أتجوّل بمنطقة "الفلوجة" بسوق كاساباراطا وأنا أفكر في كلام شروق. لقد كان اقتراحها مفاجئا وصاعقا حتى أنني ذهلت وبقيت صامتا لمدة تزيد عن خمس دقائق، ولم يعد يُسمع سوى قرع الملعقة في كأسي الزجاجي إذ أحرّكها يمينا ويسارا. احترمت هي صمتي تماما، قبل أن تقدمّ لي إضافات كان وقعها عليّ شبيها بوقع طلبها أو أكثر. قالت: - اسمعني جيدا يا عماد. سأقول لك مجموعة حقائق لم تكن تعلمها عني. بعضها يتعلق بشخصي وبعضها بمشاعري ورؤيتي للحياة. أولا، أنا لا أعمل في ذلك المقهى كما لعلك تتخيّل. بل أمتلك ذلك المقهى لأنني ورثته عن والدي. لقد كان والدي حالة فريدة لأنه استطاع أن يجمع بين الشرف والكفاف.. ولنقل بعض الثراء أيضا. لم نعاني ضيق ذات اليد يوما. فقد حقق صفقات لا بأس بها عندما باع بعض التحف النادرة للسياح في فترة الثمانينات والتسعينات قبل أن تصبح طنجة أرضا بوراً. الخلاصة أنني الآن أمتلك ذلك المقهى الذي كتبه والدي باسمي، إضافة إلى منزل آخر صغير، كنت أفكر ما الذي يمكن أن أفعل به.. أأبيعه أم أستثمره في الكراء. كما أن حسابي البنكي به بضعة ملايين محترمة. عندما شاهدتك أوّل مرة عرفت أنك شخص مختلف تماما عمّن أعرفه. صحيح أنك تعيش في الشارع، وسط الكثير من القذارات الظاهرية، لكن فراستي أخبرتني أنك نقيّ السريرة، وأنك – وهذا هو الأهم – صادق جدا. - يذكرني هذا بفيلم هنديّ شاهدته قبل أيام.. - ما يحدث في الواقع يكون أكثر درامية من الأفلام.. صدقني يا عماد. أعرف أن الناس أصبحوا في مجتمعنا عبارة عن نسخة واحدة مكرّرة. لكن هناك استثناء دائما.. صحيح؟ أنا هي ذلك الاستثناء. أنا لا أعبأ لحليقي الوجوه.. للمرائين.. للمنافقين.. لمفتعلي الطيبوبة.. للأثرياء.. لهؤلاء الفخورين ب"الكريديت كارد" وبعطور "كوتشي".. أنا أبحث عن الصدق الفجّ.. عن الحقيقة حتى لو كانت مرّة. أنت لا تهتم لرضاي كثيرا. لا يهمك أن تجاملني. لا يهمك أن أراك منمّقا، أنيقا. أنت تعاملني بكل فطرة.. كأنك طفل ولد للتوّ يقوم بردود فعل مباشرة غريزية دون خوف أو وجل. صحيح أنك كنت تدخل عندي بلباس مختلف عن لباسك اليومي، لكن ذلك كان فقط لأسمح لك بالدخول ولا أطردك، وليس لأنك تتجمّل أو تتظاهر. - وصفٌ غريب لأول مرة أسمعه عن نفسي، لكنه مثير.. - قد يفاجئك دائما ما لا تعلمه عن نفسك. لا تعتقد أن طلبي الزواج منك مسألة سهلة أو يسيرة. بل هي كانت أشق على نفسي من إخراج خنجر مسنّن من عضلة فخذ. لكنني كما قلت لك تعلمت منك – دون أن تدري – أن أقول كلماتي التي أريد وأرتاح. لقد جاءتني الفكرة ووجدتني أرتاح لها جدا، فلماذا التأخير؟ لماذا المناورة؟ لماذا الكذب على النفس وإطالة مدة التردد دون طائل؟ هو قرار اتخذته في انتظار قرارك أنت. أستعمل الشطارة لبيع شاشة كمبيوتر لأحد باعة المتلاشيات بالسوق لكنه يصرّ على ثمنه البخس فأرحل. أفعل هذا وذهني شارد مع ما دار بيني وبين شروق. أسئلة كثيرة أطرحها على نفسي وأجد لبعضها إجابات بينما لا أجد لما تبقى سوى الغموض. شروق خططت لكل شيء بإحكام شديد. سأشتغل معها بالمقهى لنصف يوم لفترة، قبل أن نقدم على خطوة الزواج. ستعلّمني أساسيات العمل، والباقي – تقول هي – لن أجد صعوبة في التعامل معه، كالطباعة، والبحث، بل وحتى الرّقن على الحاسوب. بعد ذلك، سأتقدم لخطبتها من والدتها كأي رجل يحترم نفسها، وسنعيش معا في المنزل الصغير الذي تركه لها والدها. ومعا سنواصل رحلة البحث عن الكتاب، والذي ستكون أولى خطواته السفر إلى لندن ! - وفارق السن لا يؤرقك؟ أسأل شروق فتجيب: - بالله عليك.. امرأة تفكّر بطريقتي ستعبأ لهكذا تفاهات؟ مثل هذه العقبات هي أعذار يختلقها رجال ونساء لا يريدون بعضهم البعض. سببهم الوحيد أنهم غير متحابّين. لو كان هناك ميل للآخر وإعجاب به فيستحيل أن تلتفت للسن.. لاحظ أن الفرق ليس كبيرا، قد يكون 6 أو 5 سنوات.. هل نسمح ل5 سنوات بحرماننا من حقنا في الحياة معا؟ يرهقني التفكير الكثير فأجلس بمقهى "الرّوبيو" الشعبي، وأطلب كأس شاي منعنع، وأغمض عيناي محاولا أن أهدأ قليلا. كمّ التوتر والانفعال في جسدي هائل جدا وغير مسبوق. أحيانا أشك في نوايا شروق فأشعر بالذنب والسخرية من نفسي. الذنب لأنني أشك في صدق شروق التي تتعامل معي بكل براءة وصدق، أو هكذا أعتقد. والسخرية من نفسي لأنني بدأت أعتقد، ولو للحظة، أن هناك شيئا أمتلكه قد يدفع شروق للتقرب إليّ. أتحسس ال300 درهم في جيبي، والتي كانت حصيلة تعب يوم كامل تقريبا من بيع بعض الأثاث القديم. شروق منحتني حوالي 1500 درهم لأعطيها ل"الدندول" كي يوافق على الانسحاب من العملية وإعادة الرهينة إلى أهلها. سأضيف لها المبلغ الذي معي آملا ألا يتعنت "الدندول" ويضعني في مشكلة جديدة. لحسن الحظ مرّت الأمور بسلاسة لم أتوقعها. قبض "الدندول" المال وقبّل رأسي وانصرف. أنا لبستُ قناعي ودخلت على "منية" وسلمتها لباسا جديدا مناسبا وطلبت منها الهروب. كانت هذه فكرة شروق. وهي أن تكون آخر لحظات منية في المخبأ لحظات تترك انطباعا جيدا لديها كي لا تصرّ على البحث عن مختطفيها وأخذ حقها منهم. فكرت أن أقول لها شيئا أو أكتب تهديدا لوالدها لكنني أحجمتُ. هذا يعني أنني سأضيّق دائرة البحث عليهم وعلى الشرطة وسيعرفون أن الأمر يتعلق بالتأكيد بمتشرد ما كان في الملجأ، وسيصرفون النظر نهائيا عن مسألة "الحزب المنافس". بل إنني إمعانا في التمويه طلبت من منية أن تقول لوالدها أن الأحزاب ليست كلها متشابهة وأن بعضها قد يكون مؤذيا وخطيرا. كانت هناك ملاحظة بسيطة تمنيت فعلا أن تغفل عنها منية.. وهي أنني ناديت منير باسمه عندما كان يهمّ باغتصابها، كما أنني نزعت قناعه أثناء الصراع الذي جرحت فيه أذنه. والحقيقة أن مسألة الاسم كانت تشغلني أكثر، لأن الظلام كان يشكل غطاء لا بأس به بالنسبة لملامح منير، وخاصة أنها كانت مرعوبة ولم تكن في حالة تركيز على الوجوه. تغادر منية وهي تتعثر في مشيتها وتحاول ألا تلتفت إلى الوراء كما طلبت منها. وحتى لو فعلت فلن تجد سوى الأفق الواسع أمامها، لأنني اختفيت مباشرة بعد أول خطوة لها بعيدا عن المخبأ. - هل قمت بالمهمة؟ ! - على أتم وجه يا شروق، وبالمحاذير التي طلبتها.. - ماعندي مانسالك.. بالمناسبة، نسيت أن أخبرك أن "آلفي" يضع صورا لبضع صفحات داخلية للكتاب، ومن خلال قراءتها وترجمتها وصلت لعدد من الحقائق.. - يا له من خبر رائع.. أتحفيني.. - أولا، الكتاب عبارة عن يوميات. ثانيا، كاتب اليوميات ليس هو صاحب الفيلا "والتر هاريس"، بل صديق له، وهو يصف من خلال الصفحات الموجودة أياما له قضاها مع هاريس في الفيلا رفقة أصدقاء آخرين، واستمتعوا بذلك أيما استمتاع... - أشعر أن هناك أمرا ثالثا.. - صحيح، الرّجل يحكي أشياء مثيرة عن الحرب العالمية الأولى، والتي كان "والتر هاريس" ممن كتبوا عنها وعاشوا مؤامراتها من عاصمة الدسائس آنذاك... طنجة ! - يا إلهي.. هذا يزيد من قيمة الكتاب.. - بالضبط.. ويزيد من ضرورة إسراعنا بالتحرك، وإلا فسنعضّ أنامل الغيظ إلى الأبد. توقفنا عن الكلام أنا وشروق وتركنا للصمت مكانا. بينما كانت آلاف الأفكار تتزاحم في رأسي من جديد حول الأيام القادمة.. ما الذي ستحمله من جديد ومفاجآت ياترى؟ أتراني رأيت كل شيء أم هناك مزيد؟ رواية "المتشرد" 12 .. ضبط سارق الكتاب وعرض صادم ل"شروق"