أخيرا حصلتُ على بطاقة تعريف. اسمي الكامل الآن هو "عماد الطنجاوي"! لم يكن الأمر أبدا ببساطة كتابة هذا السطر. بل قضينا شهرين أنا وشروق بين كرّ وفرّ ورجاءٍ وأموال تُصرف. تصرفها شروق طبعا وليس أنا. المحكمة.. الإدارات.. الوساطة.. الرشوة أحيانا.. فعلت شروق كل ما استطاعت دون أن تكلّ أو تملّ، لأمسك في الأخير هذه البطاقة بين يديّ. ولعلّ أروع ما فيها هو الاسم العائلي الذي اخترته لنفسي.. الطنجاوي. الحقيقة أنني ما كنت لأختار أو حتى يخطر ببالي لقب آخر. فأنا لم أتعلق في حياتي سوى بشخص وأرض.. ذاك الشخص هو أنا، وتلك الأرض هي طنجة. أصابني الدوار والكلل أكثر من مرة وطلبت من شروق، راجيا، أن نتوقف وننهي كل شيء وتعود الأمور إلى نقطة الصفر كما كانت. كلمة "التغيير" في حد ذاتها ترهقني.. فما بالك بكل ما نفعله؟ ! لكن شروق تمتلك إرادة حديدية لا يفلّها شيء. دائما تقول لي أن ما مضى كان أصعب.. وأنا ما بقي أمامنا هو الأسهل والأقصر.. فهل ننقضُ غزلنا من بعد قوّةٍ أنكاثا؟ تقنعني فأواصل مجاورتها والكفاح معها بما استطعت. أشعر بسعادتها لقربي منها، والسؤال لا يفارقني: "أحقّا أستحقّ كل هذا، أم....؟". البارحة ذهبنا أنا وشروق لنسحب جوازيْ سفرنا. أوصلتها إلى الفيلا الصغيرة التي تقيم فيها مع والدتها. قبل أن أودعها قالت لي: - الآن، جاء وقت الجدّ. عليك أن تستعد لتأتي لخطبتي غدا أو بعد غد. لقد أعددتُ كل شيء. والدتي لم تهتم كثيرا بالتفاصيل ما دمت أنا مقتنعة وأرى في ذلك سعادتي. أخبرتها أن والديك "ليسا هنا" وعائلتك أيضا. لم أكذب عليها عموما فعبارة "ليسا هنا" تحتمل معاني كثيرة. عائلتي صغيرة ولن نجد معها مشكلة. طبعا ستكون هناك بضع أسئلة فضولية وبضع نظرات غير مريحة، لكن لا تلتفت لأي شيء من هذا. حياتنا وما ينتظرنا أهم من كل هذا العبث والسّخف. لا أعتقد أنني أحتاج لأن أوصيك. - لا عليك. لقد اتقفنا منذ زمن وانتهى الموضوع. فقط لم أتوقع أن ذلك غدا أو بعد غد. - محاولة جميلة للمناورة يا عماد. كأنني لو قلت لك الشهر القادم سيريحك ذلك. ما ستفعله في يوم ستفعله في شهر، وأنت تعلم هذا. ليس مطلوبا منك سوى بضع كلمات منمقة وواضحة: تريد خطبتي والزواج بي، وفي أقرب وقت. أغادرها وألتحق بمنزلي الصغير، الذي سيصبح منزلنا معا. أعطتني شروق مفتاحه منذ مدة، كي تكون مسألة إقامتي هناك هي الفيصل بيني وبين حياة الشوارع، وقد كان ذلك فعلا. أمرّ عند "الحاجّ عبد السلام" وأشتري منه قطعة من "الحرشة" مذهونة بزيت "أملو". أصعد غرفتي وأعد كأس شاي منعنع بالشيبة. أرشف أول رشفة فأستعيد نشاطي وتركيزي. لا يوجد شيء يقضي على تعب اليوم مثل جلسة كهذه. أفتح التلفاز وأشاهده شاردا. لا أدري كثيرا مما يدور في العالم، وإن كنت قد بدأت أفهم بعضه وأحاول أن أربط بين هذا الحدث وذاك. وإن شغلني شيء ما أسأل شروق فأجد لديها الإجابة. وأحيانا أستعمل الإنترنت في البحث والتنقيب كعادتي. حياتي تتغيّر. خلايا جسمي نفسها أشعر بها وكأنها تتحوّر وتتخذ أشكالا أخرى. النوم تحت سقف بالنسبة لي حدث جديد ومثير، فما بالك بفراش وثير وأغطية وتلفاز ! كل يوم نراقب أنا وشروق جديد المزاد العلني الذي أطلقه "آلفي" على موقع "إي- باي" كي نطمئن أن الأمور لازالت على ما هي عليه. لحدّ الآن لازال الحظ يحالفنا. "آلفي" وضع قاعدة في إعلانه، وهي أن آخر مزايدة سيتم اعتمادها هي التي يمرّ عليها شهر دون أن يدخل مشتر آخر على الخط. آخر مبلغ وصل إلى 200 ألف دولار بالتمام والكمال. بعد 15 يوما، لحسن حظنا، دخل شخص آخر وزايد ب 220 ألف.. أمامنا شهرٌ آخر إذن. أتأمل بطاقتي وجواز سفري فتدمع عيناي. أحقا هذا يحدث لي أم أنني أحلم. الغريب أنني أخشى أن أتعوّد على هذا النوع من الحياة المُترفة. شعور غريب بالذنب لا يفارقني. كأنني أقترف إثما في حقّ إخوان الشارع. أنام دافئا، قرير العين، بينما هم يتجمدون من شدة الزمهرير أو تتألم جنوبهم من قساوة الأرض التي ينامون عليها. أتساءل: كيف ستتدبر شروق أمر سفرنا إلى لندن؟ يبدو لي من خلال كلامها أنها استعدت، وتستعد، لكل شيء بإلحاح وإصرار لا يلين. الكتاب سرق مني، لكنها أكثر رغبة في استرداده. قلبي ينصاع لها بشكل كلي، وعقلي – ذلك العنيد – يوسوس لي أن شيئا ما ليس على ما يرام. حتى الأحلام لا تجدها بهذه الروعة. لا بد في الأخير من شخص يطاردك أو ينغص عليك حلاوة الحلم. مع شروق لا يحدث هذا، وكل شيء يسير بسلاسة. قالت لي شروق وأنا معها في سيارتها الصغيرة: - ما شعورك أيها الطنجاوي وأنت تجلس قرب امرأة تقود بك السيارة؟ - لا أدري.. أنت لا تقودين السيارة فقط.. أنت تقودينني بالكامل الآن.. - وهذا أمر جيد أم سيء.. - من ناحية المبدأ هو سيّء.. لكن، معك أنت بالذات لا أشعر بأي خدش في رجولتي. ربما هي طريقتك البسيطة في التعامل مع كل الأمور فلا أدري أأتحرّج أم أنصاع لبساطتك. - جميل جدا.. أنا لا أشك للحظة في رجولتك وشهامتك. - وهذا ما يخيفني.. من أين تأتين بهذه الثقة؟ دعينا نكن صرحاء ولنعترف أنني مجرّد متشرد في الأخير.. يعني كل حماسك هذا لا بد له من سبب وجيه مهما حاولت أنا أو حتى أنت أن نتغاضى عنه ونتجاهله. - أنت مصرّ إذن على معرفة الحقيقة التي كنت أريد أن أخبرك بها بعد الزواج وليس الآن.. - أكيد.. لا صبر لي على ذلك.. توقف شروق سيارتها قرب منزلي/ منزلها، وتطلب مني فتح الباب والدخول. أستجيب لها وأنا أحاول أن أفهم. - والآن، أعدّ لنا كأس شاي منعنع من يديك الخشنتين واجلس لتسمع السرّ.. بسرعة، أعدّ الشاي وأنا أفكر فيما قد تقول شروق. المصيبة أنني لم أنتبه أننا وحدنا إلا الآن. هذا ليس جيّدا إطلاقا. لا أحد منا يضمن نفسه. من أين تأتين بهذه الجرأة الممتزجة بالبساطة يا شروق؟ فليكن ما ستقوله شروق يستحقّ كل هذا، أو لأنسحب الآن قبل أن يحدث فعلا ما لا يحمد عقباه. نجلس متقابلين وفي كفّي كل منا كأس شايه الساخن. تسألني شروق بهدوء: - مستعدّ لسماع القصة؟ - كلّي آذان صاغية... رواية "المتشرد" 13 .. المزيد من الأسرار حول كتاب "فيلا هاريس"