تقديم لاحظوا معي بأن أزمنة الأوبئة لا تداهمنا ولا تأتينا على حين غرة، سوى في أزمنة أزمة في العلم. هكذا تكشف هذه الأزمة، بإكراهاتها ومعاناتها والقلق الذي يرافقها، عن خلل معين في دائرة المعرفة العلمية. نعم العلم اليوم في أبهى قوته وإشعاعه الكاسح. هذا معروف وموثوق فيه. إنما علينا أن ننتبه في هذا السياق لأربع ملاحظات: -الملاحظة الأولى هي أن صدمة الوباء كما تلقيناها، أصبحت تطرح تساؤلا مشروعا يقول: ألم تفرط الإنسانية في بعض العلوم لصالح بعضها الآخر ؟.أعني هل غلبت كفة البحث في حقل العلوم الطبيعية لصالح العلوم الفيزيائية والنانو تكنولوجي على حساب علوم البيولوجيا والكيمياء على سبيل المثال. العلوم الأولى تصنع من بين ما تصنع، حاملات الطائرات والصواريخ والقنابل وجميع المتفجرات الجرثومية، ووسائل الدمار الشامل والمفاعلات النووية، وكل ما يستخدم في الحروب الفظيعة التي يعيشها العالم بشكل عدواني بغيض. والثانية تصنع من بين ما تصنع، الأدوية والمضادات الحيوية واللقاحات والمواد الزراعية (بيو) صديقة البيئة وصديقة الإنسان وغيرها.. وبكلمة واحدة، فقد تم تغليب كفة: ''علوم الدمار والحرب'' على: ''علوم الحياة والسلام''.؟ - الملاحظة الثانية، هي أن علوم الحياة حققت فتوحات علمية لا حصر لها، بل حققت ثورات كبرى، وواجهت في الماضي والحاضر حروبا وبائية قاتلة في كل مناطق العالم. لكنها هذه المرة وقفت عاجزة لحد الآن عن التصدي لفيروس خطير، أخطر ما فيه أنه سريع الانتقال ونشر العدوى بشكل خارق من الصعب محاصرته، وأدى إضافة إلى حصاده الآلاف من الضحايا عبر العالم، إلى توقيف حركة الاقتصاد العالمي والدورة الصناعية والتجارية بشكل شبه كلي.... - الملاحظة الثالثة، هي أن العلم له حس توقعي يتجاوز كل الحدود التي يمكن أن نصفها في كلمات، وهذا شيء معروف ومؤكد على المستوى الإبستيمولوجي...وفي المختبرات العالمية ومراكز البحث العظمى، رجال سافروا إلى أزمنة فيزيائية وبيولوجية أخرى غير التي نعرفها نحن....ولكنهم لم يتوقعوا هذا ''النمس'' العجيب''، سوى إن كان هذا ''النمس'' نفسه قد نشأ ونما نتيجة خطأهم الاختباري المفرط في الوثوقية؟.وهذا مجرد افتراض على سبيل الشك فقط، إن لم يكن الفيروس نفسه قادما إلينا من الطبيعة.... -الملاحظة الرابعة، هي أن هذا الوباء الذي كبر حتى تحول إلى جائحة هددت حياة العالم، فضح إنسانية الإنسان.....وأبان أن الاستثمار في الحرب والقتل الهمجي، يفوق الاستثمار في الحياة، رغم ضخامة هذا الاستثمار الأخير...... - والمستقبل وحده سيضيئ لنا طريق الإجابة عن أوضاع العالم، ما بعد الجائحة... -الاستفهام وتلمس معالم الطريق - ينبغي ألا نفرط في توقعات يقينية للمستقبل بعد زمن وبائي فضيع. كل التوقعات قابلة للمراجعة وإعادة التوجيه، وربما تركها نهائيا فيما بعد... -نستطيع أن نرصد فقط فرضيات للتفكير. وهذا يعني أننا لا نملك أجوبة شافية ولا واثقة عن استفهاماتنا..