جرت العادة في تناول الجهوية من طرف الفاعلين السياسيين والقانونيين والباحثين وعموم المهتمين بالشأن المحلي، على ربطها بالتنمية، والنظر إليها كإطار يحكم تحديد الاختصاصات وتوزيعها في مستويات تحدد طبيعة دور الفاعل المركزي إلى جانب دور الفاعل المحلي، كمبادر يتولى مهام التخطيط والتنفيذ والتقييم قصد النهوض بالمجال الجهوي وتلبية انتظارات الساكنة المرتبطة بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية، تطبيقا للأحكام المنصوص عليها في القانون التنظيمي رقم 14-111 المتعلق بالجهات. وغالبا ما يتم تقديم الجهوية كوسيلة لتجاوز قصور اللامركزية والدور الكلاسيكي للجماعات التقليدية الأخرى، مما يجعل الرهان عليها قائما قصد تقليص الفوارق الجهوية وتنمية مجموع جهات البلاد تنمية منسجمة ومتوازنة. وكقاعدة عامة، تقوم معايير التقسيم الجهوي، إما على أسس تاريخية وبيئية، أو على محددات إنتاجية واقتصادية، أو على أساس معيار التكامل الوظيفي، والاستقطاب الحضري، ما لم ترجح العوامل الطبيعية والموقع الجغرافي للجهة، في محاولة لاستغلال الموارد الناتجة عن هذه العوامل. والثابت أن الجوائح والأوبئة لا دخل لها في معايير التقسيم الجهوي، وإن كانت بنيات الاستشفاء، والعرض الصحي والموارد البشرية المعبأة في كل جهة، من العوامل التي تساهم في إيجاد فوارق جهوية، وتؤدي إلى نشوء تنافس ترابي يؤثر في القدرة على استقطاب الاستثمار عامة، والأنشطة الإنتاجية ذات الصلة بتقديم الخدمات الاستشفائية خاصة. وعلاقة بجائحة كوفيد 19، فإن التدبير الناجع للجائحة، وتداعياتها على الأمن والنظام العام الصحيين، فرض توحيد خطة العمل والقيادة مركزيا، منذ صدور المرسوم الخاص بصندوق "تدبير جائحة كوفيد 19" بموجب المرسوم رقم 2.20.269 بتاريخ 17 مارس 2020، مرورا بالمرسوم بقانون رقم 2.20.292 المتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها، وكذا المرسوم 293 .2.20 المتعلق بإعلان حالة الطوارئ الصحية بسائر أرجاء التراب الوطني لمواجهة تفشي فيروس كورونا –كوفيد 19، كما وقع تمديدها في ثلاث مناسبات، كان آخرها بموجب المرسوم رقم 2.20.406 القاضي بتمديد سريان مفعول حالة الطوارئ الصحية بسائر أرجاء التراب الوطني، وبسن مقتضيات خاصة بالتخفيف من القيود المتعلقة بها. وبالرجوع إلى هذا المرسوم الأخير، نجد بأنه يؤسس لمبدأين اثنين، الأول يروم تمديد حالة الطوارئ، والثاني يؤسس للبعد الترابي في عملية التقييم للوضعية الوبائية في كل إقليم أو عمالة قبل تقرير أي إجراء بغرض التخفيف من القيود المفروضة على الحريات بشكل عام. أولا: مبدأ تمديد حالة الطوارئ الصحية يقصد بحالة الطوارئ الصحية، مجموع الإجراءات، التي يجوز للحكومة اتخاذها، بعد التداول فيها في مجلس حكومي، بسبب وجود مخاطر تفشي أمراض معدية أو وباء، يحتاج إلى تدخل مستعجل للحكومة، لاتخاذ ما يلزم من التدابير الكفيلة بالتصدي وحصر المخاطر المحدقة بصحة وسلامة الأشخاص، أو بالنظام العام الصحي أو البيئي. فإذا كانت حالة الطوارئ الصحية يفرضها أمر طارئ يهدد سلامة وصحة المواطنين، فإنها لهذا السبب