هناك قول مأثور لدى سكان سفوح الأطلس الكبير الشرقي وتخوم درعة وتافيلالت مفاده أن الشرق لا تأتي منه إلا رياح الشرڭي وأسراب الجراد. وخلال القرن التاسع عشر، انضافت إلى هذه الجوائح الطبيعية المألوفة جائحة الغزو الفرنسي، التي قلبت بدون رجعة أوضاع التخوم الشرقية ومعها أوضاع المغرب رأسا على عقب، لتتأسس منذئذ حالة جوار صعب ما زالت تداعياته ماثلة للعيان إلى اليوم. ولعل المقام مناسب في ظل التوتر المتجدد لعلاقات البلدين لإثارة مسألة لا يزال البحث التاريخي يتفادى الخوض فيها إلا لماما، وتتمثل في إخضاع التاريخ المعاصر والراهن المشترك بين المغرب والجزائر لمقاربة علمية رصينة عوض الاكتفاء بالطرح الذاكراتي المناسباتي أو الانسياق مع التناول السّجالي الصحافي. فمعلوم أن الخطاب السياسي الدبلوماسي والثقافي المغاربي يردد بلا كلل لازِمةً ثابتة هي وحدة التاريخ والمصير المشترك وعمق الوشائج بين البلدين الشقيقين، وأن بناء المغرب "العربي" الكبير حتمية تاريخية وخيار استراتيجي، محيلا في ذلك على محطات تاريخية تعود في أغلبها إلى الفترة المعاصرة، تتجلى أكثر صفحاتها نصاعة في تضامن حركات التحرير خلال أواخر المرحلة الاستعمارية، والاحتفاء ببعض المناسبات والذكريات المرتبطة بها. لا مناص من الإقرار أن هذه اللّازمة مناسباتية فحسب، إذ تحتل مقدمة المسرح لتختفي بمجرد مرور ذكرى أو محطة من محطات التاريخ المشترك، لتعود بعدها كل مظاهر الفتور والجفاء، بل تنفجر أحيانا موجات تصعيد إعلامي كالتي نشهدها اليوم وتوترات دبلوماسية تُعيد نَكْءَ الجراح وتَرجع بمسيرة العلاقات المغربية الجزائرية إلى المربع الأول. ولعل واقع الحال اليوم غني عن البيان، إذ الحدود مغلقة والوِصال متعذر والآلة الإعلامية والدبلوماسية لدى الجيران وبعض المنابر لدينا مجنّدة لتوتير الأجواء وتأليب الرأي العام. الحقيقة أن مسؤولية هذا الواقع لا ينفرد بها الساسة وحدهم بسبب المشاكل التي تراكمت على مر العقود الأربعة الأخيرة من القرن العشرين وما انصرم من القرن الحالي، بل يتحمل المؤرخون في البلدين قسطا منها، لعزوف أغلبهم عن الخوض في وقائع تاريخ سنوات ما بعد استقلال البلدين بالذات، حيث وُضعت أسس العلاقات بين البلدين الجارين وشهدت أحداثا حاسمة تحكمت فيما جرى ولا يزال يجري إلى اليوم. فالأكيد أن عدم إماطة اللثام عن خبايا هذا التاريخ وإخضاعه لمنهج علمي صارم يروم الكشف عن العوامل المختلفة المتحكمة في مسار علاقات الجوار بين المغرب والجزائر وترك المجال للسياسيين والصحافيين أو بعض الكتَبة المحرّضين للخوض في أحداثه بطريقة انتقائية تلوي عنق كثير من الحقائق ساهم بشكل كبير في تسميم طريقة التعامل مع هذا التاريخ. وبعد كل ما جرى ونُذُر ما قد يأتي، نعتقد أنه آن الأوان لإخضاع تاريخ الجوار المعاصر والراهن لمشرحة المنهج العلمي الرصين، كخطوة على درب المصالحة