نتلمس فقط معالم طريق للمعرفة، لكي نقدم ما كان يسميه رولان بارث في قراءته لنظرية النص: ''لمسات ''.... -لا أرى نفسي أستطيع غير القيام بتشخيص( الفلسفة تشخص، قياسا على ''تشخيص الحاضر''-ميشيل فوكو)، لهذا الراهن الملتبس كما عشته و أعايشه على الأصعدة كلها. -لاحظوا معي فلاسفة وعلماء كبار اليوم يتحدثون باقتضاب ويقدمون فقط مشروع رؤية أو أفكارا مازالت هشة وطرية ومجرد فرضيات توقعية....(إدغار مورا آلان تورين..وقس على ذلك عند خبراء وكبار العلوم الإنسانية والعلوم الدقيقة والأديان والعقائد المختلفة، والآداب والفنون...الخ... - أزمنة الأوبئة في العادة تشبه كوابيس طويلة الأمد، أياما طويلة ولا تنتهي بسهولة..لذلك لن نفهم بوضوح أفضل ما يجري سوى في مساء ذلك اليوم...الأمر يتعلق بصدمة كونية..لاحظوا هذا الرعب العالمي.. -أزمنة الأوبئة أزمنة أزمة أو صدمات صاعقة بالضرورة، والأزمة حين تكون ما زالت ضاغطة علينا، يصعب محاصرتها كاملة بأفكارنا ومشاعرنا ونقدنا لأوضاعها.وأنا أتذكر في هذا السياق المرحوم عبد الكبير الخطيبي، في إثارته للانتباه إلى علاقة عميقة لا ننتبه إليها عادة، بين النقد والأزمة..والنقد لا يأتي إلا حين يكون هناك في الخلف شيئا أو وضعا في أزمة...وهكذا ينبغي في تقديري، أن نضع مسافة بيننا وبين الأزمة التي نعيشها اليوم، حين نفحص بعين ناقدة أوضاعنا بعد الوباء، خاصة ونحن ما زلنا في قلبها..( هذه المسافة التي أتحدث عنها تشبه تلك المسافة التي تطالبنا بها السلطات الصحية بين بعضنا البعض.(لكن المسافة التي أشير إليها بطبيعة الحال، لا تشبه سوى من حيث الترميز والاستعارة المسافة الصحية. إنها ''أكثر من متر ونصف بكثير''....انتبهوا.). - الثقافة والطبيعة والعلم -أسئلة الثقافة كما أتصورها في زمن وبائي، تقع بين الإنسان والطبيعة. إن الثقافة هنا هي الوسيط الأنتروبلوجي/ التاريخي بينهما. ولا يتطور الإنسان في علاقاته الجميلة والمعقدة مع الطبيعة في علاقاته المادية والرمزية، التفاعلية والمنتجة، إلا عبر الثقافة...... - لكن، ما الطبيعة؟ -أجد في اللغة والفلسفة والثقافة اليونانية، تدقيقا لغويا وفكريا جميلا وموحيا في هذا السياق التحليلي.ليست الطبيعة، من بين تعريفاتها الأخرى(الماهوية مثلا)، هي المادة فحسب..بل إن معناها اللغوي الأصلي(اليونانية القديمة) يعني: النمو- النشوء...هذا ما يفيده أرسطو في مقالة الدلتا(الكتاب الخامس) في كتاب ما بعد الطبيعة حين يدعونا إلى نطق هذه الكلمة بطريقة مطولة...ونحن نجد ليو ستراوس أشهر أستاذ للفلسفة السياسية في القرن العشرين يؤكد ذلك الاشتقاق..في تشخيصه لبداية الفلسفة السياسية الكلاسيكية.. - الطبيعة هي النمو بمعنى أنها الحياة لا المادة فقط....والحياة من حيث هي نشوء مستمر، تعني أنها تحيلنا إلى فكرة المرض و الموت أو الفناء المرتقب أيضا....وما الثقافة؟ - الثقافة هي جملة المجالات المعرفية والسلوكية والرمزية التي من خلالها نسافر في الطبيعة وفي أنفسنا....الطبيعة كاشفة والإنسان مكتشف. الثقافة هي التي تكتشف وتفكك وتصنع وترتب وتصنف وتبرمج وتستثمر في هذا الكشف........