- كنتُ أراقبك! تقول شروق هذا وتبتسم نصف ابتسامة تاركة لكأس الشاي فجوة في النصف الآخر. شروق تعلم كل شيء عنّي. أنا الذي اعتقدت أنني ناجحٌ في السرية التي أحيط بها نفسي. من خلف مكتبها الزجاجي، ومن خلال المرآة العاكسة الكبيرة الموضوعة كديكور أمامها على الجدار، كانت ترى كل شيء. تراني حافيا، لابسا أسمالا، قذرا أحيانا. تراني وأنا أغتسل بالنافورة قبل أن أعود لابسا ثيابي النقية. إن كنت أذكر جيدا فأنا لم أقل سوى بضع جمل ألخص فيها كل شيء بينما شروق تتحدث وتتحدث بعفوية وبساطة تخلو من افتعال. عندما أكثر يوماً "الرّيلانطي" من الحديث الفارغ حاصرته في زاوية ثم أمسكت لسانه وأقسم إني كنت أنوي أن أقطعه له بملقاط في يدي لولا أن تدخل البيتشو رحمه الله وقتها وأنقذه. أكره الثرثارين.. أمقتهم. الصمت مقدّس. من ينتهكه فعليه أن يتحمل الوزر. لكن كلام شروق ممتع وبه لذة عجيبة. كأنه إحدى الوصلات الإذاعية التي تحكي حكاية لا تُملّ. تقول شروق: - بالنسبة لفيلا هاريس ، فحكايتها، باختصار مخلّ، هي أنها كانت في ملك صحافي بريطاني اسمه "والتر بورطون هاريس"، بناها في بدايات القرن العشرين، وظلت تحفة معمارية قبل أن يطالها الإهمال والنسيان. فهي لم تكن فيلا عادية، بل ضمت مسبحا رائعا ومسرحا مصغّرا جمع عددا من المبدعين الدوليين آنذاك، إضافة إلى أن حديقتها كانت تضم نباتات نادرة جدا أحضرها هاريس من أماكن مختلفة من العالم. ما زاد من غموض الفيلا وصاحبها أن والتر هاريس تعرض للاختطاف من طرف المقاوم الجبلي مولاي أحمد الريسوني الذي طالب من بفدية من أجل إطلاق هاريس، وهو ما حصل فعلا. - كل هذا حصل ولم ينتبه أحدهم إلى الكتاب؟ - هه.. ليس تماما يا عماد.. هذا الكتاب في الغالب دُسّ بشكل سري في السقف الذي ذكرت لسبب ما، وفي أواخر أيام تواجد االصحافي "هاريس" بالفيلا. وبقي هناك حتى اهترأ السقف وتهاوى، وكنت أنت أول محظوظ يجده. - أي حظ هذا الذي تتحدثين عنه؟.. لقد سُرق منّي بأسهل طريقة على الإطلاق. - لا عليك. لو كنت بعته بثمن بخس دراهم معدودة، ما كنت لتعرف قيمته أبدا، وما كنا لنجلس أنا وأنت معا هنا. - صحيح.. بالمناسبة كم عمرك؟ - 26 سنة، وأنت؟ أسعدني أنها أجابت بسرعة وعفوية. أكره التذاكي في غير موضعه. أكره الإطالة والإطناب. تمنيت حقا ومن أعماق قلبي ألا تسألني ذلك السؤال الأزلي "كم تتوقع؟"، ولحسن الحظ أنها لم تفعل. - أنا بالكاد عرفتُ اسمي ولا أدري حتى كيف تم ذلك.. فما بالك بسني؟ أظنه 17 سنة أو 18.. - لا أعتقد.. لعلك في العشرين أو أكثر بسنة أو سنتين.. نُضجك ينبئُ بذلك.. - لا يمكنك أن تتصوري كمّ النضج الذي يستطيع الشارع أن يمنحه لطفل في الخامسة، فما بالك بمن هو في 17 أو 18.. - صدقت. - ما سبب اهتمامك بمشرّد مثلي؟ كنت أسأل أسئلة مباشرة وكأنها رصاصات تفلتُ من عقالها وغير قابلة للعودة. أسأل ولا أهتم للنتائج. شاهدت من النفاق ما يجعل المرء يتمنى أن يترجّل فعلا عن رحلته في هذا العالم، لذا ومنذ سنوات قررت أن أي علاقة مع أي شخص ينبغي أن تكون علاقة "شارع". شعارها الصدق المطلق والوضوح السافر. ولنترك المناورات والخبث لمن يجيدون الإمساك بالميكروفون. نحن الحقيقة الفجّة. نحن الواقع بكل مرارته. نحن الذين دعكتنا الحياة. من حقنا أن نهب العالم ما يريده من صدق دون خوف.. وأي شيء يخافه رجل وُلد خاسرا مثلي؟ حتى اللباس الأنيق الذي أحتفظ به، إنما لأقضي به بعض المآرب التي تنفعني مباشرة، كالدخول إلى مقهى شروق واستعمال الكمبيوتر، ولولا ذلك لمنحتهم لأي أخ من إخوان الشارع، فهو أحقّ به. تجيبني شروق: - لنقل أنني مولعة نوعا ما بمراقبة الناس عن بعد. مهنتي علمتني ذلك، جلوسي طوال الوقت خلف ذلك المكتب. تعاملي مع زبائن مختلفي الطباع. ما أشاهده على شاشات بعض الأشخاص من حين لآخر، وعن غير قصد، يجعلك تعرف أن الناس ليسوا ما يبدون عليه. الواحد منهم إذا ما انفرد بنفسه يصبح مُجرما من الدرجة الأولى. بالنسبة لك، فقد أثارني اهتمامك وفضولك للمعرفة الحقة. أن تترك الشارع وتتدبر ملابس خاصة بالمقهى فقط كي تشبع رغبتك في التعلم. أنت ببساطة شخص قد أتعلم منه الكثير. - محاولة فاشلة للتواضع والتعاطف.. يمرّ النادل من أمامنا وألمح، بمزيج من الارتياب والوسواس، شبح ابتسامة ساخرة على شفتيه فأهمّ بقول شيء. تنتبه شروق فتسرع – بذكاء- مجيبة على كلامي: - التواضع يكون بين شخص يملك الكثير وآخر لا يملك شيئا. لا شيء يدفعني لمجاملتك. أنا مهتمة فعلا بشخصك وبتفردك الغريب. بالنسبة للتعاطف، فصدقني إن قلت لك إنني أؤمن إنه لا يوجد من هو أفضل من الآخر. لا أحد في منأى عن عواصف الحياة. الآن في هذه اللحظة، يقع زلزال في مكان ما.. يتشرد مئات الأسر، ومن بينهم من كانوا يعتقدون أنهم أصحاب شأن. فقط هو قدر الله من يضع هذا هنا والآخر هناك. أي حادث بسيط قد يجعلني في مكانك وأنت في مكاني. لا فضل لي إطلاقا فيما أنا عليه، ولا ذنب لك فيما أنت عليه، إلا إن كانت يداك قد اقترفت إثما. - كلام جميل جدا ومخيف.. - جميلٌ فهمناها.. فما بال الخوف؟ - مخيف لأنني أسمعه لأول مرة ولأنني أوشك على تصديقه.. تغرس شروق الشوكة في قطعة "الكروك"ّ أمامها وتومئ لي برأسها كي أنهي قهوتي، في محاولة لتغيير دفة الحوار أفهمها دون كبير عناد.. - حاول مرة أخرى أن تعتصر ذاكرتك، لعلنا نمسك بطرف خيط يوصلنا إلى الأشقر.. انتابتني قشعريرة غريبة عندما استعملت الجمع في كلامها. لأول مرة في حياتي أشعر أن شخصا يشاركني مشكلة ما، شعورا ما. أيّ إثارة هذه.. أي إحساس هذا ! فجأة، وكعنقاء تنهض من رمادها، تذكرت فعلا لحظة غابت عني تماما أثناء حديثي مع الأشقر.. - فعلا يا شروق.. والله هناك لحظة.. لقد كانت هناك عجوز تلتقط صورا لزوجها الذي كان يقف بمحاذاتنا لدرجة أن الفلاش أعمى عينيّ مرتين.. إن صدق ظني فأنا والأشقر سنكون قد بدوْنا واضحيْن في خلفية الصورة. - الله عليك.. هذا هو الكلام! (يتبع) رواية "المتشرد" -5- .. "شروق" تصدم "عماد" برغبتها في اللقاء