإنما إذا ما نحن ربطناه بالتراث المقامي العربي الممهد له، تبين لنا بأن العلاقة تظل وطيدة بين هذا وذاك، ولئن كان الفارق الأساسي بينهما، يكمن في العامل الأخلاقي، الذي لم تخترق المقامة حدوده. على العموم، فإن البطل في هذه الرواية، التي تكاد تكون قصة طويلة، هو إنسان حاقد ومتمرد على مجتمعه، كما على الظروف، التي جعلت منه، إنسانا هامشيا. ثم إنه ليعلن تمرده، سيمشي ضد التيار الأخلاقي، والقيمي الذي تسير عليه أمته. فكل ما هو محرم، أو مسكوت عنه، سيصبح مباحا، في نظر الكاتب. فهو يخترق الحدود، يتجاوزها، ويسخر من أولئك، الذين ما زالوا مقيدين بها، أو العاملين على حراستها. ثم إنه يسعى إلى المقارنة والمقابلة بين عالمين: عالمه العربي الذي ينتمي إليه، والذي لا يعترف به كإنسان، ولا يقيم له أي شأن، والعالم الغربي البديل في مخياله، الذي يمنحه الحرية، والحب، والحنان بدون ثمن. ويتلخص في المرأة (سوز)، التي ترمز في هذه السيرة الإباحية، إلى عالم الحب، والتحرر من القيود. و محمد الزفزاف، بالرغم من جرأة صراحته، فإنه ظل نوعا ما، لبقا في عدم الدفع بتمرده اللغوي، إلى حد الوقاحة والخلاعة. ويعد من حيث تجربته القصصية، والروائية من رواد الأدباء المغاربة، الذين نقلوا لنا، صورا حية، وواقعية، عن المجتمع المغربي، منظورا إليه هذه المرة، بعيون المنبوذين والمهمشين، والفقراء، والصعاليك، والسكارى، والغشاشين، والمحتالين، من الطبقة الضالة، والمغضوب عليها اجتماعيا
(الخبز الحافي) لمحمد شكري (1935-2003)
أما (الخبز الحافي)، فإنها رواية صعلوكية بامتياز. ونمط السرد السيرذاتي فيها، يعتمد على ذاكرة، مملوء خزانها، بصور مختلفة ومتداخلة، لشريط الكاتب الحياتي،أيام كان المغرب تحت الحماية الفرنسية-الإسبانية. ولقد كانت قصة نشر هذه الرواية الصعلوكية، وهي، بكل ما تحمل الكلمة من معنى، حادثة عرضية، غير متوقعة. فالرواية أصلا، ليس لها ذاك الثقل الروائي، المتواجد لدى الروائيين الكبار. وليست حتى برواية أصلا، حتى يخوض الباحثين في تركيباتها، وحبكاتها العجيبة. إنما هي باختصار، شهادة إباحية لصعلوك متمرد، عن نشأته، وعن مصيره، في مجتمع طبقي، حكم عليه، كما على من هم أمثاله، بالجهل والفقر والعيش في المستنقعات. فالكاتب مثلا، قبل التفكير في نشر هذه السيرة الصعلوكية، والتي لم يكن قد فكر في كتابتها، كان يعاشر بعض الكتاب الأجانب، القادمين إلى المغرب، بحثا عن الشذوذ الجنسي، ولو كان ذلك خلف أقنعة أدبية، أو فنية. نذكر منهم (تينسي وليام)، و(جان جنيه) الفرنسي، و(بول باولز) الأمريكي، وبالتحديد، الناشر الإنجليزي (بيتر بين) صاحب (بول باولز). لقد كان هذا الناشر، قد قدم للمغرب، بحثا عن الأدبيات الشاذة. وهو بالمناسبة، الذي نشر لكل من: العربي العياشي (حياة مليئة بالثقوب)، و(الحب بخفته من الشعر)، لمحمد المرابط، التي كان (بول باولز)، قد قام إلى نقلها إلى الإنجليزية، بعد سماع روايتها شفهيا، من الكاتبين المعنيين. وفي هذا السياق، سياق البحث عن الشاذ، التقى الناشر (بيتر بين) بشكري، وعرض عليه، نشر أحد نصوصه، شريطة أن يكون، من الأدبيات الصّعلوكية الشاذة. وكذلك كان، أن التجأ محمد شكري، إلى مرشده الصّعلوكي، بالتبني في هذا المستنقع الأدبي، (بول باولز)، الذي نقل له سيرته الصعلوكية في السبعينات، وذلك قبل ظهورها بالعربية، لسبب بسيط، وهو أن النص العربي، لا يوجد، ولم يتواجد قط. ومن المفارقة العجيبة، بخصوص هذا المتن السيرذاتي، فإن المؤلف نفسه، لم يحرره كتابيا قط. وهكذا قام الكاتب محمد برادة، بنقله إلى العربية، من