إن الثقافة تختزل أشكال التدخل البشري في الطبيعة. ومن بين أقوى التدخلات في الطبيعة، تدخل العلم... - الثقافة كما أتصورها الآن هي الدين، وهي الأدب وهي الفن وهي اللغة، والفلسفة وكل الطقوس والتقاليد والرموز والرسوم والمعتقدات والتمثلات والاستدلالات والبراهين المنطقية وغير المنطقية التي عبرها نضع مساطر وآليات لعلاقاتنا الإنسانية أولا(بيناتنا) وعلاقاتنا بالطبيعة.. إنها تتسرب إلى عالمنا المعيش وطقسنا ومزاجنا الحياتي ونمط عيشنا..إنها العقل والروح والمزاج الذي أتمثل به الأشياء المادية والرمزية، وأتصور ذاتي في قلبها.....إنها الوعاء الوجودي الذي يحتضننا.لكن الثقافة بهذا المعنى هي العلم أيضا..وراء العلم هناك في الخلف ثقافة علمية... أيها السادة، لا تنسوا أن للعلم ( بروفايل ) هو ثقافته بالذات..إنها خلاصة تقاليده القديمة والجديدة في التفكير والعمل.... لا يزدهر العلم سوى في منبت ثقافي منتج ومحب للعمل والأخلاق( بمعنى النزاهة). فالعلم لا يتطور ويكشف عن شهية الاكتشاف والمعرفة سوى إن تم زرعه في بنية ثقافية مناسبة لطموحه الجامح في النمو والتسرب إلى ألغاز الوجود وأسرار العالم.ويحتاج بالضرورة، إلى ماء صاف وغير ملوث يروي به ظمأه المعرفي وحاجاته المنهجية. كما يحتاج الى بيئة(قطعة أرضية) نظيفة..لا تخترقها الطفيليات والحشرات الضارة القاتلة لحياة العلم والعقل...وفوق كل هذا، فهو يحتاج أيضا إلى الشعور بالاستقلال، وعدم الخضوع للوصايا والوصاية القديمة من أية جهة خارجية معادية للعقل والعمل المنتج النافع....انه يحتاج لثقافة تؤمن وتقدس فكرة:''علمنة العلم''...والمعنى واضح.... --الثقافة هي التي تنتج القوانين والأعراف وسيناريوهات ومساطر التدخل الفني والصناعي والعقلي... وفي الأزمنة الحديثة راجت على نطاق واسع ما يسمى بنظرية الحق الطبيعي. بحيث، حتى التعاقدات البشرية تم استقاؤها من الطبيعة. (مونتيسكيو:''القوانين هي العلاقات الضرورية بين الأشياء.'').ومن القوانين القادمة من الطبيعة، يلج الإنسان إليها فاتحا، وينظم حياته الاجتماعية والعمرانية....هنا أتذكر فكرة فلسفية ملهمة: ''الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة ''في نظرية وحدة الوجود( أفلوطين-ابن عربي- سبينوزا......). الأولى سماوية لاهوتية إلهية، مادة خام تشي بالحركة والتدفق، وتمتلك كل خصال الوجود الطاهر والماهوي، بل المقدس....الثانية إنسانية تحولية، مبدعة ومبتكرة، لكنها تقع في بعض الأحيان نتيجة أخلاق الجشع والطمع والمصالح الرخيصة، على حساب أخلاق الطهر والصفاء الإنساني.... - وما دامت الثقافة كما حددناها، كمكتسبات إنسانية وتفاعلات عقلية وروحية متعددة ومتنوعة، مع الطبيعة ومع المجالات الإنسانية المختلفة، فهذا يعني أن تحليل وبسط هذه التنوعات التفاعلية للثقافة مع أزمات العلم، ومن بينها الأزمات الوبائية، يقتضي مداخل متباينة المرجعية الابستمولوجية. لهذا فان مدخلي