تشكل مبررا لتدخل السلطات العمومية قصد اتخاذ جميع التدابير التي من شأنها حفظ النفس والصحة، بغض النظر عن ما إذا كان من شأنها المساس بالحريات والحقوق المدنية المعترف بها دستوريا للأفراد، على إثر التوسع في صلاحيات السلطات الأمنية، بغرض إرجاع الأوضاع إلى حالها الطبيعي، وحفظ النظام العام. ويدرج ضمن التضييق من الحريات والحقوق، تقييد حق التنقل من مكان إلى آخر، ومنع التجمع، وإغلاق الأسواق الأسبوعية، وتوقيف الأنشطة التجارية والمهنية غير الحيوية، وهو ما يوضح أن الحجر الصحي، أو العزل الاجتماعي بالمنازل أو غيرها ليس إلا تدبيرا واحدا من بين التدابير الأخرى التي قد تقتضيها حالة الطوارئ الصحية، مع ملاحظة أساسية تتجلى في نسبية مبدأ التضييق من الحريات والحقوق، في الحدود التي تسمح فقط بحصر تفشي الجائحة، وبالتالي التحكم في تطور الحالة الوبائية. لهذا الغرض، فإن المرسوم بقانون رقم 2.20.292 المتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها، والمصادق عليه بالقانون 20-23، يشكل أساسا قانونيا لتدخل السلطات الحكومية المختصة بقصد اتخاذ التدابير الاستثنائية بموجب مراسيم أو مقررات تنظيمية أو إدارية أو بمناشير، وعند الاقتضاء، عن طريق البلاغات فقط، مما يكفل مشروعية التدابير التي تراها ضرورية والقابلة للتنفيذ، في إطار المرسوم 2.20.293 المتعلق بإعلان حالة الطوارئ الصحية بسائر أرجاء التراب الوطني لمواجهة تفشي فيروس كورونا –كوفيد 19، كما وقع تمديدها بموجب المرسوم رقم 2.20.230 الصادر في 18 أبريل 2020، والمرسوم رقم 2.20.371 الصادر في 19 ماي 2020، بغرض السيطرة على جائحة كوفيد 19، ومن ثمة الحفاظ على الصحة العامة للمواطنين وحمايتها من تداعيات هذه الجائحة. وتحسبا لموجة ثانية من الإصابات بهذا الفيروس، وحماية للأمن الصحي، عمل المرسوم رقم 2.20.406 على تمديد سريان مفعول حالة الطوارئ الصحية بسائر أرجاء التراب الوطني لمدة شهر إضافي، من يوم الأربعاء 10 يونيو 2020 في الساعة السادسة مساء إلى يوم الجمعة 10 يوليوز 2020 في الساعة السادسة مساء، بغرض تمكين السلطات العمومية من التدخل بصفة استعجالية، واتخاذ كل التدابير التي قد يقتضيها تطور وضعية الجائحة على مستوى التراب الوطني، خروجا عن مساطر التشريع الجاري بها العمل في الأوقات العادية. والملاحظ أن التمديد كان مقررا في مشروع المرسوم أعلاه لمدة شهرين، أي من يوم الأربعاء 10 يونيو 2020 في الساعة السادسة مساء إلى يوم الجمعة 08 غشت 2020 في الساعة السادسة مساء، قبل أن يتقرر هذا التمديد، في الأخير، لمدة شهر واحد فقط، وفق البلاغ الصحفي لمجلس الحكومة بتاريخ 9 يونيو 2020. وهو ما يؤشر على تباين وجهات النظر إزاء مبدأ التمديد ومدته، بالنظر لتكلفته العالية بالنسبة للاقتصاد الوطني الذي يتسم بالمحدودية من جهة، والتداعيات النفسية والاجتماعية لإجراءات الطوارئ الصحية على شرائح واسعة من المجتمع المغربي من جهة أخرى، مما لا يتسع معه المجال لتقييد الحركة والحريات زيادة عن اللزوم، خاصة أمام شدة وطأتها طيلة الأشهر الثلاثة الماضية. وغير خاف أن جميع المؤشرات