كان المهرجان الخطابي لحزبه هو فرصتي لمعرفة الحقيقة الكاملة.. ذكروا في الجريدة أنه سينظم اليوم مساءً. انتابني شكّ إن كان "الغياط" سيشارك، لكنني وجدته أول من يعتلي المنصة وضربات قلبي تتسارع ويعلو صوتها حتى خفتُ أن يلتفت كل ذلك الحشد نحوي طالبا مني إن أسكت قرع طبولي. إنه هو. قد تخدعني عيناي. قد يلتبس عليّ الاسم. لكن حدسي لم يَكذِبني مرّة. إنه هو ذلك السّادي، مدير ملجأ الأيتام. نفس النظرة العدوانية، الخبيثة، المتظاهرة بالحنان والرّقة. لقد أصبح برلمانيا، وهو بالتأكيد الآن يعذّب كل من صوّت عليه يوما. نحن كان يعذبنا بالركلات واللكمات وحرق الجلد، وهم يعذبهم باختلاس ما استطاع من أموال ومن إخلافِ وعود. كنت ألبس لباسي الاعتيادي، المتسخ نوعا ما والممزق، متظاهرا بالتسوّل. أعرف أن عيون الشرطة تملأ المكان الآن، وأي وجه غريب سيكون مستهدفا، لهذا كان أفضل حلّ هو أن أواصل التمسك بواحدة من ميزات التشرد، وهي الذوبان وسط البشر دون أن تلحظك العين. كان يصيح مخاطبا الجموع بفصاحة تشعر أنه تدرب عليها أكثر من مرة فصارت عادة. حتى لحظات التوقف والتقاط الأنفاس تشعر أنها مفتعلة بشدة وأن الغرض منها جسّ نبض الجموع وتفاعلها معه. بعد دقائق من بدء خطابه، بدأ الحديث عمّا كنت أنتظره منه.. عن اختفاء ابنته. قال كلمتين أو ثلاثة ثم أجهش بالبكاء. بكاءٌ مرعب مخيف. بكاء جعلني أفهم أن هذا الرجل – كما عهدته – لا يهمه اختفاء ابنته بقدر ما يهمّه أن يستثمر ذلك على قدر الإمكان في كسب الشعبية. واصل كلامه وهو ينتحب ويتوعد. فهمتُ أنه يتهم حزبا آخر بعملية الخطف. وفهمت أيضا أنه يقدّم لي من حيث لا يدري هدية العمر. هذه نارٌ تحتاج فقط إلى من يُذكيها. ماذا عن رشوة صحافي مثلا ليكتب خبرا مكذوبا يزيد الشكوك في أن الخاطف هو عضو حزب منافس؟ ! أفكر في كل هذا وقد ابتعدت قليلا عن مقدمة الجمع، وجلست فوق ربوة مقابلة لمنصة المهرجان. الجمع ليس كثيرا. بالكاد يتجاوز المئة شخص. عدتُ ليلا إلى المخبأ وأنا أفكر في إجابة عن السؤال الأهم: كيف يتفق هذا وأننا كنا نناديه ب"رشيد"؟ من يستطيع أن يكشف لي الحقيقة؟ من؟ أخيرا، وبعد مجهود كبير خطرت لي فكرة. فلبست قناعي ودخلت على "منية". وما إن رأيتها حتى انفجرت ضاحكا.. لا أدري بالضبط كي انفلتت الضحكة من عقالها بهذا الشكل.. لكنني وجدت نفسي أقهقه بأعلى صوتي وأنا أنظر إلى منية وهي تلبس بيجامة فضفاضة جدّا أحضرها لها "الدندول" بوصيّة مني. حتى منية نفسها لمحتُ شبح ابتسامة على شفتيها قبل أن تعود لتختفي. يبدو أن عضلات "الدندول" أخذت فعلا كل ما يحتاجه عقله من طاقة حتى لم يعد يميز بين الأحجام ! لقد اشترى لها بيجامة فيل، وليس بيجامة إنسان. المهمّ أنها كانت تفي بالغرض، وتوفر لها الدفء والستر. - الهيّات... أجي نهنا - هانا أخاي "زرّوقة".. كنا قد اتفقنا على استعمال أسماء مستعارة حتى لا ينفضح أمرنا فيما بعد لو قررت منية الوشاية. سألته : - أولا، شكرا على البيجامة الرائعة..