الخاص سينطلق بالتحديد الدقيق من مجال تخصصي واهتماماتي الشخصية.. -خمس محطات -وحين أتأمل هذا الزمن الوبائي، باعتباره مجسدا من ناحية معينة، لأزمة في العلم؛ أقصد، حين أتأمل هذا الزمن من وجهة نظر فلسفية، أجدني أتذكر محطات فكرية وعلمية وسياسية، لها دلالات قوية، من بينها: أولا- عالم البيولوجيا الشهير وفيلسوف العلم( نوبل الفيزيولوجيا والطب 1965). انه فرانسوا جاكوب (1920-2013)، الخبير الدولي، صاحب الكتابين المعروفين في تاريخ العلوم: 1- منطق الحي أو الكائن الحي1976- لعبة الإمكانات: محاولة حول التنوع الحيوي 1981. يدافع فرانسوا جاكوب عن تصور قوي للعلاقات بين المقومات البيولوجية للإنسان ومقوماته الثقافية، ماذا يقول فرانسوا جاكوب. انه يقدم لنا ثلاثة أفكار سأعلق عليها: 1-'' كل ما يميز الإنسانية تقريبا، يمكن أن يختزل في كلمة:' ثقافة'.''. - وإذا أمكن لي أن أقرا وأؤول هذا السياق الفكري، سأقول أن الثقافة هنا هي روح الكائن الحي، شخصيته، هويته التي لا تصنع في المختبرات. إنها الأسلوب الذي من خلاله يتفاعل الكائن الحي وهو بيولوجي المنشأ، مع عالمه الواقعي/ المادي. الكيفية التي يشكل عبرها تمثلاته لذاته وللآخرين من حوله، وللطبيعة في نهاية المطاف.. 2- '' ككل الأنظمة العضوية الحية، يعتبر الكائن الإنساني مبرمجا وراثيا( جنتيكيا)، لكنه (أيضا) مبرمج لكي يتعلم.''. - فرانسوا جاكوب عالم بيولوجيا وفيزيولوجيا بمقام علمي دولي، ونحن نعرف اليوم أن العلم ذهب بعيدا في تفكيك شفرة الخرائط الوراثية (الجنتيكية) يتحدث عن الكائن الحي بهذا المعنى، لكنه يقول أيضا أن للإنسان ''خريطة روحية'' إن صح هذا القول، وهي مفتاحه للتعلم. هنا تبدو لي ملاحظتان أساسيتان: - الملاحظة الأولى هي أن أسلوب التعلم، رغم أصوله البيولوجية، هو منتج عملي إنساني. إنه حصاد الخبرة الفردية والاجتماعية ( الجماعية). ولهذا تختلف طرق التعلم وتجاربه ونتائجه كما تختلف أساليب العمل المرتبطة به.. - الملاحظة الثانية هي أن التعلم يعني الكفاءة والاقتدار في ابتكار سيناريوهات ممكنة للحياة نفسها. بمعنى القدرة على التفاعل الإيجابي مع العالم ومع الطبيعة، في أزمنة الرخاء والسعادة وأزمنة الأزمات والإكراهات العويصة على حد سواء... 3-'' ليست أفكار العلم هي التي تولد مشاعرنا. بل مشاعرنا هي التي تستخدم العلم من أجل أن تدعم قضيتها''.. -العلم يصنع الرخاء والرفاهية والعيش الكريم اللائق بالإنسان. انه يصنع الحضارة والتحضر ويقيم العمران...ولكن العلم كأفكار متميزة وصارمة، ليس مولدا للمشاعر والأحاسيس. هذه المشاعر بالكيفية التي نستمتع من خلالها بمكاسب العلم والمنتجات العالية الجودة التي يصنعا العلم والعلم التقني بشكل خاص، هي تفاعلاتنا الروحية والشعورية والنفسية العميقة وطريقة احتفالنا وفرحنا بهذه المنجزات الخارقة. وهنا أقول أن التكنولوجيا موجودة في العالم بأسره، غنيه وفقيره، شماله وجنوبه، غير أن التفاعل والحس العملي المحايث له، الإيجابي والسلبي معا، ليس واحدا ولا متماثلا تماما...