مع الذاكرة والتاريخ المشتركين؛ لأن الركون لذاكرة انتقائية ومناسباتية والسكوت عن كثير من الرهانات والقفز على العديد من الحقائق أدى إلى تلغيم الأجواء وتراكم حساسية شديدة وأحقاد عميقة بشكل يهدد بالانفجار في أي لحظة، لأن عدم الاضطلاع بالماضي المشترك (assumer le passé) في تعقيداته وأبعاده من المحتمل أن ينفجر في الحاضر بشكل مدمّر. إنها مهمة الباحثين المغاربة والجزائريين الذين يتعين عليهم تحمل مسؤولياتهم بالإسهام في تنقية التاريخ المشترك مما علق به من شوائب وتلفيقات، لأن التوجه إلى المستقبل لا يمكن أن يتم بصورة مضمونة دون الاضطلاع بالماضي وكشف حقائقه وتصحيح كثير من الأحكام والمقولات التي يتم ترديدها، بعيدا عن المزايدات السياسوية والدعائية التي سممت الأجواء وما زالت. لن نخوض في الجذور البعيدة لعلاقات الجوار بين البلدين، إذ نعتقد أن الذاكرة والتاريخ المؤثرين حاليا في طبيعة هذه العلاقات يرتبطان بالفترة المعاصرة والراهنة، أي منذ الإنزال الفرنسي على الساحل الجزائري سنة 1830. فمن المعلوم أن المغاربة مخزنا ومجتمعا ابتُلُوا بنازلة سقوط البلد الجار المسلم في قبضة دولة أوروبية مسيحية، مما طرح إشكالات سياسية واجتماعية وفقهية داهمت مغاربة تلك الفترة، فضلا عن إحياء حادثة الغزو لتاريخ طويل من العداء وذكريات مريرة من الصراع الحضاري الشرس بين المغاربة والقوى المسيحية طبعت تاريخهم المشترك وأرست تمثلاتٍ في المخيال الجمعي لكلا الطرفين ما زالت تطفو على السطح حتى اليوم. الأكيد، إذن، أن مسار تاريخ المغرب تغير بصفة نهائية منذ احتلال الجزائر، إذ جُرّت البلاد جرًّا إلى دوامة الإمبريالية الرهيبة، فعصفت مؤامراتها وضغوطها بآخر الأسوار التي احتمت بها بنياتُها السياسية والاقتصادية والاجتماعية التقليدية، وفرضت واقعا جديدا لم تعهده البلاد منذ قرون صمدت خلالها أمام كثير من المحن والتحديات ليس أهوَنها التوسع العثماني والتهديد الصليبي الإيبيري. تجلى هذا الواقع في الجوار الصعب والمرير الذي فرض على المغرب مع استعمار استيطاني توسعي امتلك شتى أسباب القوة والجبروت التي جعلته منذ حلوله بشمال إفريقيا متوَثّبا ومهدّدا لحمى البلاد ولكيانها المستقل، فتوالت النكبات والمصائب منذئذ على بلاد المغرب وأهله. كثيرة هي الأحداث التي انطلقت شرارتُها من الجزائر أو بسببها منذ الإنزال الفرنسي في سيدي فرج ووجد المغرب نفسه متورطا فيها، وتحتاج إلى النبش في ثناياها لاستجلاء خلفياتها والوقوف على محددات مسارها، سعيا إلى إماطة اللثام عن جذور حالة الجوار المتشنج التي ميزت علاقات البلدين منذئذ. من هذه الوقائع المهمة بيعةُ أهل تلمسان للسلطان مولاي عبد الرحمان بن هشام التي اكتست مغزى سياسيا وتاريخيا اختُلف في تفسيره وتأويله، فذهب البعض إلى أن المخزن المغربي اغتنم فرصة انهيار حكم الأتراك لاسترجاع منطقة الغرب