تعتبر فترة التسعينات مرحلة حاسمة في التاريخ السياسي الراهن بالمغرب، نظرا لطبيعة المرحلة الانتقالية التي عاشها المغرب سياسيا واجتماعيا منذ سنة 1990 ، وتبوء قضية دراسة التاريخ القريب والحاضر L'histoire prèsent » « حيزا هاما في اهتمامات المؤرخين والباحثين لفهم الواقع السياسي المغربي الراهن وحيثياته الحاملة لتجليات تحبل بثراء دلالا تها، وتساوق ذلك مع حصول جملة من التحولات على المستوى الدولي والوطني وقد استتبع وضع كهذا تحقق ذلك الانفراج الذي عرفه المشهد السياسي وتوسع هامش الحريات، خاصة بعد تأسيس المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان في 08 مايو 1990، وإصدار الملك الحسن الثاني عفوا عن معارضيه السياسيين، وتعيينه حكومة التناوب التوافقي بقيادة بعض أحزاب المعارضة، وانتقال الحكم إلى وريث سره جلالة الملك محمد السادس، غير أنه يبقى من بين أهم العلائم المشرقة التي طبعت المرحلة المذكورة بميسمها هو عمل " هيئة الإنصاف والمصالحة " . وهي الهيئة التي تعتبر لجنة وطنية للحقيقة والإنصاف، بلورت أهم مبادئ اشتغالها تأسيسا على مرتكزات العدالة الانتقالية الدولية، وعملت على استلهام جوهر فلسفتها الحقوقية، ليس في الجانب المرتبط بإنصاف الضحايا والقطع مع ماضي الانتهاكات أو إرساء الآليات الحقوقية الكفيلة بعدم تكرار ما جرى فحسب، على الرغم من أهمية هذه الإجراءات الأخيرة، وإنما بالأساس في الشق المتعلق بمقترحاتها وتوصياتها ذات الصلة بالخصوص بحفظ الذاكرة الجماعية التي استهدفت إرساء مقومات المصالحة، وبعدها اختيار الدولة التوجه نحو المستقبل في مجال النهوض بحقوق الإنسان وحمايتها وتعزيز مسلسل الإصلاحات الجارية .. تلك الذاكرة التي تندس عميقا في الحاضر، وفي نفس الوقت تتناغم عبر وشائجها مع الماضي في توليفة تتواصل مع التاريخ الراهن والمعاصر الذي قبل المؤرخون الأكاديميون المختصون في حقل التاريخ الجامعي في الفترات الزمنية الأخيرة أن يشتغلوا أيضا على ملفات هذا التاريخ الجديد، شأنهم في ذلك شأن الهواة من الصحفيين والكتاب، ولبلوغ هذا الهدف تم التوسل بذاكرة المجال ومدلولات التاريخ الثقافي، كما تم تناول تاريخ الزمن الراهن الذي سجل انطلاقاته الأولى منذ العقد الثاني من بداية القرن العشرين، من طرف علوم إنسانية أخرى كالأنتروبولوجيا وعلم الاجتماع والعلوم السياسية والصحافة . وفي سياق إحداث متاحف جهوية معاصرة للتاريخ في بعض المناطق المغربية، وأثناء انعقاد ندوة دولية نظمها المجلس الوطني لحقوق الإنسان بمدينة الحسيمة في إطار " برنامج مواكبة توصيات هيئة الإنصاف والمصالحة في مجال الأرشيف والتاريخ والذاكرة " وتحديدا في موضوع التحافة بالريف، خلال شهر يوليوز سنة 2011 ، فقد توصلت المشاركات والمشاركون في هذه الندوة ، نظرا لكون الندوة نظمت تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة، برسالة ملكية تنص على " إن رهانات هذه المتاحف تظل متعددة : مصالحة الساكنة مع تاريخ جهوي غني