الماكرو اقتصادية تنبأ عن وضع غير سليم أمام طول مدة حالة الطوارئ الصحية، مما انعكس سلبا على وضعية العديد من المقاولات التي توقفت جزئيا أو كليا، مع تسجيل اختلالات على مستوى سلاسل الإنتاج والتوريد، وتراجع قطاع الصادرات، وارتفاع معدل البطالة، وهي كلها مؤشرات على العجز المنتظر بالنسبة للمالية العمومية، التي ستتراجع مواردها، في الوقت الذي ستزداد الحاجة إلى الإنفاق العمومي. ويبدو أن هذه الاعتبارات كانت حاسمة في اتخاذ قرار استئناف الأنشطة الصناعية والتجارية ومهن أنشطة القرب، والمهن الحرة، وغير ذلك من الخدمات الأخرى في مجموع التراب الوطني، بناء على دلائل تبين إجراءات السلامة، والاحتراز التي يتعين التقيد بها سواء في القطاع العمومي، أو في القطاع الخاص بغرض تدبير مخاطر العدوى داخل فضاءات العمل. ولم يستثن من قرار استئناف الأنشطة الاقتصادية إلا بعض الخدمات ذات الصلة بالمقاهي والمطاعم والحمامات والمسارح والسينما، وهي خدمات شديدة الارتباط بالقطاع السياحي، حيث يبدو أن معاناة هذا القطاع مرشحة للاستمرار، ولو في فترة الذروة السياحية، في ظل استمرار إغلاق الحدود الجوية، وتجاهل التعاطي مع انتظارات مغاربة العالم العالقين بالخارج. وقد انعكس هذا التباين حتى على برمجة الجلسة العمومية بالبرلمان، والمخصصة لعرض ومناقشة خطة الحكومة لرفع الحجر الصحي، والاستراتيجية الحكومية لتجاوز مرحلة حالة الطوارئ الصحية من طرف رئيس الحكومة طبقا لأحكام الفقرة الثالثة من الفصل 100 من الدستور، ومقتضيات المواد من 278 إلى 283 من النظام الداخلي للمجلس، حيث وقع تقديمها بيوم بعد أن كانت مقررة ليوم 11يونيو. ثانيا: البعد الترابي في إجراءات التخفيف من الحجر الصحي يظهر من خلال الاطلاع على البلاغ المشترك لوزارة الداخلية ووزارة الصحة الصادر بتاريخ 9 يونيو 2020، أن مخطط التخفيف من تدابير الحجر الصحي، يتوقف على تطور الحالة الوبائية بكل عمالة أو إقليم. وبالرجوع إلى هذا المخطط، سنجده قد اعتمد العمالة أو الإقليم معيارا للتصنيف، أمام التفاوت المسجل في الحالة الوبائية لكل عمالة أو إقليم داخل الجهة الواحدة. وهذا التقسيم للتراب الوطني بناء على معيار العمالة أو الإقليم أفضى إلى تحديد منطقتين كما يلي: - المنطقة الأولى: وتشمل تسعة وخمسين (59) إقليما وعمالة تابعة لسبع جهات من أصل اثنا عشر، وتمتد من المنطقة الشرقية، مرورا بجهة بني ملالخنيفرة، ثم جهة درعة تافيلالت، وانتهاء بالجهات الأربع بجنوب المملكة، أي ما يمثل 80% من مجموع التراب الوطني، و61 % من مجموع عدد سكان المغرب، الذين أصبح بإمكانهم الاستفادة من ممارسة بعض الحريات و التخفيف من القيود المتعلقة بها لا سيما في ما يخص: أ- الخروج دون حاجة لرخصة استثنائية للتنقل داخل المجال الترابي للعمالة أو الإقليم؛ ب- استئناف النقل العمومي الحضري مع استغلال نسبة لا تتجاوز 50% من الطاقة الاستيعابية؛ ج - التنقل داخل المجال الترابي لجهة الإقامة، بدون إلزامية التوفر على ترخيص، والاقتصار فقط على الإدلاء بالبطاقة الوطنية للتعريف الإلكترونية؛ د - إعادة فتح قاعات الحلاقة والتجميل، مع تخفيض طاقتها الاستيعابية بمقدار النصف؛ ه- إعادة فتح الفضاءات العمومية بالهواء الطلق كالمنتزهات، والحدائق، والأماكن العامة؛ و- استئناف الأنشطة الرياضية الفردية بالهواء الطلق (المشي، الدراجات، إلخ...)