في السوق القديم، يجلس أوبلعيد قرب رحبة الزرع بجلبابه الأمازيغي المخطط كما بقية الملاحين. افترش محملا من الحلفة وأسند ظهره للنخلة السامقة، يراقب بقية المحامل أمامه كما الشاميات وبعض الأحجار الوردية في انتظار زبائن قادمين. السوق في لحظاته الأولى، أولاد سيدي احماد وموسى في حركات بهلوانية يقفزون من الأرض إلى أعلى للمشي على السلاسل المعلقة تحت تصفيقات ناس الحلقة، وبعض شيوخ القصبة والكلال يستميلون الوافدين بقصص رأس المحنة وأزليات عنترة بن شداد وبطولات حَيدرة والإمام علي وسيفه البتار. بينما يفرغ الفلاحون برحبة الزرع أكياس القمح والذرة والشعير وفي الرحبة المقابلة أحضر بعضهم، في سلال من القصب، الإقور (لفت بلدي مجفف) والكرسن (مشمش مجفف) والبيض البلدي، والتين المشمس المدفون في النخالة الرقيقة، كما عرض آخرون جرار السمن الحائل والزبدة الطرية وأزيار زيت الزيتون وأكياس اللوز وبعض المَزاود الجلدية من القمح المَشوط. بدأت حرارة السوق ترتفع كما حرارة الجو، نزع أوبلعيد لثامه المرابطي كاشفا عن لحية كثة شقراء وعينين زرقاوين وعن وملامح اختلطت فيهما الحمرة بالبياض، انتعل نعله المضفور من الحلفة (الكديم) فوق جواربه الصوفية المنسوجة بإتقان استعدادا للمتاجرة، بعدما استعاد أنفاسه من رحلة كلفته ورفاقه نصف يوم وليلة، على ظهر بغال قوية عليها مَحامل من الحلفة (زنبيل بالفصحى/المعاني الجامع)، وبعض الشاميات التي تستعمل في المعاصر التقليدية لعصر الزيتون، وبكل تأكيد أحجار تَسنت الوردية المستخرجة من إفران (كهوف) جبال تاسيوانت. رحلةٌ كل شهر لا تعرف حرا ولا قرا، حيث لا يُنسيهم قطع فيافي الحلفة إلا الدشير، أي الأذكار التي ينشدها الحاج عقا ويرددها من بعده حدو وأوبلعيد واحساين. رغم أن أوبلعيد يتمرد أحيانا على هذه الطقوس، فتسمعه يصدح بتامَوايت، غير مبال بوجود الحاج عقا ولا بما يفرضه وجوده من الوقار، فللحاج مكانة اجتماعية خاصة، استمدها من رحلة الحج التي تطلبت منه ما يناهز السنتين مشيا على الأقدام ذهابا وإيابا. إلى السوق يتقاطر الناس فرادى وجماعات ولكل غاية يقصدها. أوبلعيد كما رفقاؤه الآتون من جبل تاسيوانت وأولاد علي والمداشر المحيطة، غايتهم بيع الملح والشاميات والمحامل والقفاف، ثم شراء ما يلزم أسرهم وإعالة أبنائهم المتمدرسين بالمراكز القريبة أو المدن الجامعية. نظر أوبلعيد إلى الشمس، فإذا بها تتوسط السماء. الوقت يداهمه وله في السوق مآرب أخرى يجب أن يقضيها وسلعته لم تنفذ بعد، نظر إلى يديه الخشنتين متنهدا وهو يتذكر كَم من الجهد تطلب منه التنقيب في المَلاحة للحصول على الملح الحية وعلى عين الملح خصوصا، أي تلك القطع البلورية الصافية من كل الشوائب والتي يسعى الناس في طلبها للتداوي أو الطهي، غير ناسٍ خدوش الحلفة ووخزاتها اللادغة كما العقارب السوداء أثناء عملية الضَّفر. هو يعلم أن سلعته لا تبور، وإن اقتضى الأمر سيستودعها حارس السوق. فهو يعشق هذا السوق الرائع حيث ظلال النخيل وماء العيون على بعد خطوات، والمحاط بجدار من الإسمنت والأحجار المصفوفة بشكل جذاب، بُنِي بسواعد المحليين وتحت إشراف مخزن الݣوم من المغاربة والجزائريين والسنغاليين كما أغلب الطرق والبنايات، حيث كانت الأسر تتناوب على هذا العمل الإجباري في ما يسمى ب "الأربعة أيام"، أي أربعة أيام من العمل المفروض لكل ذكر بالغ وقادر من كل أسرة. تحت غزو الأملاح المصنعة، هجر أوبلعيد والآخرون الملاحات فأصبحت كهوفا خالية، كما هجروا السوق القديم، بحثا عن موارد أخرى ومكاسب أفضل، فيما ظهرت بعض الدراسات والأبحاث اليوم تحث الناس على استهلاك الملح الحية كونها مصدرا للعديد من المركبات المعدنية المفيدة، بدل السم الأبيض المستورد والذي يغري بياضه ونعومته وحسن تلفيفه. صحيح أن أوبلعيد والحاج عقا والآخرين كانوا يتاجرون في جواهر طبيعية وصحية، لا يعلمون عن قيمتها سوى ما تذره من مبالغ تكفيهم لإعالة أسرهم، لكن هؤلاء على بساطتهم، قدموا دروسا للأجيال اللاحقة حول مفهوم الانتماء للأرض واستغلال موارد الطبيعة دون جشع ومن غير إلحاق أي ضرر بها ولا بزبنائهم، دروسا حول الإبداع في التشغيل الذاتي بذكاء جمعي، حيث استثمار الموجود من أجل استمرار الوجود. *فاعل جمعوي وإطار وتربوي