لكم أن تلاحظوا معي اختلاف المشاعر في مواجهة هذا الوباء الفتاك (الكوفيد 19) من مجتمع إلى آخر في العالم.(أترك لكم حرية الإتيان بالأمثلة...)..يكفي أن نفتح مواقع التواصل الاجتماعي الآن، لكي نجد هذه المشاعر في انتظارنا.........في الفيديوهات والصور والأوديوهات التي يتم تقاسمها على نطاق واسع منذ شهر ونصف بعد ابتلاءنا بهذا الوباء الفظيع....إنها تجسد ثقافة المجتمع المعني.....لنسأل المؤرخين، عن مشاعر وتمثلات أجدادنا المغاربة في القرون الماضية، حين كانت الأوبئة تداهمهم، حين كان يأتي الطاعون والكوليرا وغيرهما ليحصد النسل والزرع كليهما، لنستبين كيف كانت تفاعلاتهم مع هذه الأزمات والكوارث.... خلاصة المعنى أن هذا التفاعل هو الذي يحفز العلم ويستخدمه كما يقول فرانسوا جاكوب. ولعلكم تلاحظون أن المختبرات العالمية والعلماء ذوي الاختصاص الدولي المعروفين، يتسابقون من أجل إيجاد حل طبي بيولوجي لهذا الفيروس القاتل، وهم مسرعون( كايجريو ويجاريو)، نظرا لضغوط مشاعرنا التي تحس بأخطار لا حصر لها على البشرية كلها...كان المعلمون في المدرسة يذكروننا مرارا ونحن أطفالا صغارا، بحكمة جميلة، تقول:'' الحاجة أم الاختراع''.... ولكن المشاعر ليست واحدة، لهذا فهناك من يثق في العلم وهو واثق من نجاحه، وهناك من ''يتنافس'' مع العلم، ويزاحمه ويتوهم اكتشاف وصفات من خارج العلم ( العلم مخترقا ومختلطا بما ليس من العلم في شيء).والمشكل أن بعض هؤلاء من أصحاب هذه الوصفات العجيبة يحسبون أنفسهم علماء كبار( لوكان بقات غير في الفقيه الجاهل، لاباس نعذروه ونسامحوه....)...هل نتعامل مع هذه الأزمة الوبائية مثلا بالإيمان الديني الطاهر والعقلاني، والثقة في العلم باعتباره عملا منظما ومبتكرا ومتطورا وفاتحا، ومن نعمة الله علينا، أم نتعامل معه بالخرافات والأباطيل والشعوذة المتعددة الأبعاد....؟ - لقد خلقنا لنتعلم ونبتكر ونواجه الطوارئ والكوارث بعقلنا اليقظ، لا باستكانتنا للخمول، لا لكي نؤمن بما لا يصح لا شرعا ولا علما...فهل يمكن إعداد وصفة طبية وعلاجية، للقضاء على وباء مستجد وطارئ يحير العلم في العالم، ‘‘ في ستة أيام''......ولكم واسع النظر... - لماذا لا يتحدث العلماء هناك، سوى بمنطق العلم؛ العلم حصريا ؟ أقصد هناك في ذلك الذي يسمونه بإطلاق متخلف: ''الغرب''. ولست أدري عن أي غرب ( شكون فيهوم ) يتحدثون.؟ -هنا تحضر ثقافة العلم وثقافة العلماء، كما أسهبت في بسطها آنفا... - ثانيا-فلسفة الحياة: - فلاسفة الحياة جميعا مناصرون للفعل: ''إنهم فعليون''.