الجزائري التي ظل يعتبرها مغربية، بينما لم يُسلَّط الضوء كثيرا على دلالة لجوء أعيان وعلماء تلمسان وقبائلها إلى سلطان المغرب، رغم كون الخطوة تنم عن شعور ما بالانتماء لم يفصح عن مِثْله أعيان الجزائر العاصمة أو وهران أو غيرها من جهات النيابة التركية السابقة. لن نُسهِب في تناول تفاصيل الحدث ونكتفي في هذا المقام بإيراد المصادر أن السلطان استفتى علماء فاس واستشار رجالات المخزن حول أمر البيعة إياها، فاختلفت الآراء والمواقف، حيث أفتى بعض العلماء بوجوب قبولها، بينما أشار المؤرخ المعاصر أكنسوس إلى نهْي أغلبهم من "ذوي العقول الراجحة والآراء السليمة والطريقة الواضحة عن مقاربتها بأية حال من الأحوال، لأن تلك الناحية تَنُّورٌ مُتَّقِدَ الجِمار لا يصلُح تملُّكها إلا لكل جَلْفٍ جاهلٍ حمار (كذا)، كالأتراك السفهاء الأغمار (يقصد حكام الجزائر عهدئذ)، وأنها ما أُضيفت لهذه الدولة قطُّ إلا أثرت فيها فسادا وخَلَلا وأظهرت فيها آفاتٍ وعِلَلا، كما عُلِم ذلك في أخبار الدول السالفة" (الجيش العرمرم). بالفعل، لم يتأخر شؤم التدخل في شؤون الجزائر الذي تخوف منه العلماء في الحدوث، إذ جرت وقائع وتطورات كانت مقدمة لضريبة ثقيلة أداها المغاربة مخزنا ورعية تضامنا مع أهل الجزائر؛ ذلك أن ضباط وجنود كتيبة جيش الودايا التي بعثها السلطان رفقة عامله ارتكبوا أخطاء جسيمة في المدينة وأعمالها، فاستشاط السلطان غضبا وقرر معاقبتهم، ولما مثَلوا بين يديه أظهروا غاية الغِلظة والجرأة، فأمر بالقبض عليهم وإيداعهم السجن، لتندلع شرارة تمرد هذا الجيش المشاغب في يونيو 1831، "فماجَت فاسُ الجديدُ موْج البِحار وبرزت الفتن بعد الانْجِحار، وزَلزلت الأرض زلزالها وأظهرت الدنيا أهوالها، ونكرت أحوالهُا وأظلمت من فاس البالي أرجاؤها...وأشاع المرجّفون أن السلطان قتله الودايا فتسارعت الغوغاء والهمج إلى الطيب الوديني عامل فاس يريدون قتله" (أكنسوس). أمام خطورة الوضع، غادر السلطان فاس قاصدا مكناس لتتسارع الأحداث باستنفار الودايا لجندهم وشق عصا الطاعة، وتمت محاصرة قصبة شراڭة التي اضطر السلطان إلى اللجوء إليها، فاجتمع عليه الودايا وأهل السوس والمغافرة، ولم يتورع الأخيرون في إساءة الأدب معه؛ بل عزموا على الفتك به. وفي محاولة ثانية للنجاة بنفسه وبما خفّ من ذخائره، اقتفى الودايا أثره وردّوه مسلوبا إلى القصبة، "وجعلوا يعُدّون عليه ما نقِموا من الأمور، وأزالوا حِجَاب الحياء وتجرّدوا في أثواب الوقاحة وهو ساكت لا يجيب" (ابن زيدان، الإتحاف)، وآل الأمر إلى خلع مولاي عبد الرحمان وبيعة ابن عمه سيدي محمد بن الطيب، ليُفرَض الحصار على فاس قبل أن يستتب الأمر مجددا لمولاي عبد الرحمان بن هشام. لم يتنفس العباد الصعداء وتهدأ أوضاع البلاد إلا لتنشغل من جديد بتطورات جاءت من الجزائر وكان لها ما بعدها، إذ استُفتي علماء فاس من لدُن الأمير