وغير معروف، قائم في نفس الوقت على الهوية المتميزة والتواصل بين الجهات في المغرب، فضلا عن تفاعله مع جهات أخرى من العالم، وتعميم المعرفة الرصينة بالرصيد التراثي، خاصة لدى الأجيال الشابة، مع إبراز إسهامات كل جهة في الرصيد الثقافي المغربي، وأخيرا جعل الثقافة مصدرا حقيقيا للنهوض بالتنمية الجهوية " . ولذلك فإن مصادر تاريخ الزمن الراهن بالمغرب وخاصة المؤسساتية منها تظل متعددة وذات أهمية بالغة، وضمنها نتلمس مدى قيمة منشورات المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب على المستوى المعرفي والعلمي، وقد أنشئ المعهد سنة 2005 تحت سلطة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ويشرف على إدارته المؤرخ المغربي محمد القبلي، وقد تولى المعهد إصدار/ الاهتمام والإشراف على العديد من المنشورات الهامة ذات الصلة خصوصا ب " المغرب والزمن الراهن – شمال المغرب من ثلاثينات القرن العشرين إلى سنة 1961 – محمد الخامس من سلطان إلى ملك – المغرب في القرن العشرين " .. جريا على المنوال ذاته، من الممكن اعتبار التحول في التعامل مع الماضي من بين المؤشرات الرئيسية في ترسيخ الانتقال المطروح نحو الديمقراطية، وبالتالي يوجد حاليا حركة دمقرطة للمعرفة التاريخية عبر الانتقال من تاريخ الدولة فقط إلى تاريخ الحياة اليومية بمختلف تجلياتها، يؤكد هذا المنحى صدور مؤلف " تاريخ المغرب- تحيين وتركيب " إشراف وتقديم محمد القبلي، وهو الكتاب الذي كشف عن حلقات تاريخ المغرب في غناها وتنوع أبعادها المنصهرة في لحمتها ووحدتها الوطنية المتماسكة. في سياق هذه الدينامية الوطنية المتميزة، والعوامل الدولية والحقوقية ذات الصلة بالخصوص بالعدالة الانتقالية، صدرت الترجمة المتألقة لعمل وكتاب " أيث ورياغر، قبيلة من الريف المغربي " وقد تم تقديم وتوقيع الكتاب مساء يوم الجمعة 22 يوليوز 2016 بدار الثقافة الأمير مولاي الحسن بالحسيمة بتنسيق مع جمعية ذاكرة الريف المنظمة لهذا للقاء الثقافي، وتحت إشراف وتأطير من مترجميه الدكتور محمد أونيا والأستاذين عبد المجيد عزوزي وعبد الحميد الرايس، وبمتابعة شخصية لرئيس "جمعية صوت الديمقراطيين المغاربة بهولندا" الناشرة للكتاب. يقع الكتاب في مجلدين ضخمين، وإن كان الأصل فيه مجلد واحد عند وضعه من طرف المؤلف، ولأسباب منهجية وفنية ارتأى الأساتذة المترجمون تقسيمه إلى جزأين، صدرت طبعته الأولى خلال سنة 2016، وهو من الحجم الورقي الكبير، ويبلغ عدد صفحاته تسعمئة وأربعة وأربعون صفحة، يتصدرهما تقديم للمترجمين، والجمعية الناشرة في جزئه الأول، ويغطي الكتاب عبر جزأيه تقنية منهجية اعتمدت وضع المجلدين ضمن فصول محددة يبلغ عددها الإجمالي سبعة عشر فصلا. مؤلف هذه الدراسة الأكاديمية هو دايفيد مونتكومري هارت HART David Montgomeryمواطن أمريكي، ولد سنة 1927 في فيلاديلفيا وتابع دراسته العليا في الأنتروبولوجيا بجامعة بينسيلفانيا، لينتقل إلى المغرب الذي قضى به ما يزيد عن إحدى عشر سنة، وكان