مذ بدأت أدرك العالم، العالم الزئبقية طباعهُ، الخَلَبِيَّةُ المخاتلةُ وعودهُ، غدا حلمي أن أكون أستاذا. كنت أحب السبورة، وأرى سوادها القاتم لوحة مزركشة ألوانها كما لو أنها زربية أمازيغية ذائبة ألوانها في بعضها مثل قوس قزح ولودٍ يتشكل في رحم السماء كلما كفَّ المطر وبانت الشمس من خدرها، فأمتطيها، امتطاء فارس، جعلته الدُّربة حرِّيفا... وأطير أطير أطير، أطير بكل ما في خيال الأطفال من رحابة وخصوبة، كأنه قطعة أرض سودانية... أطير إلى حدٍّ لا حدَّ له، وكلما نموت، ربَا هذا الحلم بداخلي، وتعرشت أغصانه كلبلابة موطنها حدائق هسبريس المغربية، قبل أن يقبلها البحر، فيغرقها، وحب البحر، مغرق.. ربا الحلم حتى ما عاد يترك لباقي الأحلام أن تزاحمه، حتى ما ترك مزيدا لمستزيد... ولأني محظوظ، جدا، تحقق حلمي. حين صرت أستاذا عرفت جسامة المهمة وصعوباتها، وتغيرت -قليلا- تلك النظرة الحالمة الوردية مثل أحلام المراهقين. ولكني ظللت أحبها، وظل القسم يعني لي ما يعنيه الدِّير للراهب، ما تعنيه، الخلوة للمتصوف... فتخلقت بيننا كهرباء جميلة تستطيع أن تقتلعني من سفوح الهم ومطامير الضغط، لتعوم بي في مروج النسيان، وحدائق الرضا بالنفس.. في القسم تتملكني حضرة ينقصها الدف والناي، حتى أرقص رقصة سما الصوفية.. في القسم هناك روح شبيهة بروح الجذبة، هناك وجْد... ولذلك، وفوق ذلك، لم أفكر يوما أن أجتاز امتحان الإدارة التربوية، أو الحراسة العامة. لست أستطيع! أعرف، أعرف أن البعض سيرى في أن موقفي يكتنفه الكثير من اليُوتوبيا، وأني أفلاطوني الهوى، لكن هذا هو الحاصل. أحب القسم، أحب تدريسي للعربية. وأسعد، كما يسعد طفل بكسوة العيد، إذا ما رأيت ذاك البريق الذي ينتشر في مُقل التلاميذ إذ يفهمون الدرس، أو يتذوقون جمال النصوص، أسعد بكلمة شكر تأتيك من طالب في الجامعة، لم ينس مروره من فصلك، أو من أحد جاء يخبرك أنه أحب المادة، واستمر في الدراسة "بسببك" أو أنك كنت أحد الأسباب..، ولا أفهم لماذا لا يصدقني بعض الزملاء حين أخبرهم أنه حتى لو عرضت على مهنة الإدارة أو الحراسة أو غيرها من المهام والمهن المتعلقة بالمنظومة التعليمية التربوية، هكذا بدون دفع ملف للترشيح واجتياز امتحان ولا أي خطوة. لن أقبل... أحب القسم، رغم كل الشغب الكائن، رغم الشغب الممكن، رغم التحول السريع لنفسية التلاميذ ومستواهم وبينتهم الذهنية وأحلامهم ونمط حيواتهم.. رغم الصوت الذي بح وكأني سكير لا يفارق ندماء صعاليك، رغم التصحيح، المتعب، تعبا لا يوازيه تعب، رغم تراجع مستويات النظر، رغم المقررات المحنطة ككومياءات فرعونية، رغم التراجعات، رغم تهميش دور الأستاذ وتحميله فشل المجتمع والعالم . . رغم غياب الشروط، رغم الرَّغم نفسه، أحب القسم. ثم، متى كان الحب معللا، مبرهنا. أليس يقال: للقلب أسبابه التي لا يعرف عنها العقل شيئا! المجد للقسم، للسبورة، لجملة: أستاذ، لم أفهم، ممكن أن تعيد الشرح... *كاتب وأستاذ لغة عربية ثانوي تأهيلي