تبتسم شُرُوق، ذات الخالة الجميلة فوق الخدّ، دون أن ترفع رأسها وأنا أمرّ من أمامها ناظرا إليها بطرف خفي. لست متأكدا إن كانت تبتسم لشخصي أم لمروري أم للحدث ككلّ. ففي مقهى الإنترنت هذا الذي تعمل فيه شروق استطعت أن أعرف أشياء لم أكن أعلم بوجودها من قبل. دخلت يوما متسللا للتسلية ولسرقة شيء ما قد يخفّ وزنه ويرتفع ثمنه، لأكتشف عالما جديدا، بدأته بالدردشة واللعب ثم التصفح بفضول شديد. لدى شروق، بدأت أتهجّى الحروف من جديد ومعها لوحة المفاتيح العربية، ثم الفرنسية. أرفع إصبعي باحثا عن حرف ما، فأقضي دقيقة كاملة لأجده، وهكذا.. قبل أن تصبح عملية كتابة جُمل كاملة مسألة سلسة بالنسبة لي. في ملجأ اليتامى الذي قضيت به 3 سنوات من حياتي تعلمت الكتابة والقراءة، وكان هذا أفضل ما استطعت اكتسابه من هناك.. طبعا مع قلب مملوء بالغلّ والرغبة في الانتقام والتدمير. مدير الملجأ كان شيطانا مريدا لا يرحم. كان يتسلى بركلنا كلّما شعر بالملل. أقسى ضرباته كانت تلك التي يجمع فيها قبضته ويهوي على الرأس. أتذكرها الآن فأضع كفي على رأس وكأني قد ضُربت للتوّ. اللعين، الوغد، السافل. في أحد الأيام زارتنا قناة تلفزيونية من أجل تصوير تقرير عن الملجأ. كانت أول مرّة أدرك فيها أن الشيطان يستطيع فعلا أن يتمثّل بالشكل الذي يريد. وهذه المرّة اختار أن يكون ملاكا، ولم ينقصه سوى تلك الدائرة على رأسه مع الجناحين. أذكر أن المدير/الشيطان ربّت على رأسي حوالي مئة مرّة وهو يبتسم بعذوبة ويختلس النظر إلى الكاميرا. قبّلنا وضمنا إليه أكثر من مرّة. عندما مُدّ إليه الميكروفون ليتحدث خرج صوتٌ قادم من وراء السحاب، صوت ناعم رقيق مختلج.. بالكاد استطاع منع نفسه من البكاء من شدّة حبّه لنا ! كان جسده المنافق يتحدث. يده على صدره.. حاجباه يرتفعان.. دموعٌ مترقرقة في مقلتيه. في المساء، بلغت بنا السعادة مداها لأنه قرّر السماح لنا بمشاهدة التلفزيون، وكأنه يريد أن نشاهد قدرته على التلوّن والتحوّل. لم نفهم أهو استعراض عضلات أم محاولة خداع. لكن الفرحة لم تكتمل لأن القناة قرّرت أن تتآمر علينا هي أيضا وأن تزيد من شدّة المأساة وهولها، فعرضت لقطات للملجأ، وبضع لقطات لنا نحن الأطفال ونحن نلهو ونركل بعضنا، وتجاهلت تصريح المدير. بل إنها لم تظهر حتى لقطاته وهو "يحنو" علينا. انتهى التقرير وعمّ الصمت. من حين لآخر نسمع صوت ريق يُبلع. وكأنه واحد من المشاهد السينمائية المكرّرة، استدار إلينا المدير – وأذكر الآن أن اسمه كان رشيد – وقد برز قرناه من جديد وسطعت أنيابه تحت أضواء المصباح الخافت: - ماذا تنتظرون يا ملاعين؟ ! القهوة والشاي؟ هيّا اصطفوا جميعا، فقد حان وقت عقوبة المساء. أما لماذا العقوبة؟ ولماذا في المساء؟ فهذه أشياء لم نكن نسأل عنها. فقط نصطفّ واحدا وراء الآخر بصمت وخشوع ونمرّ أمامه كي يمارس هوايته: الركل، اللكم، وأحيانا الرميّ أو الخبط بالجدران. لازلت أتذكرك جيدا يا رشيد. ولي منك في هذه الحياة قصاص يوما ما. فقط انتظرني. شروق تستمرّ في ممارسة لعبة التجاهل كعادتها، وتتركني أنهي الساعة وأخرج دون أن أدفع. على قدر علمي، أنا الاستثناء الوحيد هنا. أرى أن جميع الزبائن يدفعون إلاّيَ. لم نتبادل ولا كلمة واحدة أنا وشروق. حتى اسمها علمته فقط من بعض الزبائن أثناء مناداتهم عليها. ما حدث في أول يوم أتيت فيه إلى هنا هو أنني عندما أردت أن أدفع تجاهلتني شروق تماما. شعرت ببعض الإهانة خاصة أنني كنت قد أعددت العدّة ولبست ما أعتقد أنها ملابس لائقة، وخاصة أيضا أن مقهى الإنترنت كان يبدو لي وقتها كمقرّ وزارة لا يدخله إلا عيّنة مختارة من الناس. لكنني بعد مرور بضع دقائق فهمت أنها تتعمد عدم قبض الثمن. مغادراً، أقدم رجل وأؤخر أخرى، فهمت أن شروق تقول لي "لن أقبض منك..أخرج قبل أن أغير رأيي". أسعدني ذلك ولو أنني لم أفهم سرّه. بذلك المبلغ اشتريت وجبة وقسمتها إلى غذاء وعشاء. الآن، كلما أقرر الذهاب إلى "شروق".. أقصد الذهاب إلى مقهى "طنجيس نت" الذي تعمل فيه شروق، ألبس أفضل ما لديّ. وأفضل ما لدي هي بذلة واحدة أخفيها في مكان مهجور بإحدى الحفر العميقة التي يستحيل أن يصل إليها إنس أو جانّ. أنهيت اليوم جلستي الأسبوعية عند شروق، وها أنا أعيد ملابسي إلى صوانها الحجري، إلى حفرتها. ذلك الكتاب الأصفر لازال هناك. حائرٌ أنا أأرميه أم أمزّقه أم أحتفظ به حتى حين. يبدو مكتوبا بلغة غريبة.. ليست الفرنسية بالتأكيد لأنني كنت سأستطيع تمييز بضع كلمات رغم خطّ صاحبها الرديء جدا. أتراها الإنجليزية؟ ! الآن خطرت لي فكرة: لماذا لا أعرضه على شروق؟ تبدو ذات علم ومعرفة.. ولعلها تكون بداية معرفتي بها وبالسرّ الذي جعلها تعفيني من أداء الثمن وبتلك الطريقة الغريبة. رواية "المتشرد" 1 .. عماد يعثر على كتاب قديم في "فيلا هاريس"