عمليون. ويمكن القول أنهم أصحاب فلسفة إنسانية، رغم أنهم لا ينتمون إلى التيار الفلسفي المعروف بهذا الاسم، والذي تعود أصوله إلى عصر النهضة الأوروبي الذي انطلق من إيطاليا بالذات.. وحمل اسم النزعة الإنسية أو الفلسفة الإنسانية... - وهم محبون للحركة والصيرورة. ويناهضون النزعة المادية في الفلسفة. تجمع بينهم عبارة شهيرة للفيلسوف الفرنسي هنري برجسون ( 1859-1941) تقول: ''هناك في الصيرورة أكثر مما هناك في الوجود.'' - إنهم يتصورون الواقع على نحو "عضوي'. ويشكل عندهم علم الحياة'' البيولوجيا'' نفس ما تمثله علوم الطبيعة( الفيزياء بصفة خاصة) بالنسبة لأصحاب المذهب المادي. ربما باستثناء الألماني: فيلهيلم دلتاي (1833-1911) ومدرسته، حيث يتم تسييد( من السيادة بمعنى الإعلاء من) علم التاريخ. وهو في نهاية التحليل علم إنساني. - مناهضون للتصور الوضعي للعلم: يرفضون اعتبار الإنسان ليس غير جزء من الطبيعة. وبالنسبة لهم جميعا، فالعالم ليس آلة أو مادة، بل حياة ديناميكية وعاملة وفاعلة.... فلاسفة الحياة كان لهم حضور قوي في الساحة الثقافية والفلسفية العالمية، بشكل خاص من نهاية القرن التاسع عشر إلى حدود منتصف القرن العشرين. وسيؤدي ظهور الفلسفة الوجودية التي نهلت إلى حد ما من معينهم النظري إلى خفوت إشعاعهم وتأثيرهم... - لقد كان فلاسفة الحياة مناهضين لكل التوجهات العلمية المفرطة في النزعة التجريبية والوثوق في التعليلات المادية المحضة للواقع والإنسان والتاريخ.... كما كانوا، إبستيمولوجيا، معاصرين لأزمة العلم كما جسدتها أزمة العلوم الطبيعية بشكل عام، وجسدتها فيزياء نيوتن بشكل خاص....في نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين.. ثالثا- تيار نقد العلم في نهاية القرن 19 وبداية 20. - هل ستؤدي بنا هذه الأزمة العميقة في الوجدان الإنساني الكوني إلى أزمة حادة في العلم ؟ وهل سينتج عنها ما يسميه توماس كوهن( 1922-1996) في رصده المرجعي:'' لبنية الثورات العلمية'': ''براديغمات'' جديدة للمعرفة العلمية.هؤلاء العلماء والفلاسفة يناهضون بشكل عام، هيمنة المصالح التجريبية المحضة على المصالح الإنسانية الروحية في العلم التقني..ويقدمون تصورات جديدة للعلوم التجريبية..وقد تقوى هذا التيار الذي عرف بهذا الاسم، في نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين....ومن أهم ممثليه، العلماء:- ريتشارد أفيناريوس (توفي 1896) إميل بوترو(1921)- هنري بوانكاري (1912)- بيير دوهيم (1916)- ارنست ماخ (1916).......إنهم من بناة العلم المعاصر وقد وضعوا مناهج العلوم الطبيعية كلها تحت مجهر الرصد والنقد...... - هل سيقوم في الزمن القريب أو البعيد ما يمكن أن نسميه: ''تيار نقد العلم'' جديد. وربما قد يقوي هذا التيار في حال تطوره، إلى صعود النزعات السياسية والثقافية الإيكولوجية المنتشرة عبر العالم وأطروحات المدافعين عما يسمى: ''السلام الأخضر'' (كرين بيس). -وقد شهد تاريخ العلوم فيما مضى، مذاهب فكرية كانت ردود أفعال قوية وحادة على أزمات معينة في البحث العلمي، وعلى ما اعتبر استهتارا للعلوم الطبيعية بالإنسان وقيمته السيادية السامية. إنهم لا ينتقدون العلم كعلم، بل الطابع التكنوقراطي للعلم... رابعا: مدرسة فرانكفورت- إنها مدرسة النقد الثقافي القوي الذي وجهه رواد مدرسة فرانكفورت الألمان لكل السياسات التي أدت إلى تبخيس الثقافة وتحنيط الإنسان في المجتمعات الصناعية الكبرى، وتسليع(من السلعة) الإنسان في سوق المضاربات والمصالح الكبرى للرأسمال المتوحش. إنهم يعادون ما يسمى:''الصناعة الثقافية''. وينتقدون نتائجها الوخيمة على الأخلاق ونظام القيم النبيل. كما قدموا تحليلا نقديا حادا لبعض نتائج وتأثيرات العلم بمفهومه الامبريقي/ الاختباري الضيق، على حياة الإنسان ومجالاته الحيوية في الآداب والفنون والحياة الإبداعية...