؛ وتجدر الإشارة، إلى أنه موازاة مع إقرار هذه الحريات وتخويل حق ممارستها فرديا، تقرر الإبقاء على جميع القيود الأخرى التي تم إقرارها في حالة الطوارئ الصحية والهادفة إلى منع التجمعات، والاجتماعات، والأفراح، وحفلات الزواج، الجنائز وغيرها من المناسبات التي قد تؤدي إلى المساس بالتباعد الاجتماعي، كوسيلة احترازية لمنع انتشار وتفشي فيروس كوفيد 19. المنطقة الثانية: وتضم 16 عمالة وإقليم، ويظهر أن أكثر من 95 % منها يوجد في الشريط الساحلي للمحيط الأطلسي، ويغطي محور الجديدة - طنجة، حيث الكثافة السكانية جد مرتفعة، يضاف إليها عمالتي فاس، ومراكش، ثم إقليمالحاجب. وبالنظر لاستمرار تسجيل بؤر وبائية على مستوى هذه المنطقة، فهي لا تستفيد من تدابير التخفيف إلا جزئيا، مما يعني استمرار تقييد حرية الحركة، بحيث أن الخروج يقتضي التوفر على رخصة استثنائية للتنقل، بما فيها رخص العمل والرخص للاستفادة من الأنشطة الاقتصادية المسموح بها. كما أن حرية ممارسة التجارة بدورها مقيدة، أمام إلزامية إغلاق المتاجر على الساعة الثامنة مساء. فيما أصبح مسموحا استئناف النقل العمومي الحضري مع استغلال نسبة لا تتجاوز 50% من الطاقة الاستيعابية. وإذا كانت جميع القيود الأخرى التي تم إقرارها في حالة الطوارئ الصحية والهادفة إلى منع التجمعات، والاجتماعات، والأفراح، وحفلات الزواج، والجنائز وغيرها من المناسبات، لايزال العمل جاريا بها بالنسبة لمنطقة التخفيف الأولى، فإنه من باب أولى، تطبق كذلك بالنسبة للمنطقة الثانية، كتدابير احترازية، في أفق التحكم في انتشار الفيروس بها. كما أن الانتقال التدريجي، في إطار مخطط التخفيف من تدابير الحجر الصحي، من مرحلة إلى أخرى سيخضع مسبقًا لعملية تقييم الإجراءات الواجب تنفيذها والشروط اللازم توفرها على مستوى كل عمالة وإقليم، من طرف لجان اليقظة والتتبع، التي يترأسها السادة الولاة والعمال. والملاحظ هو استمرار غياب الجهات، ومختلف مستويات التنظيم الترابي للمملكة الأخرى، كالجماعات ومجالس العمالات والأقاليم، في القيام بأدوارها ولو في المرحلة التي تخص سن إجراءات بالتخفيف من حالة الحجر الصحي. وهذا الوضع الناتج عن تغييب المجالس المنتخبة، يسمح بالقول بتعطيل أهم المبادئ المؤطرة لتدبير الشؤون الجهوية بكيفية حرة وديموقراطية، وعلى أساس التعاون والتضامن بين الجهات طبقا لأحكام الفصل 136 من دستور 2011، خاصة وأن الجهة تتبوأ مكانة الصدارة بالنسبة للجماعات الترابية الأخرى. وهذه المرتبة تؤهلها لاقتراح ووضع برامج للتنمية الجهوية وتنفيذها وتتبعها بغرض المساهمة في تحقيق إقلاع اقتصادي جديد، والتخفيف من تداعيات الأزمة التي أصابت قطاعات اقتصادية واسعة نتيجة الإجراءات الاحترازية المطبقة لمحاصرة جائحة كوفيد 19. *أستاذ باحث بكلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بأكادير