هه.. ثانيا، أين حقيبة منية الرياضية الجلدية التي أفرغتموها من كل محتوياتها؟ - أه.. لا شكر على واجب.. اعتمد عليّ دائما في مثل هذه الأمور.. أما الحقيبة فهاهي ذي في ذلك الركن خلف تلك الصخرة. فتحت الحقيبة وأنا أدعو الله أن يصدق حدسي وأجد بُغيتي.. وقد كان. كانت بطاقتها التعريفية موجودة هناك هي وبضعة أوراق أخرى. أخذتها وخرجتُ باحثا عن إضافة أفضل. "منية عبد القادر رشيد الغياط" !! هكذا إذن. الرجل لديه اسم ثنائي. كان مشهورا لدينا باسم رشيد، والآن هو يستعمل الاسم الآخر، وقد يكون هو الاسم الذي ألفه به الآخرون دائما. إذن.. إنه هو. دخلت وأعدت البطاقة لمكانها وأنا أشعر أن منية تنظر إلي بتوجّس وكأنها شعرت أن الأمور ليست على ما يرام. - كيف تسير أمور الملجأ؟ وكأن السؤال المفاجئ أصابها بصعقة كهربائية، خاصة أمام الصمت الذي كان يلف المكان فانتفضتْ في مكانها. - اهدئي.. لا تجزعي.. كان مجرد سؤال.. أكرر: كيف هو حال الملجأ؟ - لا رغبة لدي في الحديث.. جميل جدا. هاهي واحدة تريد أن تلعب دور البطولة في أسوأ وقت على الإطلاق. أنا بالكاد أتماسك وأمنع نفسي من إذايتها وهي تمثّل واحدة لقطات مسلسل تركي ما. أخرجت سكيني وأنا أستعدّ فعلا لإذايتها ولو بجرح صغير يخيفها. لست مستعدا أبدا لهذا الدّلال المفاجئ. بل هي فرصتي لإيذاء ذلك الحقير، وحرق كبده على ابنته. بمجرد اقترابي منها صرخت: - لقد توقف الملجأ عن العمل منذ سنوات كما تعلم بالتأكيد.. لا أحد من أبناء الشارع تخفي عليه هذه الحقيقة ! - أنا لا أعلمها.. لماذا توقف؟ أريد التفاصيل.. منذ أول سؤال لي عن الملجأ فهمت أن منية استطاعت أن تربط بين سؤالي وبين والدها. والدها مدير ملجأ سيء السمعة، وأنا متشرد. إذن بالتأكيد كنت واحدا من ضحاياه. لن يصعب عليها أن تصل لهذا الاستنتاج. - كما تعلم، من حين لآخر كانت تكتب عنه مقالات تنتقده لكنه استمر رغم كل شيء. في أحد الأيام قام أحد أبناء الملجأ بتصوير والدي وهو يمارس ال...... أقصد يضرب الأطفال. ثم وضع الفيديو على يوتيوب، فانتشر الأمر ولم يعد هناك مناصّ من إغلاق الملجأ وطرد والدي، وهو الآن مكان مهجور، بدأت أسواره وجدرانه تتهاوى فعلا.. لكن صدقني، والدي مظلوم فعلا، وقد تمت فبركة المقطع.. الغريب أنني فعلا لم أقترب من مكان الملجأ في حيّ مرشان منذ غادرته من سنوات. كأن المكان محاط بدائرة كهربائية عبارة عن ذكريات إن اقتربتُ منها ستصعقني. تركتها وخرجت لالتقاط أنفاسي ولترتيب أفكاري. على بعد أمتار قليلة أرى شبح فتاة يتوجه نحونا أنا و"الدندول" فنتظاهر بشم "السلسيون" كما اتفقنا.. الفتاة تقترب بإصرار ودون خوف. تتضح تفاصيل جسدها شيئا فشيئا، ثم ملامح وجهها... - شروووووق !!! ما الذي جاء بك إلى هنا؟ ! رواية "المتشرد" 10.. التعرف على البرلماني يصعقُ عماد