تواجه كتابات السيرة الذاتية سؤالا إشكاليا يتعلق بالهوية والتصنيف كنوع أدبي٬ يعكسه الإرباك والتردد الذي يواجه به المحفل النقدي هذه الأعمال التي تجعل ذات الكاتب محورا لها. وبدت هذه المراوحة جلية بين من يعتبرها توثيقا لفصول من حياة شخصية وبين من يقاربها كعمل روائي يتجاور فيه الواقعي والتخييلي٬ في الندوة التي نشطها اليوم السبت روائيون ونقاد٬ تحت عنوان "السيرة الذاتية أو فن تحويل الحياة الى رواية". ويرى الناقد المصري صلاح فضل أن السيرة كانت دوما عنصرا جوهريا في الكتابة الروائية٬ حتى وإن توارت الذات وبدا الكاتب بعيدا عن التورط في علاقات وحياة الشخوص وفضائها. ويمضي الناقد الى القول إن الخبرة السير ذاتية هي التي تملي صناعة المواقف وتوظيف تقنيات السرد وزوايا الرؤية بحيث لا ينتج الكاتب عملا مطابقا تسجيليا لزمنه. فكتابة السيرة فن يتغذى بالحدث الشخصي لكنه يسبك مادته ويثريها بالتخييل والتأمل واللغة والأسلوب السردي٬ بحيث تنأى النصوص "عما حدث فعلا في الواقع". واستحضر صلاح فضل مقولة أرسطو: السيرة الذاتية ليست تاريخا٬ بل فنا٬ والفن أصدق من التاريخ٬ وفي المقابل فإنه لا يمكن لرواية مهما كانت موضوعية أن تخلو من الخبرة الشخصية للسارد٬ من مذاق الحياة على لسانه٬ ووقع الأشخاص وإيماءات الذاكرة...ففي النص الأدبي "لا حياد..لا براءة". من جانبه٬ بدا الناقد المغربي أحمد اليابوري متحفظا في المماثلة بين كتابة السيرة الذاتية والصناعة الروائية٬ بين نص متمحور حول الذات٬ وآخر يدمج حضور الذات لكن الى جانب ذوات أخرى٬ بحيث أن جدارة الانتماء الى الرواية كنوع أدبي لا تتحقق الا بتوفر عنصر "تعدد الأصوات". ويفصل اليابوري رؤيته في هذا المجال قائلا "إن الرواية لا توجد إلا حين يقص الكاتب الحبل الذي يربطه بسيرته. يتغذى بها ٬ نعم٬ لكن ليس له ان يظل رهينتها". وأوضح الناقد المغربي أن السيرة الذاتية نوع هجين يقبل عليه الأدباء والنجوم والعاديون٬ ويقوم على استرسال خطي هادئ للأحداث٬ بينما يظل "التوتر" مصنع هوية العمل الروائي. عن المسافة بين الذاتي والروائي في كتابة السيرة الذاتية٬ يقول الباحث والناقد عبد الرحمان طنكول إن هذا النوع الأدبي يسمي نفسه أحيانا ٬ وأحيانا أخرى يأتي مضمرا في النص الروائي٬ وهذا سر الارتباك في المقاربة النقدية لهذا العمل الإبداعي وتفكيك آليات اشتغاله. واعتبر طنكول أن السيرة الذاتية مختبر للتجديد والابتكار فضلا عن جاذبيتها الجماهيرية بالنظر الى تمحورها حول تجربة الفرد٬ ليخلص الى القول ان كتابة السيرة الذاتية تدفع في اتجاه إنتاج حداثة التخييل السردي. وبوصفها عملية وساطة بين الذات والواقع٬ يرى أحمد المديني٬ كاتبا وناقدا٬ أن السيرة الذاتية تضع الأنا في قلب التاريخ الموضوعي٬ من خلال الجمع بين البوح والخيال الذي يفسح أمام الذات مساحة التواجد في مضمار الأدب. وعرج مؤلف "الجنازة" على الشروط الموضوعية لانتاج نصوص رفيعة في السيرة الذاتية٬ مشددا على أن هذا المطمح لا يتحقق إلا في مجتمع حر متخلص من كل أنواع المحظورات٬ ليعلن رفضه لإضفاء الطابع الأدبي على النصوص السير ذاتية التي تبني مادتها على أساس أخلاقي خطابي. هي الفكرة ذاتها التي بلورها الروائي عبد الكريم الجويطي حين قرن تطور السيرة الذاتية بنضج مجتمع المدينة والحداثة٬ الذي يسهل انبثاق الذات والقيمة الفردية للكائن المنفلت من سطوة الجماعة.