قصة محيرة فعلا ليس للموساد الأسرائيلي الذي نخرته الانتكاسات. بل للعالم بأسرة، فتاة جميلة، شقراء، ثرية. أدارت ظهرها لكل مظاهر الترف واختارت أن تصبح فدائية، تضع حياتها ثمنا للقضية الفلسطينية. إنها قصة الشقراء النبيلة الطيبة، نادية برادلي التي تصلح قضيتها سيناريو عظيم لفيلم كبير جدا، لم تنل حظها من الاهتمام الإعلامي، وغالبية المغاربة لايعرفون أن مواطنة مغربية أدارت ظهرها لمتاع الدنيا واختارت الجهاد من أجل فلسطين. «العلم» نقبت في هذه القضية المثيرة إلى أن عثرت على كتاب لصحافية اسرائيلية تحكي فيه تفاصيل مثيرة لهذه البطلة، والكتاب- الذي أصدرتهدارالجليل للنشر سنة 1986 تحت عنوان « نادية برادلي . الفدائية المغربية الشقراء » - يكتسي أهميته لأن شاهدا من أهلها هو الذي يشهد. ونأمل أن يمثل هذا النشر انطلاقة للغوص في تفاصيل كثيرة من حياة هذه الفدائية البطلة. أدانت المحكمة العسكرية في اللد نادية طبقا لاعترافها، وبتهمة: نشاطها في منظمة غير قانونية «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» وبتقديم خدمات لحسابها وحيازة متفجرات، وقد أصدرت عليها المحكمة حكما بالسجن 12 عاما. وقالت نادية في المحكمة، بعد صدور الحكم: «أنا لا أطلب الرحمة، لأنني أعرف بأن علي أن أعاقب، ولكنني أطلب فقط أن تراعوا ظروفي، وأن تأخذوا بعين الاعتبار الدوافع الموضوعية، وأنا أعبر مرة أخرى عن ندمي». نادية... والصحفية المحادثات التي دارت بيننا بدأت بعد سنة من اعتقالها، وقد كان الجميع يعطف عليها في السجن، وكأنهم نسوا سبب سجنها. وكنت في كل مرة أطرح خلالها أسئلة عن بعض ماضيها، كانت تتوسل إلي وتقول: «كفى، هذا ينتمي إلى الماضي، وأنا الآن لا أشعر بأني فدائية». - لأنك موجود اليوم في سجن في إسرائيل؟ - لا، لقد شعرت لفترة طويلة بأني هنا «فدائية» أيضا، وذلك ليس بسبب التماثل بيني وبين العمل الذي قمت به، بل بسبب أسلوب نظرات الأشخاص من حولي إلي. لقد أخذونا ذات مرة إلى القدس، وكان ذلك بمثابة مفاجأة لي، وتساءلت: نزهة إلى القدس بعد سنة واحدة من اعتقالي؟ لقد جاءت هذه النزهة بسبب السلوك الحسن في السجن، فقد أخذوا إحدى عشر سجينة وكنت واحدة بينهن، وقد درست هنا في السجن عن البلاد وتاريخها، وعن الصهيونية وتعلمت اللغة العبرية، أما بالنسبة للرحلة إلى القدس، فقد كانت جيدة وجميلة، غير أن الصفعة جاءت، بعد أربعة أيام من هذه الرحلة، مع حادث اختطاف طائرة «سبينا» وإرغامه على الهبوط في مطار اللد، فقد قدم الخاطفون اسمي أيضا في قائمة الفدائيين الذين أرادوا تحريرهم، ولم أعرف لماذا يطلبونني، فأنا لا أرغب في أن يطلق سراحي بهذا الأسلوب. وبعد ذلك، وقعت مذبحة اللد، وفي 5 شتنبر وقع حادث ميونخ، وبعد ذلك حادث بانكوك، وهكذا، على مدى سنة، لم تتوقف الأعمال الإرهابية!...» إن هذا لم يكن صعبا بالنسبة لكم أنتم الإسرائيليين فحسب، فقد كان هذا صعبا أيضا بالنسبة لي وكان أمرا مؤلما، وقد عشت مع هذه الأحداث، وكان علي أن أخفي آلامي، كي لا