عبد القادر بن محيي الدين الجزائري حول حُكم مخالطة بعض قبائل بلاده للفرنسيين بالبيع والشراء وتخلفها عن الجهاد وما إلى ذلك، فتصدى للجواب بإيعاز من السلطان مولاي عبد الرحمان الفقيه علي بن عبد السلام مْديدْش التسولي. منذئذ، يمكن القول إن المغربَ ونخبَه السياسية والدينية انشغلت بما كان يجري بالجارة الشرقية، في ظل حالة من التوجّس والقلق والتعبئة أفضت كما هو معلوم إلى حرب واد إيسلي في صيف 1844، مُني فيها الجيش المغربي بهزيمة شكلت زلزالا عنيفا ارتجت له الأمة بأسرها وكارثة شديدة الوقع على النفوس، وحقّ للمؤرخ الناصري أن يصفها "بالمصيبة العظيمة والفجيعة الكبيرة التي لم تُفجع الدولة الشريفة بمثلها" (الاستقصا 9/ 53)، مما يفسر مظاهر القلق والحيرة التي عكسها الجدل الكبير الذي دار حينها في الأوساط الفقهية والسياسية حول موضوعات الجهاد وشروطه. ويكفي ذكر كتابات الكردودي والتسولي والعمراوي وغريط والفاسي الفهري للوقوف على ردود أفعال النخبة العالمة عهدئذ تجاه تهديدات الاستعمار وأطماعه المحدقة بتخوم المغرب الشرقية. تستدعي حركة الأمير عبد القادر بن محيي الدين التوقف عندها باعتبارها موضوع خلاف في إستغرافيا البلدين الجارين؛ فأغلب الكتابات التاريخية المغربية تذكر الدعم الذي قدمه مخزن السلطان مولاي عبد الرحمان بن هشام لمقاومة الأمير وتضامن القبائل المغربية مع حركته، ومنحه اللجوء مع قواته حين داهمت القوات الفرنسية عاصمته، الشيء الذي تسبّب في الاصطدام مع الجيش الفرنسي في معركة واد إيسلي وتوابعها. بينما تعتبر الإستغرافيا الجزائرية أن المغاربة خذلوا الأمير وضيّقوا عليه حتى اضطر للاستسلام للفرنسيين. لعل أحد أسباب الخلاف حول هذه الواقعة التاريخية يكمن في التناول الذاكراتي ذي المسحة العاطفية أو الطرح السجالي الذي يستغل التاريخ لأغراض غير علمية، وبالتالي تفادي تناول الأحداث وفق منهج علمي يروم إبراز خلفياتها ودوافعها الذاتية والموضوعية ومجرياتها، دون إصدار أحكام قيمة عليها ودون إسقاط اهتمامات الحاضر ورهاناته على الماضي. صحيح أن مخزن مولاي عبد الرحمان ساير الرأي العام في البلاد آنذاك في ضرورة نجدة الجيران وشد أزر حركة مقاومتهم بزعامة الأمير، فأمد المقاومة بالسلاح والمال ومنَح اللجوء لقبائل جزائرية بأسرها هاجرت بلادها "هربا من الكُفر وأهله"؛ غير أن التضحية والتضامن محكومان بمنطق المصالح العليا وبخطوط قد يتعذر تجاوزها: فالسلطان مؤتمن على سلامة بلاده وحماية رعيته أولا، والحال أن مواصلة دعم حركة المقاومة الجزائرية التي اتخذت التراب المغربي قاعدة لها بات يهدد البلاد في مصيرها، فكان قرار مولاي عبد الرحمان بحسم أمر الأمير عبد القادر موافقا لقاعدة أهون الشرور ودرء المفاسد. وهو ما قد يتعذر فهمه في حالة عدم الاحتكام للتحليل الموضوعي الرصين لأحداث ووقائع تاريخية، وإفساح المجال للأهواء