بعدما كنا بالأمس نتصارع الأفكار والرؤى والأذواق وحتى العناد، لأجل التميز والحظوة بالمناصب والبقاء على الكراسي والهيمنة على النفوذ والامتياز، أضحى هذا كله من الماضي - على الأقل نظريا - وإن كان فقط بالأمس، وإن كان "طريا" للتو.. ! لكنه لم يعد له بعد دلالة مقنعة أمام هول ما نعيش وما بات هاجسا مقلقا إلى حد مخيف، فلا ريب أن التعاضد بين العقل والضمير أصبح مطلبا متواصلا لا ينقطع، خصوصا وأن الإيديولوجيا والتعصب للنظريات المتباينة من أجل الاختلاف وتمييز الخلاف لصنع رأي عام والذهاب به نحو زعم صناعة برنامج طويل أو قصير الأمد بغية قطع الطريق على الخصم للوصول إلى تحقيق مصلحة ذاتية أو حزبية أو فئوية لتمزج بقدر ما من "الدين" - أو حتى الترصد للدين أحيانا (أو غالبا) -، وقدر ما من "الوطنية"، وقليل ما من "الغيرة"، لاشك أنه لم يعد مجديا ولا مقنعا، بل آل إلى منعطف حساس مشحون (في آن) بمشاعر التركيز والتأمل والتفكير والاجتهاد، في الاختيار بين الصحيح والأصح وبين الصواب والأصوب. بعض فينا خبير أو مهتم بالتاريخ، والبعض منا يقرأ التاريخ، والبعض الآخر سمع شيئا من هنا وهناك، فالتقى هذا وذاك بما روي بكثافة - ونحن نعيش هذه المحنة الكونية المشتركة - عن الطاعون الذي انتشر سنة 1720، وسمي حينها طاعون مارسيليا العظيم، إذ تشير الأرقام إلى أن أكبر عدد ضحاياه وقع في مدينة مارسيليا حين قتل الوباء أكثر من مائة شخص، وحدث أيضا أن انتشرت الإنفلونزا الإسبانية سنة 1918 والتي أصابت أكثر من خمسمائة مليون شخص، فَقَدَ ما يقارب مائة مليون منهم حياتهم في جميع بقاع العالم، وكانت تلك الجائحة أكثر كارثية في التاريخ ! كما أن وباء الكوليرا الذي ظهر أول ما ظهر في بلدان شرق آسيا (تايلاند، الفيليبين، أندونيسيا) لينتقل إثرها إلى دول أخرى ويسجل سنة 1820 أكثر من مائة ألف حالة في القارة الآسيوية وحدها، وقد قيل أن الكوليرا بدأت من أشخاص شربوا ماء ملوثا.. ومن هنا يتضح أن مهام المؤسسات التي بتعلق بها الإنسان أكثر من أجل الحياة، ومن أجل الأمن (الأمن الصحي والأمن الذاتي والأمن الغذائي والأمن البيئي..) ومن أجل الخلاص من الموت الأسود المدمر والموت الغامض المفتك بالبشرية هي التي لها معان دالة بين الناس ومعان أكثر وضوحا متصلة حقيقة بالعلم الصحيح وبتوازن الكون، والذي ينبغي للمرء تقدير انضباط مبادئها ومرجعياتها وسمو أنظمتها. والحقيقة أني كثيرا ما استفهمت - في ظل هذا الواقع المقلق، والذي ينبغي للجميع أن يتقاسم الوعي بأهمية التضامن وروح التعاون في إطار الوطن الواحد، والإقليم المشترك، والانتماء الإنساني الموحد... - ألم يحن الأوان لتسمية حكومة طوارئ ببلادنا ؟ إن تعذر (...) توحيد الرؤى إقليميا أو قاريا..؟ خصوصا وأن المغرب كانت له قرارات استباقية جريئة غاية في الأهمية، حتى أنه ضحى بكثير من الأولويات - إن جاز القول - لمحاصرة تمدد جائحة كورونا المستجد هذا (COVID-19)، ويمكن القول إنه حاصر الجُل ليحفظ الكُل. ويحضرني ما ورد عن الجاحظ في البخلاء: "من لم يجد مواقع السرف في الموجود الرخيص، لم يجد مواقع الاقتصاد في الممتنع الغالي"، لأؤكد على القناعة بضرورة الالتزام بالمبادئ الأساسية للقيم الحية المتصلة بالتاريخ والتجارب والأعراف الأصيلة والرؤى الناجعة النبيلة التي أثبتت فاعلية وتأييداً وطنيا واسعا، ويتجلى مكمن وعمق القيم الحية هذه في ما يمكن نعته بمسالك أو شعب الإخاء، والتي تتضح في المؤسسات المتصلة بالبيئة والإنسان وأمنهما العام آنياً ومستقبلياً اتصالا متواصلا غير منقطع. ويمكن تسميتها حكومة ضرورة، تماشيا مع الظرفية الخاصة اقتصاديا واجتماعيا، مؤسسة من الوزارات التي تشكل "مسالك أو شعب الإخاء" في التعبئة والإنتاج والتوعية الصحيحة والمواكبة والأمن والإنقاذ والدفاع والتخطيط المحكم، ومكونة من شخصيات وأشخاص تتوفر فيهم شروط الكفاءة والنزاهة والقدرة على الإبداع والعطاء وقلة الكلام، بعيدا عن المصالح الذاتية أو الحزبية أو غيرهما من مظاهر الأنانية والانتهازية والوصولية.. وحب الانتقام وغير ذلك، وفي مقابل إلغاء - أو على الأقل تجميد - المؤسسات "الفائضة" أو الثانوية أو الريعية... وسيكون تأييدها بالمساندة والدعم والتشجيع والطاعة هي الوطنية بلا ريب، وهذا سيساعد بشكل أكبر وبجدية أعلى على التأسيس للأفق المنظور من حيث منظومات صحية، وتربوية، وبيئية، وأمنية أكثر نجاعة، ونهضة علمية واقتصادية واجتماعية طبعا. وانطلاقا مما ورد عن ابن رشد بقوله في الطبيب أنه "فيلسوف ضرورة"، وقد رمى بالفلسفة معرفة الحق (فيما هو طبيعي)، بيد أن الفلسفة في هذا المقام يمكن أن يتسع معناها إلى أكثر من "معرفة الحق".. إلى الاهتداء بالحق والتشبث به والانصياع له والتربية به ومن خلاله والاستناد إليه تعليما وصحة وبحثا علميا وبناء مؤسسيا عاما وشاملا..