يقول الآخرون من حولي: «أنها تمثل علينا جيدا». لقد علّمت نفسي أن أتخطى الممر دون أن أرد، وأتظاهر بأنني لا أشعر بشيء قطعا، وأن لا أطلب أن يفتحوا الراديو، وأن لا أجلس كما يفعلن جميعهن بجانب جهاز التلفاز، وأن لا أقرأ صحفا أيضا. كنت منغلقة على نفسي في الغرفة، وصديقاتي يقصصن علي ما يحدث. لقد مرت فترة طويلة وهن ينظرن إلي، وكأنني فدائية، مكروهة، وظلت هذه النظرة عند بعض السجينات الإسرائيليات، وقد شكل ذلك عندي عقدا. ولكنني الآن، وبصدق، أشعر بأنني بعيدة عن كل شيء فأنا أشعر اليوم بأنني جزء من هنا، جزء من هذه البلاد، ولكن آنذاك كان محظورا علي أن أشعر بذلك. حوار-- نادية - إنني أجد صعوبة ما في هضم أقوالك، تقولين أنك تتألمين بسبب الأعمال الإرهابية وتزعمين بأنك تشعرين وكأنك جزء منا، وأنا أفكر طوال الوقت وأقول: لقد جاءت هذه الشابة إلى البلاد، وبحوزتها متفجرات بهدف تنفيذ أعمال تخريبية! فكيف تغيرت كل قيمك فجأة؟ أنا لا أعرف ما إذا كانت قيمي قد تغيرت أم لا، فكل ما هنالك، أنني اطلعت هنا على معلومات أكثر، واستوضحت بعض الأمور بيني وبين نفسي... أنا نادية نفسها... وكل ما هنالك أن خللا ما قد وقع لي في منتصف الطريق، تمثل في التعرف على أولئك الناس، ووصلت إلى إسرائيل، وبحوزتي متفجرات بدل أن أصل وأنا أحمل باقة من الورود!!.. - ماذا عرفت عن إسرائيل قبل وصولك إلى هنا؟ ٭ لم أعرف شيئا، وقد عرفت قليلا عن اليهود، ولكن آنذاك كنت أفرق بين اليهود والإسرائيليين، أما اليوم فإنني أرى ذلك بصورة أخرى. كما أنني أستطيع اليوم أن أفهم أيضا، بأن هناك أعدادا هائلة من اليهود في العالم لا تأتي إلى إسرائيل، لأن الحياة هنا صعبة حقا. - هل حملت مع المتفجرات كراهيتك أيضا لإسرائيل؟ ٭ لا، لم أحمل كراهية ولا أكنّ كراهية لإسرائيل، أبدا. - هل جئت إلى هنا بإيديولوجية؟ ٭ لا. - هل كانت مهمتك بدافع من حب المال؟ ٭ أنت تعرفين بأن الجواب لا. أنني لم أعاني من نقص المال في حياتي! - أكانت المغامرة هي دافع مهمتك؟ ٭ ربما كان قليل من ذلك، وكان هناك اليأس أيضا، كما كانت هناك ضرورة للمساهمة في شيء ما من أجل الآخرين، وقد حدثتك فيما سلف عن ذلك. وفيما كنا نتحدث مرت سجانة أمام الغرفة، وألقت بنظرتها عبر نافذة صغيرة، فقالت نادية: لنتوقف عن الحديث، وسأغني لك أغنية من تأليفي، وتناولت القيثارة (وتجدر الإشارة هنا إلى أن أنظمة السجن تحظر على السجينات اقتناء آلات موسيقية في الغرفة)، وتقول كلمات الأغنية: أنا أنحني أمامكم حيث ينبغي التسليم بالحقيقة بأننا فقدنا كل مركز وبأنه ينبغي التسليم بالظروف التي تحول كياننا إلى محاكاة أنا أنحني أمامكم حيث ينبغي الذهاب للعمل والجلوس، والوقوف وأن أتجرأ من أجلك...» كان صوتها واضحا وصافيا، جذب عددا من السجينات، أستر، نيلي، بلومه وساره... وهنا قالت ناديه: هؤلاء هن صديقاتي، إنهن صديقات جيدات، وأحطن بها محدقات بإعجاب. وأضافت تقول: لم تكن الحياة؟ السجن سابقا على هذا النحو، ففي البداية كانت حياتي صعبة.