والاعتبارات الأخلاقية أو غيرها. فمن غير المعقول أن يؤاخذ مولاي عبد الرحمان بعدم التضحية باستقلال بلاده في سبيل التضامن مع حركة عبد القادر الجزائري. لم يقتصر ما جرى في واد إيسلي على انهزام الجيش المغربي وتمريغ سمعة البلاد في الوحل وتهديد استقرارها، بل كانت الهزيمة مقدمة لاغتصاب التخوم الشرقية والجنوبية الشرقية، بدءا بالمنطقة الفاصلة بين واد تافنا- الحد الذي اتفق عليه السلطان محمد الأول والأتراك- وواد كيس، ليتوالى اغتصاب الأرض المغربية طوال القرن التاسع عشر إلى غاية أواسط ثلاثينيات القرن العشرين. هنا نقف على واحدة من عُقَدِ الجوار بين البلدين ومن الطابوهات التي ينبغي مقاربتها بموضوعية، دون نَصْبِ محاكم للتاريخ ورهن مستقبل العلاقات بين البلدين وجعله مشدودا للماضي إلى ما لا نهاية. فمعلوم أن النظام الاستعماري الفرنسي جعل من مستعمرة الجزائر قاعدة لإنهاك المخزن المغربي طيلة القرن ال19 وبداية القرن العشرين، فخلق وضعا متوترا في مناطق الحدود وتسبب في خلخلة التوازنات الاقتصادية والاجتماعية والمجالية، لتبرير زحف جيوشه واغتصاب امتدادات وواحات تخوم الصحراء الشرقية؛ الشيء الذي زرع عوامل توتر ونزاع في علاقات الجوار بين البلدين بسبب الحدود، إذ ظلت السلطات الاستعمارية في الجارة الشرقية تختلق المتاعب للمخزن بخصوص الحدود بالذات، التي كانت الثغرة التي تسرب منها الغزو لبلاد المغرب منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر، وليس مع إبرام عقد الحماية كما قد يعتقد البعض، ذلك أن المخزن واجه ضغوطا رهيبة استنزفت جهوده وإمكانياته وفقد على إثرها كل الصحراء الشرقية التي أكمل الفرنسيون سيطرتهم عليها باحتلال توات سنة 1900، ومن هذه الحدود بالذات تغلغلت القوات الاستعمارية بعد ذلك. وخلال أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، ساهمت مجموعة من الظروف في تبلور نضال مشترك للحركات الوطنية المغاربية، أفرز آمالا ببناء جوار واعد يفتح آفاقا رحبة للتعاون، ارتكازا على لحظات تاريخية قوية خُضّبت بدماء الشهداء وشكلت فترة مفصلية لفهم راهن علاقات الجوار بين البلدين؛ بيد أن اقتحام هذا التاريخ الراهن محفوف بصعاب منهجية بسبب الحساسية التي لا تزال تكتسيها المرحلة، على الرغم من أن ذلك يظل مهمةً أساسية كفيلة بنفض الغبار عن وقائع وحقائق بقيت في الظل. صحيح أن التضامن وأخوّة السلاح خلال معارك التحرير ساهما في صنع سلسلة ذاكراتية مشتركة، من أهم محطاتها تجربة مكتب المغرب العربي ولجنة تحرير المغرب العربي وتأسيس جيشي التحرير الجزائري والمغربي، وما تلا ذلك من محطات فاصلة، مثل 20 غشت 1953 وفاتح نوفمبر 54 و2 أكتوبر 55. إنها أحداث ذات شحنات رمزية قوية، لكن التناول التاريخي الرصين يقتضي إماطة اللثام عن كثير من خباياها وتجريدها من مسحة التمجيد المبالغ فيه لأدوار وبطولات