بعد ما ظهرت ترجمته إلى الفرنسية، التي أشهرته، على يد الكاتب، الطاهر بن جلون. والسر من ترجمة هذا النص إلى العربية، على يد كاتب عربي آخر، يكمن في عدم تمكن محمد شكري، من اللغات الأجنية، حتى يعيد كتابة النص بنفسه من الإنجليزية أو الفرنسية، إلى العربية. و إلا لكان قد أخرج نصه العربي، أو بالأحرى أعاد كتابته. لكن كيف سيعيد صياغته، على أصل إنجليزي، أو فرنسي، قد لا يكون وفيا، لنقل ما ورد فيه. وملخص هذه الرواية، التي لا تغدو عن كونها قصة طويلة، نجمله في صور متفرقة، ومتداعية من هنا، وهنالك لذاكرة الكاتب. فرواية (الخبز الحافي)، تروي عن طفولة الراوي، الشقية والمعذبة. عن سلطة الأب العنيفة. هذا الأب، الذي تجمعت فيه كل أوصاف الرذيلة، من حيث أنه، كان شرّيرا، سكّيرا، قمّارا، ومعذبا لزوجته، وقاتلا لأخ الكاتب. ثم يحدثنا عن رحيل العائلة، إلى مدينة طنجة. ثم رحيلها منها، في اتجاه مدينة تطوان، فوهران. ثم عودته لطنجة من جديد. ثم اشتغاله كبائع للسجائر المهربة. ثم تعلمه القراءة، للدخول إلى المدينة الفاضلة للمتعلمين. ثم يعرض لطابور من النساء العواهر. ثم بعض الصور، للشذوذ الجنسي، مع رجال أجانب، ولأدباء مشاهير مروا من هنا، وكل هذا، في المناخ الإباحي، لمدينة طَنْجَة الليلي. لأن النهار، كان متروكا لأصحاب العمل، أما الليل فهو لأصحاب السهر، من المدمنين، المتعاطين، للخمور والحشيشة، والذعارة بشتى ألوانها. فالخبز الحافي، قد كتب لها النجاح، في الخارج مبدئيا، لأن مروجيها، كانوا يعلمون مدى المراهنة التجارية، على إخراج شبه كتاب، من هذه الدرجة الصعلوكية، ومن هذا النوع الصعلوكي المستحب. بل واختراع شبه كاتب، يكون حصانا طرواديا، لتمرير هذا الجنس الأدبي الصّعلوكي المحرم، إلى مجتمع عربي إسلامي محافظ في أدبياته. وحين كتب له النجاح، كحامل لراية الرواية الصّعلوكية، لم يجد، ما يمكن أن يخسره، سوى المضي قدما بمشروعه، عبر قصصه ورواياته اللاحقة: كمجنون الورد، والشطار والوجوه. والذي جر على محمد شكري، لعنة منع روايته، وحظرها في كل من مصر والمغرب، لمدة سبعة عشر سنة، هو طابعها الإباحي، ووقاحتها الشاذة، وأسلوبها الخلاعي، لبطل صعلوك وشاذ. فإذا كان الأدب الصعلوكي في بدايته التاريخية مع الصعاليك، أدب احتيال وسرقات، مع احتفاظه بمقوماته الأخلاقية، وفي عصر النهضة مع عرب الأندلس، أدب تمرد واحتجاج، فأنه سيصبح مع شكري، بالإضافة لهذا وذاك، أدب وقاحة، واستهتار، ومجون، وخلاعة ولواطة، وسحاق، واغتصاب الغلمان. وسيصبح بيانه الصّعلوكي،[على غرار البطل، راسكولينكوف، في الجريمة والعقاب، لدستوفيسكي] على لسان الكاتب نفسه:" إن السرقة مشروعة في عالم االصّعاليك". ونضيف من جهتنا مصححين، بل في أجواء صعلوكية كهذه، فإن كل المحرمات، والمعاصي، تصبح مباحات مشروعة.
الرواية الصّعلوكية بين زفزاف وشكري
لقد طورا، كل من محمد زفزاف، ومحمد شكري، فن القصة القصيرة، كما الرواية المغربية، انطلاقا من الستينات. فالزفزاف مثلا، من (حوار في ليل متأخر)، إلى (الأفعى والبحر)، مرورا ب(المرأة والوردة)، إلى (الثعلب الذي يظهر ويختفي)، كان يعمل فعلا، على تأسيس التجربة الروائية الصّعلوكية، انطلاقا من التجربة المعاشية، لواقع المدن المغربية، كمدينة الدار البيضاء، نموذجا.
ولقد جاءت تجربة الزفزاف الروائية، كما قصصه، التي تتمحور حول الأنا الساردة، شهادة تمرد، وإغراق الذات في المشروبات الكحولية، وتجوال بدون هدف، واحتجاج، وإدانة، وفضح للفوارق الطبقية، وبؤس مدن الصفيح، والطبقة الشعبية المهمشة، في مقابل أصحاب الثراء.