ومدرسة فرانكفورت التي أسسها ماكس هوركهايمر (1895-1973) وتيوتور أدورنو (1903-1969)في ثلاثينيات القرن العشرين، ما زالت تنشط الحياة الفكرية الأوروبية والعالمية إلى اليوم، من حيث تشارك في ذلك التيار العريض الذي تنتمي إليه، ويسميه مؤرخو الفلسفة: ''فلسفة ما بعد الحداثة.''.... -كذلك هناك الماركسيون التاريخانيون بشكل خاص(قبل ظهور فلاسفة مدرسة فرانكفورت وهم ورثة لها)،وعلى رأسهم جورج لوكاتش، في نظرية التشيؤ الرأسمالي، بعد النقد الهيجيلي القوي والعميق لظاهرة الاستلاب. ونظرية التشيؤ احتجاج ثقافي وفلسفي وسياسي صارخ ضد ما يسميه لوكا تش:'' العلم الحسابي الدقيق'' الذي أهان بالنسبة له، إنسانية الإنسان...لصالح الآلة المنتجة..وبالتالي انهيار الأخلاق والقيم الإنسانية الجميلة...إن التشييئ يعني تحويل الإنسان إلى أشياء كباقي المواد المصنعة..وستتطور هذه النظرية بشكل واسع مع نقاد الحداثة وفلاسفتها الكبار فيما بعد..... -خامسا- نظرية التنمية المستدامة. وفي هذا الإطار، يذهب ذهني إلى سيدة راقية، أرى من واجبنا أن نوجه لها تحية احترام وتقدير خاص.. إنها الطبيبة والسياسية النرويجية المعروفة: كرو هارليم بروندتلاند، وهي رئيسة سابقة لمنظمة الصحة العالمية،من 1998 إلى 2003. برونتلاند كانت رئيسة لجنة أممية كلفت بإعداد تقرير حول أوضاع البيئة في العالم. وفي هذا التقرير الذي صدر سنة 1987 تشريح دقيق قام به اختصاصيون زملاء لها في اللجنة، للأوضاع الكارثية التي نعيش اليوم نتائجها السلبية على الصعيد العالمي.هذا التقرير ليس فقط صديقا للبيئة والفضاء الحيوي( ليكوسيستيم) بل صديقا للإنسان وصديقا للحياة. والتقرير في إجماله دفاع قوي عن الحياة. وبعبارة أخرى فهذا التقرير الذي وقعته برونتلاند بالنيابة عن باقي أعضاء اللجنة الأممية، ينبهنا إلى مخاطر الاستخدام العدواني للعلم في الطبيعة...وهو إدانة غير مباشرة في تقديري، للرأسمالية المتوحشة.....ودفاعا قويا عن حقوق الأجيال القادمة.... ونظرية التنمية المستدامة ليست فقط دفاعا علميا وإيكولوجيا عن الطبيعة، بل أيضا دفاعا ثقافيا وروحانيا وأخلاقيا عن الطبيعة والإنسان معا، كصانعين لمستقبل البشرية...وبهذا المنطق، فإن حفاظي على الطبيعة، هو مدخل لحفاظي على نفسي وحفاظي على الآخرين....ولقد تدخل هذا التقرير في تقديري المتواضع، في لحظة أزمة من أزمات العلم، رغم أنها لم تكن معلنة بطبيعة الحال.......ونحن ما زلنا نعيش بعض فصولها المؤلمة..... * أستاذ باحث-الكلية المتعددة التخصصات بالناظور- جامعة محمد الأول