الجائحة هي الشدة والنازلة العظيمة التي تجتاح المال من سَنَةٍ أو فتنة، وكل ما استأصله فقد جاحه واجتاحه، وجاح الله ماله وأجاحه بمعنى: أي أهلكه بالجائحة. وقد اتفق العلماء على أن ما أصاب الثمار من عطش أو برد أو قحط وكل آفة سماوية فهو جائحة. أما ما كان من الآدميين كالسرقة وفتنة وعبث جيش وغير ذلك فاختلف أهل العلم فيه، هل هو جائحة أم لا؟ فالثمرة إذا بيعت بعد بُدُوّ صلاحها وسلمها البائع إلى المشتري ثم أصابتها جائحة، هل تكون من ضمان البائع أم المشتري؟ هنا اختلف الأئمة، وفهم كل واحد منهم على غير ما فهمه الآخر. المذهب الأول: ذهب جمهور الشافعية والأحناف والكوفيين إلى أن ما ترتب عن الآفة هو في ذمة المشتري وضمانه، ولا شيء منه في ذمة البائع، واحتجوا بالأثر والنظر. أما الأثر فبما في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري قال: أُصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تَصَدَّقُوا عليه»، فَتَصَدَّقَ النَّاسُ عليه، فَلَمْ يَبْلُغْ ذلكَ وَفَاءَ دَيْنِهِ، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ لِغُرَمَائِهِ: «خُذُوا ما وَجَدْتُمْ، وَليسَ لَكُمْ إلَّا ذلكَ». وجه الاستشهاد: أن المشتري لما كثر دائنوه وعجز عن الأداء لم يسقط عنه الرسول صلى الله عليه وسلم ما ترتب عن الجائحة، فدل ذلك على أنه من ضمانه جملة. وأما من ناحية النظر فشبهوا هذا البيع بسائر المبيعات، ورأوا أن تخلية الثمار بعد بُدُوِّ صلاحها من المشتري عند البائع بمنزلة قبضها. فلما كان كذلك توجه الضمان إلى المشتري كما لو وقع الإتلاف في غير ذلك، إذ الاتفاق على أن ضمان المبيعات بعد القبض من المشتري لا غير. المذهب الثاني: مذهب الإمام أحمد وأصحاب الحديث وقول الشافعي في القديم وسواهم أن ما أصابته الآفة يوضع عن المشتري بينما يتعلق الضمان بذمة البائع. واحتج من ذهب إلى هذا المذهب بحجتين: الحديث والقياس. أما الحديث، فبما في صحيح مسلم وغيره عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَوْ بِعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمَرًا، فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ، فَلَا يَحِلُّ لَكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا، بِمَ تَأْخُذُ مَالَ أَخِيكَ بِغَيْرِ حَقٍّ؟». وقالوا: في الحديث دليل واضح على وجوب إسقاط ما اجتيح من الثمرة عن المشتري. أما من ناحية النظر فاستعملوا قياس الشبه، ذلك أنهم شبهوا هذا البيع بعامة المبيعات، لأنه لما كان المبيع ما يَزال عند البائع وبقي عليه حق توفيته بدليل ما عليه من سقيه إلى أن يكمل كان الضمان عليه كسائر المبيعات التي بقي فيها حق التوفية. المذهب الثالث: الإمام مالك ذهب إلى أن الجائحة إذا أصابت الثلث فأقل كانت من مصيبة المشتري، وإذا كانت أكثر فهي من ضمان البائع. فهو في المرحلة الأولى يستقل بالحكم ولا يشارك غيره، وينقل أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قضى بما ذهب إليه. وفي المرحلة الثانية يذهب مذهب أهل الحديث وغيرهم من الفقهاء. احتج أهل هذا القول بآثار تمسكوا بها ووجهات نظر، أما الآثار التي احتج بها أتباع مالك فما روي عن طريق عبد الملك بن حبيب، حدثنا مطرف عن أبي طُوَالة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أصيبت ثلث الثمرة فقد وجب على البائع الوضيعة» قال عبد الملك: وحدثني أصبغ بن الفرج عن السبيعي عن عبد الجبار بن عمر عن ربيعة الرأي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أمر بوضع الجائحة إذا بلغت ثلث الثمر فصاعدا». واحتج المالكية أيضا بعمل أهل المدينة في المسألة. هذه هي أقوال المجتهدين ومناهج العلماء وآراؤهم في وضع الجوائح، وهذه هي مآخذهم ومداركهم كل حسب قواعد مذهبه وما اشترطه لاستخراج الأحكام من الأدلة. فالأول يرى أن البيع قد تم بتراضي الطرفين وأن العقد صحيح أمضاه كل منهما، فإذا كان كذلك فلا معنى أن يرجع المشتري على البائع بما أصاب المبيع، والفرض أنه لا شرط بينهما يفسخ العقد. والثاني يرى أن عموم البيع قائم على حاله وأنه لا يفسخ إلا بانعدام ركن من أركان البيع أو عارض يطرأ على البيع يكون الشارع قد استثناه من العقد وألزم فيه أحد الطرفين باحترامه وتنفيذه، فالجوائح هي ما استثناه المشرع وألزم فيه، بصريح النص الصحيح، البائع برد مال أخيه المشتري. أما الثالث فهو من طرف مذهبه يرى البيع ناجزا والعقد صحيحا لو تم للمشتري أخذ مبيعه، أما وقد أصابته آفة فلا معنى لتحمل المشتري الجائحة، فتكون من ضمان البائع عملا بنص الحديث. وفي الطرف الموالي يستعمل العرف والعمل ويجعلهما حجة في مذهبه. *باحث في القانون العام