الفاعلين دون تحامل أو تعسف. من ذلك ضرورة تسليط الضوء على الخلافات بين زعامات مكتب المغرب العربي ولجنة تحرير المغرب العربي بالقاهرة، والكشف عن اختلاف الطباع والطموحات الشخصية والحزازات ودورها في تباين مواقف هذه الزعامات، فضلا عن تباعد التوجهات السياسية والفكرية وثقل الواقع السياسي لكل بلد، وانعكاسات كل ذلك على المواقف من كيفية مواصلة الكفاح من أجل الاستقلال أو بناء الدولة. لا مناص من الإقرار بعدم تناول البحث التاريخي، إلى حد الآن، لمثل هذه الأمور واقتصاره على ترديد التناول الذاكراتي القائم على إبراز مظاهر التضامن والكفاح والمصير المشتركين. لما حصل المغرب وتونس على الاستقلال سنة 1956 شكل ذلك منعرجا حاسما في مسار الجوار المتوتر بين المغرب والجزائر، حيث ترك الحدث مرارة لدى النخبة الجزائرية وشعورا عميقا بالتخلي، على الرغم من الدور الحاسم للبلدين المستقلين في دعم الثورة الجزائرية. ولعل هذه المرحلة بالذات، بتعقيداتها ورهاناتها وخيْباتها، هي مربط الفرس عند محاولة استجلاء عوامل الجفاء والعداء المستحكم بين الجزائر والمغرب. واللافت في هذا الصدد هو أن الخطاب الذاكراتي يتفادى الخوض في تطورات سنة 1956 وما بعدها، بينما الخطاب المؤسِّس لوطنيات ما بعد الاستقلال يتخذها مرجعية له. لن يسعف المقام بالإسهاب في نبش زوايا الوقائع وخلفياتها سعيا إلى كشف انعكاساتها على الجوار. لذا، سنتوقف عند بعض المحطات، ونبدأ باستقلال المغرب الذي يمثل إحدى العُقد المضمرة لدى النخبة الجزائرية التي نجد صداها يتردد في بعض الكتابات ضمنا أو تصريحا، سواء في شكل عتابٍ أو مرارةٍ واتهامٍ من جهة، أو تبريرٍ وتسْويغٍ من جهة أخرى. والحال أن حدَثًا بحجْم استقلال بلد من ربقة الاستعمار أكبرُ بكثير من أن يُختزل في مراعاة مشاعر الجيران أو الالتزام بأجندة اللاجئين في القاهرة؛ فتفاوض السلطان محمد بن يوسف المنفِي والمعزول من عرشه وزعماء الحركة الوطنية حول استقلال البلاد لم يكن ليرتهن بمآلات الثورة الجزائرية وبرغبات لجنة تحرير المغرب العربي، مهما قيل عن تنسيق الزعامات بالقاهرة أو التزامات قيادات جيوش التحرير، إذ لا يجب أن يغيب عن البال أن في المغرب دولةً عريقةَ المؤسسات فُرض عليها الحجر والحماية في خضم مؤامرات امبريالية امتدت لعقود، فواتتها الفرصة للانعتاق بفضل نضالات سلطانها وشعبها وقواها الوطنية، كما فَرَض منطق الأحداث والمصالح العليا أن يكون المخرج تفاوضيا، عكس الوضع في البلد الجار حيث فَرض استتباب النظام الاستعماري الاستيطاني لمدة تناهز 132 سنة واقعا مغايرا يفسر خوض حرب تحرير دموية دامت 8 سنوات، واندفاعا ثوريا لزعاماتها الشابة، وغير ذلك مما يجب استحضاره عند الخوض في لجة أحداث الاستقلال، وإلا تعذّر فهم مسارات ورهانات السنوات الحرجة الفاصلة بين استقلال البلدين. لن نتوقف كثيرا عند مؤتمر طنجة في