ولقد جمع محمد زفزاف، في قاموسه اللغوي الروائي، كل ما هو عامي، وشعبي، وصعلوكي. وكانت هذه التجربة الأدبية، تدور داخل إطار الأدبيات الرسمية آنذاك. ولو أن صاحبها، ظل نوعا ما، ككاتب مُهَمّش طوال حياته. وهذا بالرغم من ممارسته، لمهنة التدريس من جهة، وتعامله مع الأدب العربي، والعالمي، من جهة أخرى. وهو في كل هذا، وبجرأته الأدبية الصّعلوكية، والخارجة عن المألوف الأدبي العربي، لم يخترق حرمة الخط الأحمر. لقد ظل محترسا، نوعا ما، علما بأن أدبياته الصّعلوكية، كانت كثيرا ما تثير حرجا كبيرا، في تعريتها لكثير، من مشاهد طقوس الحشيش، والخمريات، والقَحْبانِيات.
أما شكري فإنه في مقابل محمد زفزاف لم يكن ليحظ بهذا الثراء الثقافي الزفزافي. ولم تكن له، تلك السلطة الثقافية، التي كان يتمتع بها نده. ولئن كان كليهما، يشترك في تقاسم، مجالس الحانة والقصص الحمراء.
فشكري، سيأتي متأخرا، من حيث الثورة الكتابية. وهو الآخر، كان قد نشر هنا وهناك، في بعض المجلات والصحف العربية، إلا أن كتابته الصّعلوكية المحتشمة، والحذرة آنذاك، لم تكن لتثير إليه الانتباه. وهو سيدخل إلى معترك الساحة، كرائد ومؤسس لهذا الوجه الإباحي، والمتعالي على أخلاقيات المجتمع، بتمرده هو الآخر، ولكن بشكل متطرف.
فشكري والخبز الحافي، بداية لسلسلة حلقات سيرذاتيّة صعلوكيّة، ذات أوجه متعددة، ومضمون واحد. وهو بهذه المناسبة، من (الخبز الحافي)، إلى (الخيمة)، ف(الوجوه)، مرورا (بمجنون الورد)، و(الشطار)، لم يضف من عبقرية صعلوكية، سوى تكرار البطل الصّعلوكي نفسه، الذي يمكننا اختزاله، وتلخيصه في (الخبز الحافي). وقاموسه اللغوي الصّعلوكي، بإمكاننا حصره في الألفاظ التالية: الإغتراب، السرقة، الاحتيال، إدمان الحشيش والخمور، بالإضافة إلى القَحْبانِيات، والسخرية، و السّحاق، واللّواطة، والقيم المبتذلة.
التجربة الصّعلوكية
لقد سقنا هذه الدراسة التحليلية، وليس في نيتنا، أن نحكم على هذا أو ذاك. لقد عرضنا، لربّما بشكل فاضح، ما يشكل ويؤسس هذا الجنس، من الأدبيات الصّعلوكية الإباحية. وسقنا بعض الشواهد التاريخية، لنربط حاضر هذا الجنس الروائي، بماضيه. ثم إننا من جهتنا، لا نرى من ضرورة، لمنع أو تحريم هذا الجنس الكتابي. بل نرى بالأحرى، دراسته والوقوف على سلبياته، كما إيجابياته، لتوظيفها في خانتها التي تليق بها. ثم العمل من بعدئذ، على معالجة تلك الظواهر الاجتماعية، التي تعمل كالسرطان، في الطبقات الدنيا من مجتمعنا. فإذا كان محمد زفزاف، قد عانى من البؤس والفقر، لغاية أنه راح يجترهما في تجربته، طوال حياته. وإذا كان في الوقت نفسه، قد شخص لنا بعض الأمراض، التي تنهش كالسوس، في شجرة مجتمعنا. فلأنه كان يسعى من خلف كتاباته، أن يوصل لنا رسالته، التي عبر عنها بأسلوبه، وطريقته الكتابية، الخاصة به.
ومحمد شكري من ناحيته، كان هو الآخر، ضحية لهذا الداء الذي تحدثنا عنه. فلا غرابة إذن، أن يكون هو بالذات، الذي قد تعرض للاغتصاب، والاعتداء، قد أراد هو الآخر، أن يبلغنا رسالته، ولكن بشكل قاس، ومبتذل، لأنه لم يكن بإمكانه، أن يستبدل طبيعته، وعما نشأت وتربت عليه، بطبيعة أخرى.
وملخص القول، من هذه الدراسة، أننا لم نلعب قط، دور المرشد أو الواعظ. بل إننا نرى، أنه لنا في هذه الأدبيات الصّعلوكية، عبرة، ولنا فيها مادة اجتماعية، قد يستفيد منها الأديب، كما قد يستفيد منها، الدّارس الإجتماعي. بل وكل مصلح اجتماعي، سواء على مستوى الأحياء الشعبية، بمحاربة الأمية، والفساد الجنسي. أو على مستوى جمعيات وخيرات محلية، لمحاربة إدمان المخدرات، والسرقات، والدعارة، وباقي العاهات، والأمراض الاجتماعية المزمنة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.