هل أنسى موضوع الكتاب تماما؟ هل أستطيع أن أواصل حياتي وكأن شيئا لم يكن؟ أحاول أن أعتصر ذاكرتي لعلّي أستطيع إيجاد خيطٍ ما يمكنني من معرفة شيء يتعلق بذلك الأشقر، لكنني أفشل. مصيبتي أنني حتى لو فعلت فلن أستطيع حيلة ولن أهتديَ سبيلا. فلنفترض مثلا أنني علمت بسفره، بل وحتى بوجهته. ماذا عسايَ أفعل؟ وأنا الرجل الذي لا يجد أحيانا كثيرة قوت يومه؟ أأستطيع أن أوزّع جهدي بين بحث عن وجبة وبحثٍ عن كتاب لا أدري قيمته الحقيقة؟ لكن من قال إنني لا أدري قيمته؟ ألم يوافق الأشقر على دفع 5 ملايين سنتيم كاملة لشرائه؟ أكانت موافقة تلك أم مناورة؟ أسافر هو فجأة بسبب الكتاب أم أن أمرا طرأ فعلا جعله يغادر؟ سؤالٌ يلي سؤالاً. رأسي يكاد ينفجر وأنا أجلس فوق عُشب الحديقة المواجه لمقهى الإنترنت "طنجيس". لا أعرف شخصا آخر غير شروق يمكن أن يكون مفيدا في هكذا موقف. فكرت أن أستشير "الدكتور"، وهو لقب أحد إخواني المشردين الذي يمتلك ثقافة عالية جدا من وجهة نظرنا. وكم من ليلة جلسنا حوله بعيون شغوفة وقلوب متعطشة وعقول متسائلة، وهو يلقي علينا ما يشبه درسا علميا. يقول معلومات نسمعها لأول مرة عن كل شيء، عن الأرض والسماء والنجوم، عن التاريخ والإنسان والوطن... عن كل شيء. ثم، معلنا انتهاء الدرس، يقهقه فجأة بدون مقدمات ويمسك قنينة "الرّوج" خاصته وينهض مغادرا وهو يشرب ويسبّ أي شيء وكل شيء. أخيرا قررت أن نهاية الحيرة لا تكون إلا بقرار يُنفّذ. فليكن متسرعا أو خاطئا، لكنه ينهي موضوع الاحتمالات والتساؤلات الكثيرة. فلتكن شروق هي المفتاح أو ليذهب الكتاب والأشقر وفيلا هاريس إلا الجحيم. أنهض بحزم متوجها نحو مقهاها. أدخل وألقي السلام، فتجيب دون رفع الرأس كالمعتاد. أقترب من مكتبها الزجاجي وأقول بصوت خرج مبحوحا رغم كلّ شيء: - أ..أ... أريد أن أستشير معك في موضوع. ترفع عينيها اللتين أراهما عن قرب لأول مرة. خليط من اللون الأخضر والفيروزي. واسعتان، متسائلتان، ضاحكتان بشكل دائم على ما يبدو. تسمرت للحظات وكأن عينيها عينا كوبرا أصابتاني بالشلل. لم يكن إعجابا بالضرورة، لكن نظرتها ببساطة لم تكن عادية. هكذا بقيت أحاول أن أتمتم بشيء ما، وأنا أبتلع ريقي كل خمس ثوان. وكأن شروق تفهمت ارتباكي وفهمت أنني لن أقول جملة واحدة مفيدة وأنا في موقف الضعف هذا، فأسرعت قائلة: - ما رأيك أن نلتقي في المقهى المجاور في الثالثة؟ ! لم أفهم بالضبط ماذا تقصد. إن كانت تقصد المعنى المباشر لهذه الجملة فهي مصيبة. أنا، ابن الشوارع، أجلس في مقهى؟ لا، ليس هذا فقط.. بل برفقة فتاة؟ ! نهضت من مكانها ملبية نداء أحد الزبائن وهي تكرر الجملة بحسم: - سأنهي عملي وأوافيك هناك.. لا تنس.. الثالثة بالضبط. - نعم.. نعم.. خرجت حائرا، ذاهلا، متسائلا: أحقا حدث ما حدث، وبهذه السرعة؟ يبدو أنني جنيت على نفسي حقا. كيف يجلس الناس في المقاهي؟ ماذا يفعلون بالضبط وكيف يتصرفون؟ أشاهد الآلاف منهم يوميا وأبيع لهم أيضا، لكن أن أكون أنا الجالس هناك، وفي ذاك المقهى الفاخر الذي ذكرت شروق؟ يا له من تحوّل كبير في حياتي يصيبني بالصداع. مالي أنا وشروق والمقهى؟ مالي أنا والكتاب القديم؟ لا أريد شيئا. لا أريد تغييرا. أريد فقط أن أواصل حياتي التي ألفتُها وألفتني. صحيح أنني حلمت كثيرا بحياة عادية أكثر من مرة، لكنني كنت أكذب على نفسي.. فحتى لو كنت حصلت على تلك الثروة من ذلك الكتاب كنت سأبقى في منزلي الكبير... الشارع. هناك كنت سأصرفها حتى آخر درهم، أعيش يومي، أستمتع، أشركُ إخوان الشارع معي في ثروتي. أطعمهم، أسقيهم. أحقق أمانيهم الصغيرة. الساعة تشير إلى الثانية و55 دقيقة، وأنا مجددا فوق مقعد خشبي بذات الحديقة أنظر إلى ذلك المقهى وزبائنه وهم يجيئون ويروحون. ربطات العنق، الضحكات المفتعلة، روائح العطور... كل هذا سيصيبني في مقتل حقا. أرى شروق، من موقعي المستتر، وهي تغادر المقهى وتتوجه بثقة إلى المقهى الفاخر. والله إنها جادّة. ماذا تقول عني لو أخلفت الموعد؟ أكرهُ أن أبدوَ طفلا. أنا من قصدها، وعليّ أن أكمل هذه الخطوة حتى النهاية مهما كان. آملا أن يكون لباسي - الذي أعتبره أنيقا – في عيون أصحاب المقهى كذلك، وإلا فإنني سأكون في موقف لا أحسد عليه لو حاول النادل طردي. تحسست بحركة لا شعورية ذاك السكين في جيبي الخلفي، وسرحت شعري بيدي في محاولة يائسة للتأنق ثم بسملت وحوقلت وتوجهت نحو المقهى. هيّا يا شروق. إفعليها وقولي لي إنك تمزحين وأعيديني إلى عالمي سالما غانما رجاءً. لكن شروق لا تمزح. شروق تبتسم لي وأنا أدخل وتلوّح لي كي أقترب وأجالسها. وا مصيبتاه.. وا مصيبتاه!! (يتبع) رواية "المتشرد" -4- .. عماد يفقد الكتاب القديم بشكل غير متوقّع