يمتلك مؤهلات معرفية عميقة حول الثقافة الإسلامية حيث عمل فترة من الزمن بالمملكة العربية السعودية، وخلال إقامته بالمغرب كرس جهوده لتعلم العربية والأمازيغية وأجرى أبحاثا ميدانية متميزة في كل من الأطلس والريف المغربيين، كما مارس التدريس بمعهد السوسيولوجيا التابع لجامعة محمد الخامس بالرباط، وتوفي خلال 2001 عن عمر يناهز أربعا وسبعين سنة بمدينة كاروتشا Garrucha الإسبانية . لا تقل أبحاث دايفيد هارت ودراساته الأكاديمية ذات المنزع الأنجلوساكسوني من ناحية قيمتها العلمية عن تلك التي قام بإنجازها كل من : جاك بيرك - روبرت مونطاني- أوجست مولييراس ذات الصبغة الخاصة بالمدرسة الكولونيالية الفرنسية أو الاستوغرافيا الاستعمارية المعبرة عن الأطروحة الإثنوغرافية بشكل عام ، وإن كان جاك بيرك وبول باسكون من الباحثين الفرنسيين اللذين انتصرا للعلم ضد الاستعمار وللمغرب ضدا على فرنسا، وحسب المترجمين فإن أطروحة أيث ورياغر ذات الأصل الجامعي إذا كان قد كتب لها أن تخرج إلى حيز الوجود سنة 1976،أي بعد حوالي عقدين من استقلال المغرب، فإن الباحث كان قد شرع في إنجاز دراسته في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي وبترخيص من سلطات الحماية الإسبانية آنذاك، مما يعني أن بحثه هذا تطلب منه جهدا علميا تواصل لمدة تقارب ثلاثة عقود، عايش فيه كلا من الوجود الإسباني وبعدها الاستقلال الوطني لبلادنا. هذا الإنجاز العلمي الذي يحمل عمقا معرفيا وأكاديميا يمزج بين التاريخ والإثنوغرافية فرض على صاحبه دايفيد هارت أن يقضي سنوات طوال من التقصي الميداني والكد في التنقل بين جبال وقرى أيث ورياغر كما يتم النطق بها محليا، أو بني ورياغل كما هو شائع لدى العموم، أما الأمر الذي جعل المترجمين يفضلون التسمية الأولى عن الثانية، فهو احترام رأي المؤلف أولا، ثم الانسجام مع الواقع ثانيا، وبناء على تعبيرهم في عملهم المترجم، فإنه لا علاقة قطعا لهذه المسألة بأية خلفية شوفينية أو ايديولوجية أو نزعة قبلية وقبل وفاة البروفيسور هارت بسنتين تلقى المترجمون لهذا العمل إذنا بالموافقة على ترجمة كتابه ونقله إلى العربية، مع إعداده لمقدمة خاصة للترجمة العربية في طبعتها الجديدة القادمة، وقد صاغ المؤلف كتابه بالأساس بناء على دعائم النظرية الانقسامية التي تعد في الحقيقة الجوهر الأصيل لمقاربته الإثنوغرافية التي قام بتطبيقها على الواقع الورياغلي بشمال المغرب، رغم أن الكاتب اعترف في الفترة الأخيرة التي سبقت رحيله الأبدي بعدم صلاحية تطبيق النظرية الانقسامية على أيث ورياغر، فإن هذا الوضع على الرغم من ذلك، وكما صرح المترجمون في ثنايا عملهم، لا يمكنه أن يكون سببا أو منفذا للتأثير على قيمة الكتاب، وبخصوص هذه النظرية فقد استهدفته الانتقادات الحادة الموجهة إليه من قبل زميله الأمريكي الأنتروبولوجي هنري مونسون، دون أن ننسى بالطبع دور السوسيولوجيا الوطنية بالمغرب، إثر انخراط جملة من أعلام الأنتروبولوجيا الوازنين من قبيل عبد