أبريل 1958، حيث أكدت الأحزاب الوطنية المغاربية على مواصلة التضامن ودعم جيش التحرير الجزائري رسميا وشعبيا رغم هشاشة استقلال المغرب؛ لأنه سرعان ما استعاد الجوار سمته الغالبة، ذلك أن مطالب المغرب بخصوص استكمال تحرير كافة أجزاء ترابه المغتصَبة، ممثلة في واحات تيديكلت وتيڭورارين وتيندوف وتيميمون (الصحراء الشرقية) والساقية الحمراء وواد الذهب وشنقيط، شكلت الصّخرةَ التي لم تصمد أمامها مشاعر التضامن وشعارات الكفاح المشترك، فانضاف عامل حاسم آخر لحدة توتر الجوار المتوتر أصلا انتهى كما هو معلوم بحرب الرمال سنة 1963، وما رافقها من تدخل مصري زاد من حدة العداء بين البلدين، فتركت هذه الحرب القصيرة جراحا لم تنْدَمِل بعْدُ ويتواصل نزيفها في صحراء الساقية الحمراء وواد الذهب وتيندوف، حيث تجنّد الجزائر كافة إمكانياتها لمعاكسة استرجاع المغرب لجزء من أراضيه بشكل زاد من استحكام العداء والجفاء بما يهدد بتفجير المنطقة. هي أحداثُ جِسامٌ ومحطات مفصلية في مسار هذا الجوار المتوتر تنتظر تحرير تناولها من الطابع الانفعالي السجالي كما أسلفنا. ولعل أولى خطوات ذلك تتمثل في تقديرنا في ضرورة التسليم بأن المعرفة التاريخية يجب ألا تُستغلَّ في حروب الذاكرة ونصب المحاكمات وتأليب الشعوب ضد بعضها. من هنا مسؤولية المؤرخين المغاربة والجزائريين في تحرير التاريخ المشترك من نزعة التبرير والتسويغ والتحريض والتبعية لرهانات النخب السياسية، إذ تقتضي المسئولية التاريخية "تحمل" الماضي القريب والاضطلاع به (assumer) في كافة أبعاده وتعقيداته، لما للإحجام عن ذلك من عواقب خطيرة تكمن في اكتساح الماضي للحاضر بطريقة فوضوية حُبلى بأخطار مصيرية، لعل أبرز مظاهرها تأجيج الأحقاد عند أول توتر وتبرير التوجهات الانتقامية وتسميم علاقات الشعوب ورهن حاضرها ومستقبلها. فلا مفر من الإقرار بأن البلدين بحاجة إلى تاريخ علمي موضوعي غير مُقَوْلَب يساهم في مناعتهما أمام التحديات الهائلة التي باتت تنذر بأوخم العواقب، والقطْع مع الطرح الذاكراتي المنمَّط الذي تنفر منه أجيال اليوم ومن تكرار خطاب نقيض لما يجري في الواقع، إذ الحقيقة أن "التكرار الطقوسي الاحتفالي" لِلَازِمَة الوحدة والمصير المشترك يخفي العجز المزمن والفشل الذريع في تنزيلها على الأرض. نختم بالقول إن المغرب والجزائر بحاجة إلى التصالح مع تاريخهما القريب وذاكرتهما المشتركة، وإلى تحمل مؤرخيهما ونخبهما الثقافية لمسؤولية إزالة ألغام هذا التاريخ، بكشف الحقائق والاضطلاع بها بحيادٍ وجُرأة، وعدم استغلال التاريخ لتأجيج النعرات ونكء الجراح وتصفية الحسابات؛ لأن دور التاريخ كعلم ليس إثارة حروب أبدية، بل عرض الأحداث ومحاولة تفسيرها سعيا إلى استجلاء مسبباتها وسيرورتها وتأثيرها على مسار التطور، وأخذ العبر والدروس لعدم تكرار السقوط في المطبات والمعيقات. *كلية الآداب سايس، فاس