لا شك أن العالم يعيش مرحلة صعبة جدا بسبب جائحة كورونا (كوفيد-19)، ولا شك أن العالم سيعرف فترة انتقالية ستؤدي إلى إعادة النظر في كثير من المفاهيم ومراجعة ترتيب الأولويات لدى الشعوب والأمم. ونحن قابعون في منازلنا تلبية للركن الرئيسي للحجر الصحي، وهذا أكبر معروف نقدمه لبعضنا البعض، تتاح لنا فرصة التأمل والتفكير. مئات الآلاف من الضحايا ثمن باهض ستؤديه البشرية نتيجة هذه الجائحة، والأكيد أننا قادرون على استنتاج الدروس والعبر. مغاربة العالم يتابعون بفخر وامتنان كل الجهود المبذولة من طرف السلطات المغربية، ويعتزون بالاستراتيجية الوقائية والاستباقية التي نهجتها. محطات عدة في هذه الاستراتيجية لها بعد إنساني كبير، بداية من إحداث صندوق خاص بتدبير جائحة كورونا، إلى إطلاق سراح 5654 سجينا، ثم توفير الكمامات الوقائية لكل المواطنين بثمن زهيد. تسجيلات مرئية تنقل من كل بقاع المغرب وتبث مباشرة على المواقع الاجتماعية من طرف المواطنين تترجم مدى التضحيات المبذولة من طرف الساهرين على الحجر الصحي. وبطبيعة الحال هناك أيضا تحديات أخرى تنتظر تدخل السلطات والمسؤولين، وعلى سبيل المثال المغاربة العالقون خارج الحدود، ومن الضروري ايجاد حل عاجل لعودتهم إلى أرض الوطن والالتحاق بذويهم، والظروف الحالية استثنائية تتطلب حلولا استثنائية. لكن اليد الواحدة لا تصفق، ونحن في حاجة إلى اليد الأخرى التي تكمن في التشاركية من طرف المواطنين. المواطنة الحقيقية دائما تجمع في توازن بين الحقوق والواجبات. كمواطنين حان الوقت للخروج من فقاعات الهواء، والاندماج في مجتمعاتنا، وهذا يتوافق مع الحفاظ على ثقافتنا وجذورنا في مجتمع متنوع وعالم معولم ومتغير. والفترة الراهنة تؤكد ضرورة الفكر والعمل الجماعي ولا مجال للفردية. ثم في هذه الأوقات العصيبة، لا بد من الحيطة ممن يحاولون استغلال مآسي الآخرين لمصلحة شخصية، وممن يداولون أخبارا زائفة، فالوقت غير مناسب لتصفية الحسابات. هذه الفترة تتطلب منا الانضباط وبعد النظر. فلنتآزر بعضنا البعض ولنقف أيضا إلى جانب مؤسساتنا ومن يخدموننا، ولنقدر ما يقدمونه من أجل التخفيف عنا من تداعيات هذه الأزمة الصحية، فعند الشدائد تظهر معادن الناس والدول. هذه الجالية التي باتت تعيش قلقا مضاعفا أمام ارتفاع ضحايا الجائحة في بلد المهجر والوطن الأم. اليوم ونحن محاطون بغبار كثيف ناتج عن تسارع وتيرة الأحداث، يحجب عنا رؤية موقعنا في زمن ما بعد كورونا، إلا أنني لن أكون مبالغا إذا قلت إننا سنعرف تحديا جديدا له علاقة مع مستقبل أبنائنا. نجاحنا في المهجر لن يقاس بالأموال التي كدسناها في البنوك ولا بعدد العقارات التي نملكها، بل بدورنا في المجتمع وبنجاح وصلاح أبنائنا بتمكينهم من تربية وتعليم يضمنان استقلاليتهم، واندماجهم، وفعاليتهم في المجتمع، وهنا أتذكر مقولة لابن رشد: "العلم في الغربة وطن والجهل في الوطن غربة". التعليم عن بعد سيكون حاضرا في تعليم أبنائنا، ليس فقط أثناء هذه الأزمة، لكن إقراره في المنظومة التعليمية سيعرف سرعة قصوى. ولا بد لجاليتنا أن تبذل الجهد الكبير لتخطي هذا التحدي، فتعليم وتربية أبنائنا لا بد أن يكون من أولوياتنا. وأنا أكتب هذا المقال توصلت من صديق لي بقصة قصيرة للأديب البرازيلي "باولو اكويلو"، لم أجد أحسن منها لختم المقال. القصة تقول إن رجلا كان يقرأ جريدة ولكن ابنه الصغير كان يزعجه، فقام الرجل بتقطيع ورقة من الجريدة إلى أجزاء صغيرة، وكانت تلك الورقة تحوي خريطة العالم، ثم طلب من ابنه أن يعيد ترتيب الخريطة، ظانا أن الطفل سيبقى مشغولا طيلة اليوم، إلا أنه لم تمر سوى دقائق قليلة حتى عاد الطفل وقد أعاد ترتيب الخريطة. فسأله أبوه مذهولا: هل كانت أمك تعلمك الجغرافيا؟ فأجاب الطفل: لا، لكن كانت هناك صورة الإنسان في الوجه الآخر للورقة، ولما أعدت بناء صورة الإنسان، أعدت بناء العالم أيضا. *أستاذ باحث بجامعة ألميريا (إسبانيا)