الله حمودي، عبد الكبير الخطيبي، بول باسكون في زعزعة المقولات الانقسامية، وإعادة تفكير وتحليل طبيعة التراتبات الاجتماعية في المغرب. ينتمي هارت إلى مدرسة الأنتروبولوجيا التقليدية، ولكي ينجح في مهمته العلمية، فقد أسعفته زوجته ذات الأصول البريطانية أورسولا كينغسميل هارت في اكتشاف أهم المداخل المؤدية إلى معرفة العوالم الخاصة بالنساء الريفيات، والتي كان من الصعوبة بمكان كأنتروبولوجي ذكر خلال فترة إنجازه لدراسته بهذه المنطقة، أن يتمكن من معرفة أهم الوقائع للحياة اليومية التي تعيشها المرأة داخل منزلها، ورغم مبالغة دايفيد هارت في تركيزه على بعض المظاهر الاجتماعية، كالثأر والاقتتال الداخلي ونظام اللفوف، نظيرما قام به السوسيولوجي الفرنسي أوجست مولييراس في موضوع " المغرب المجهول – اكتشاف الريف وجبالة "، فإن هذه المظاهر الاجتماعية لا تضرب بعمقها في جذور الزمن، فهي من نتاجات ما يسمى بنهاية أفول حقبة التاريخ الحديث والبدايات الأولى لانطلاق مرحلة التاريخ المعاصر، وعلى العموم فإن الأدبيات الكولونيالية التي كانت تتهافت على دراسة هذه القبائل في القرن التاسع عشر الميلادي تناولتها في إطار الثنائية التقليدية والتعنيفية المندرجة في إطار مايسمى" بلاد المخزن " / "بلاد السيبة " وما ينجم عن ذلك من ضعف أو غياب للسلطة المركزية وتناحر المجتمع القبلي، وهو ما كان يشكل مصدر إلهام وإغراء كبيرين لأصحاب هذه الدراسات الأنتروبولوجية . ومهما يكن الأمر، فمن خلال دراسة متأنية ومحكمة لمضامين الكتاب بجزأيه، يمكن أن نخلص إلى الدور المزدوج لمؤلف الكتاب، فقد نجح دايفيد هارت في الجمع بين عمل الأنتروبولوجي بالأساس ودور المؤرخ، وهكذا تمكن من التركيز في الجزء الأول على الخصائص الطبيعية والبشرية والاقتصادية للمنطقة، وعلى رصد وتحليل البنيات التقليدية في المجتمع الورياغلي بالريف الأوسط، ومحاولته إبراز أهم التمظهرات الثقافية والتجليات الدينية، خاصة ونحن نعرف مدى أهمية مواضيع من هذا القبيل في فهم واستجلاء طبيعة هذه المجتمعات . أما الجزء الثاني فقد تناول فيه بالدرس والتحليل على حد تعبير الأساتذة المترجمين الإفرازات السياسية المجهولة في معظمها لهذا المجتمع سواء أثناء عهد الحماية الإسبانية أو مباشرة بعد الاستقلال، بحيث يتعلق الأمر بأهم الأحداث السياسية التي لعب فيها الورياغليون الدور الرئيسي في مغرب القرن العشرين. وذلك بدءا من إجهاضهم سنة 1908 ل " الفتنة " التي أوقد جذوتها الروكي بوحمارة، وبعدها التصدي للتغلغل الإمبريالي ومقاومة الاستعمار الأوروبي بقيادة الزعيم الوطني محمد بن عبد الكريم الخطابي ما بين 1921 و1926 ، مرورا بالزج بساكنة هذه المنطقة المغربية خلال 1936 – 1939 في مجاهل الحرب الأهلية الإسبانية ، وانتهاء بانتفاضة جلاء ما تبقى من الاستعمارين الفرنسي والإسباني إبان 1958 – 1959 بقيادة محمد سلام أمزيان ، ثم المشاركة في جيش التحرير المغربي وخوض معمعة حرب الرمال بين المغرب والجزائر في 1963.